بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/30

النعش الأخضر

«أيها الموت انتظر ! حتى أعدَّ / حقيبتي: فرشاة أسناني، وصابوني، وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثياب / ويا موتُ انتظر، يا موت، / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع...»
مات محمود درويش الفلسطيني المعتقل بالذكريات داخل / خارج الوطن المتكرّر في المذابح والأغاني... الفلسطيني الذي فكّ طلاسم هويته الموزعة من مطار الى مطار ومن فندق الى فندق...


مات محمود درويش وهو متهم بالتجريد وتزوير الوثائق والصور الشمسيّة وهو يصرّ على رسم شكل فلسطين المبعثرة بين الملفات والمفاجآت... فلسطين المتطايرة على شظايا القذائف وأجنحة العصافير... المحاصرة بين الريح والخنجر...
اسم محمود درويش السري هو محمود درويش أما اسمه الأصلي فقد انتزعته سياط الشرطة وصنوبر الكرمل عن لحمه وتركت له هوية تتكئ على الريح... وقامة صقلتها المسافات وتذاكر السفر... وممرات تحتشد بالفراغ...
مات محمود درويش وهو يُحاول ان يذكر اسمه الاصلي بلا أخطاء ويفك الحروف والحركات عن اللحم الحيّ... ويكفّ عن الكلام لكي يصف نفسه.... مات ابن حوريّة وهو يحاول ان يستجدي فلسطين كي تعلن براءته منها ليكف عن الموت أو تعلن انتهاء عقْد الشغف بينهما ليصير قادرا على الرحيل...
طالت حالة احتضار محمود درويش وهو يتحفّز للموت على حافة الحلم كما يتحفّز الشهيد للموت مرّة أخرى تاركا لحمه مشاعا للجنود مثل سطوح المنازل وهاهو يموت وهو بعدُ صامدٌ في الهزيمة وعدوّه صامدٌ في نصره...
يغادر درويش وجهه نحو قلبنا ليعلن قصته والحرائق تنمو على زنبقة، يغادر ليعلن صورته والصنوبر ينمو على مشنقة... يعلنها بعد ان سرق من جرح الشهيد القطن ليلمع اوسمة الصبر والانتظار لينهمر منه الحبر خلف جداول الدم...
يغادر درويش بعد ان تعلم اللغات الشائعة... متاعب السفر الطويل... النوم في القطارات البطيئة والسريعة... والحب في الميناء والغزل المعدّ لكل النساء والشوق المعلب... غادرنا بعد أن علّمنا تربية الأمل ومراسم الوداع... وهو يسبق كل المتعاطفين الذين يعدّون له قبرا مريحا... يسبقهم ويزغرد في عطفهم الكلامي الغوغائي الخطابي... المنافق بدءا ومنتهى... يزغرد ويسألهم من مات؟... لمن تحفرون هذا القبر؟ وهذه الشاهدة على من تدلّ؟ ولمن ترفعون هذا النعش؟؟؟
بين كرنفال الشعر وشهوة النثر أبصر محمود درويش في الكمنجة هجرة الاشواق من بلد ترابي الى بلد سماويّ وأجلس الموت على بلور أيامه كأنه واحدٌ من أصدقائه الدّائمين انتظره ـ كما طلب منه ـ عند باب البحر في مقهى الرومانسيين وانتظرهُ كي يودّع داخله في خارجه ويوزّع القمح الذي امتلأت به روحه والأرض التي امتصته ملحا... انتظره الموت شعرا ونثرا ولما تذكّره وهلّ عليه في مرضه أخذه بابتسامة عريضة وزف في أذنية جملته الشعرية:
«هزمتك يا موتُ الفنون جميعها».

2008/08/29

القاموس الفرنسي وعبء الانسان الأبيض


شهدت الساحة السياسية والثقافية الفرنسية جدلا واسعا بشأن تعريف مصطلح «الإستعمار» الوارد في النسخة الجديدة لأشهر قاموس فرنسي وعالمي «le petit Robert « ، إذ قدّم هذا القاموس تعريفا للإستعمار على نحو استفزازي بغيض، على الأقل للشعوب المستعمرة سابقا والتي لاتزال تعاني إلى الآن ويلات التدخّل في حق تقرير مصيرها، حيث يشرح هذا القاموس مفهوم الإستعمار على أساس أنه «إعادة الإعتبار واستغلال وتنمية البلاد التي تحوّلت إلى مستعمرات».!!!
ولئن سيتكبّد «آلان ري» ناشر القاموس، خسائر سحب كل النّسخ الموزّعة على المكتبات والمتوفّرة بالأسواق، خاصة أمام الحملة التي تشنّها عليه «الحركة المعارضة للعنصرية والصداقة بين الشعوب» الناشطة في مجال حقوق الإنسان، فإن الخلفية الإستعمارية ونزعة الهيمنة والحنين الفرنسي/الغربي إلى ماضي الإستعمار والإستغلال يبدو أنها لم تخبو بعدُ، كما أنّه لن تُجدي نفعا ـ في ستر عورة الذهنية الإستعمارية ـ محاولة هذا الناشر ـ إن أقدم عليها ـ بإضافة تعديلات على مصطلح الإستعمار بما سيقتطعه من نص الكاتب «الأسود» ايمي سيزار، مثلما لم تُجد نفعا محاولات الحكومة الفرنسية في تهدئة الجاليات بخصوص قانون فيفري المُمجّد للإستعمار ابّان الأحداث التي حصلت في فرنسا في الأشهر الماضية.
والإستعمار لا يختلف عاقلان على أنّه يتّصف بالسيطرة السياسية وبالقوة العسكرية على سكان بلد معين بهدف استغلالهم أو تكوين احتياطي منهم لإقامة امبراطورية في الخارج وذلك في اطار تقاسم العالم بين بعض القوى الرأسمالية (أواخر القرن التاسع عشر)، على أن الحركة الإستعمارية رافقت مراحل التّوسع الرأسمالي منذ نهاية القرن الخامس عشر. وقد أخذ الإستعمار تسميات مختلفة لتبرير طبيعة تدخّل الدول القوية في شؤون الدول الضعيفة، مثل الإستعمار الجديد وشبه استعمار واستعمار مباشر واستعمار غير مباشر... لتبقى بالأخير الوضعية الإستعمارية مُحدّدة بالعلاقات القائمة على الإضطهاد السياسي والنهب الإقتصادي والتوجيه الثقافي والتشويه الحضاري. ولئن نجح الإستعمار في احتلال بلدان وفي طرد سكانها الأصليين بل وفي ابادة شعوب بأكملها، فإنه أدخل بالمقابل، عديد المجتمعات في طور التّشكل أو في إعادة التّشكل والتّحرّر الوطني من خلال حركات المقاومة والمناهضة التي تستعر هنا وهناك...
فهل لنا أن نعزل التفسير الجديد للإستعمار الذي يقدمه القاموس الفرنسي لمستخدميه عن الرغبة الجامحة لدى فرنسا و الدول الغربية لإعادة تاريخ الإضطهاد والإستغلال تحت حجّة «اعادة الإعتبار وتنمية المستعمرات»؟؟ وهل لنا أن نفصل تهاطل الجيوش الأممية وقوات اليونيفال (استعمارية الأصل) في لبنان ودارفور والصومال وأفغانستان ... عن ذهنية السيطرة والإحتلال من جديد ؟؟
إن الإختراق الثقافي الذي يُمهّد للتدّخل، ومن ثمّة السيطرة العسكرية، ليس بدعة جديدة تبدأ مع «آلان ري» سليل نابليون بونبارت، بقدر ما يُمثّل استراتيجية قديمة ونمط تفكير «تيموسي» يُبرهن كل مرّة على نجاعته وفاعليّته، وأسوأ ما في هذه الذهنية أنّها تجد لها تربة خصبة لدينا نحن العرب لطبيعة تعاملنا القداسي مع مقولات الفكر الغربي عموما والفرنسي خصوصا وأيضا لطبيعتنا الدفاعية الإنتكاسية في مواجهة القوى الخارجية.
ففرنسا التي أبهرت علماءنا وجعلتهم ينتفضون في عمائمهم على «عقمنا العقائدي» وعلى «سلوكاتنا البدائية»، وفرنسا التي كوّنت محرّرينا وانتلجنسيتنا العربية ونخبتنا اليسارية في خمسينات القرن الماضي، هاهي تتحدّى مرّة ثانية رغبتنا ـ كشعوب اضطهدتنا فيما مضى ـ في بناء دولتنا وقوميتنا وهويتنا بعيدا عن أية وصاية فرنسية أو أمريكية أو يابانية وبعيدا عن رد الإعتبار المزعوم هذا الذي يسوّقه لنا هذا القاموس...
فهذا التفسير الجديد/ القديم لمفهوم الإستعمار الذي يقدّمه قاموس «le petit Rober» انّما يؤكد على مقولة «عبء الإنسان الأبيض»، بمعنى أنّه يوحي بضرورة استمرار «رسالة المتقدم في الأخذ بيد المتخلف» وبضرورة «اعادة الإعتبار» للشعوب المتخلفة من قبل الشعوب المتقدمة...
وهذه الإستراتيجيا الإستعمارية بغطائها الأخلاقوي تتغذّى من أطروحة فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الذي يمجّد في متنه «مجتمع النّمور النّيتشوي»، المتكوّن أساسا من «القبيلة البيضاء والشقراء وربّما الصفراء كذلك»!!!

2008/08/27

معاريج السجود

إن كان حقا أو خيالا فهو وثب للضياء
وتحرر مما جناه طين ادم في الدماء
إبراهيم ناجي

************
وجه أصفر كالح منتصب فوق هيكل عظمي يكابد بضع كيلوغرامات من لحم ادمي متيبس. عينان غائرتان في محجريهما يتناوب على بياضهما جفنان ثقيلان ونظارة سميكة. اضمامة أعواد عشرة يابسة هي أصابع اليدين الممدتين فوق الطاولة البنية المتهالكة. كل ضلع فيه يابس كالح ينبئ بالفناء. وحدها جمجمة الرأس كانت مرجلا تغلي بعنف ولا تطبخ إلا الأنفاس الحارقة، ووحده مشهد الدم القانئ يغمر العينين كلما ارتفع الجفنان.
دم متجمد على الجدران. يسيل فوق الطاولة. يتخلل سيقان الكرسي. يلطّخ الأوراق المبعثرة من حوله ويغمر شاشة الحاسوب... دم غزير يندفع باتجاه المحجرين بلا هوادة أين ما نقّل بصره.
الجسد أصفر يابس والدم أحمر يتفجر مدرارا، والجمجمة مثل قطعة حبل شاردة وسط أودية الدم المتلاطمة.
وكما يحدث في القصص والروايات، عندما يحوّل الكاتب فجأة بطله ألورقي إلى شخص أسطوري وحكايته إلى أمثولة سرمدية، وبذات المفردة تقريبا، فجأة، تحولت شلالات الدم الهادرة إلى أشباح وخيالات آخذة أشكالا ورموزا وصورا مختلفة، تظهر على الجدار الأبيض الذي يقابله تماما. تتتالى مشاهد الدم سريعا ثم تتآكل واحدة اثر أخرى، وتتحلل رويدا رويدا لكأنها تسقط في جوف جبل عظيم. ظل مشهد واحد يتكرر كل مرة. قافلة عظيمة من الدواب تسير بتؤدة حاملة جرارا عظيمة مملوءة بالدم ذاته، وكان هو محشورا بين تلك الدواب، يسير على شاكلتها. يرفس الأوحال بمنكبيه وكوعيه، وعمود ظهره النحيل يكاد ينقصم لشدة ثقل الجرار المتماوجة دما.
وان حدث وسقطت دابة وسط الأوحال فإنها تتمرغ وتتخبط هنيهة من الزمن ثم تُداس بحوافر الدواب اللاحقة من دون أن يتوقف نسق السير، وتصير بعد رفسات غير كثيرة عجينة دم وطين. و كثيرة جدا هي الدواب التي تحولت إلى مثل تلك العجينة وخاصة منها تلك الهرمة التي لم تعد تقو على حمل جرار الدم، إذ تظهر في الدرب الطيني رؤوسها ناتئة وجثثها مرفوسة راسمة مرتفعات وتلالا صغيرة تزيد الدرب تعرجا أكثر.
كاد يفقأ إحدى عينيه بعظم إصبعه ليتثبت من هامته محشورة وسط جموع الدواب المتراكضة.
كانت الدواب تتدافع وتتصايح وتصطدم ببعضها البعض في اتجاه نقطة سوداء، كان رسمها يتوازى على الحائط مع ثقب مفتاح باب مكتبه. تسير الدواب حينا وتركض حينا آخر نحو مصب عظيم، غير آبهة بأوحال الطين التي تعلق بحوافرها كلما انغرست في الدرب المتعرج. تسير وتركض والدم يتناثر على مساحة الجدار الأبيض كلما كانت رفسة الدابة أقوى وأعنف. كانت رفساتها أعنف من وقع حوافر فرس حرون تخلصت من سلاسل مربطها.
ترفس الدواب طين الدرب المتعرج وتتناهى إلى مسامعه طقطقة الأغصان اليابسة وحفحفة الأوراق الجافة تنهرس بفعل الرفس العنيف فترف بروق خاطفة من الدماء فوق الجدار الأملس، فتلطخ بياضه وتلطخ ملابسه ووجهه والطاولة المتهالكة.
تتحرك اليدان في ارتعاشة محمومة باتجاه ثقبي الأذنين لينغرس وسط كل واحد منهما إصبع يابس عساه يُوقف تدفق الدماء. يطبق الشفتين بقوة غريزية حتى يعلوهما بياض شاحب، خشية فيضان الدم من بين الأسنان المصطكة. تكتسحه قشعريرة باردة وترتعد فرائسه خوفا من هيجان الدم الهادر تحت جلده الكالح. تعتريه حرارة حارقة أسفل بطنه، فيخنق عضوه التناسلي بكلى يديه ويمعس الخصيتين بشدة خوفا من أن يتبول الدم. يهصر بشدة إلى أن تمزق أظافره قماش السروال، فيتلمظ بلسانه الجاف سيول العرق النتنة تتفصد من جبينه وتتفجر عيونا غزيرة تحت إبطيه وتنز من ثقوب صدره وظهره لتبلل قميصه الأزرق الشفاف، فتفوح روائح عطنة في أرجاء المكتب.
يهرول نحو النافذة، يشرعها على الشارع الفسيح عله يتخلص من رفس الدواب وتدفق الدماء فيجف طوفان العرق المتفجر من مسامه. تلفحه نسمة خفيفة فتنتعش مفاصله. يبتلع ريقه المتيبس في حلقه بصعوبة ومشقة، ويجول ببصره على امتداد الشارع بمبانيه الشاهقة والمتشابهة، فتتبدى له آلاف النوافذ مشرعة والرؤوس الآدمية تتدلى من الطوابق العليا والوسطى ومن كل النوافذ والثقوب المفتوحة على الشارع الفسيح.
يُزلزل بلور النافدة وسط المكتب وهو يطبقها بعنف في وجه الشارع، ويعود إلى طاولته ليلفي وجهه من جديد في وجه الجدار الأبيض. تجول برأسه أفكار بليدة وتنهشه أسئلة حارقة ومندفعة اندفاع تلك الفرس الحرون: أيكون كل الموظفين غارقين في الدم ! أتكون ظهورهم قد انقصمت، وتدشدشت لثقل جرار الدم ! أتبولت أعضاءهم التناسلية دما متخثرا وانفلقت خصياتهم لشدة المعس!!
لم يكن لينتبه للصوت الأجش لحارس الإدارة يخبره أنه الموظف الأخير الذي لم يغادر مكتبه، لو لم يضرب الحارس البدين خشب الطاولة بقبضته. يستفيق مذعورا من دوار الأسئلة اللاذعة، وترتبك يداه لحظة تجميع أوراقه المبعثرة وترتيب قميصه وسرواله. لم يتمالك نفسه وهو على مدرج مبنى الإدارة ينط فوق الدرجات الرخامية بحركات بهلواني غير ثابت فوق حبل السير العالي. تنفرط اضمامة الأوراق من بين أصابعه المرتعشة وتتناثر أمام عتبات الطابق السفلي للمبنى وفي الرواق المفضي إلى باب الخروج، حيث تزدحم حركة الشارع بالموظفين العائدين من إداراتهم في مثل تلك الساعة.
كانت أوراقه كثيرة، ملفات مواطنين ومواطنات لم يطلع عليها بعد. أوراق أخرى لأبنائه كان قد سحبها من مواقع الكترونية مختلفة، حول اختراع المحرك البخاري وتاريخ الحيوانات المنقرضة، وأخرى حول مستجدات مسار السلام في فلسطين وتطورات الحرب على العراق اختارها ليجتر معلوماتها ككل يوم في انتظار أخبار الثامنة مساءً ... وثلاثة مجلات مختصة في الأزياء والمأكولات لزوجته. لم يتفطن لوضعه ذاك وهو يسقط بمنكبيه إلى الأرض ويلاحق الأوراق المتناثرة يمنة ويسرة وهي تبلغ رصيف الشارع الفسيح وتبدأ في الطيران مع هبات الريح في ذلك المساء. كانت رائحة قدميه تنخر أنفه وهو يركض على منكبيه وكوعيه خلف الأوراق المتناثرة. لم يأبه لسيره المتعرج فوق الرصيف المحاذي للأبواب البلورية للمؤسسات والإدارات المغلقة، ولا إلى هيأة الانحناء والتقوس التي لمحها منعكسة على البلور.
ظل مشغولا بتلويح يديه خلف الأوراق التي تتسرب بين أقدام الرجال والنساء المهرولين في اتجاه محطة الحافلات. يدس الورقة التي يقتنصها كيف ما اتفق في جيب سترته ويلاحق ببصره الورقة التالية. أنسته فرحته بتجميع نصف الأوراق المتطايرة طول المسافة بين إدارته والمحطة التي وصلها على أربع مثل عنزة شُغلت بمسرب عشب أخضر يحاذي مجرى واد أجرد.
كان وضعه مضحكا لدرجة أن الناس تركوا له المصعد الخلفي للحافلة فارغا ليصل إلى المتبقي من أوراقه التي زفتها الريح إلى المقاعد الجانبية داخل الحافلة.
عندما تحركت الحافلة كان قد جمع الأوراق التي استقرت لحين فوق المقاعد المهترئة، والتفت إلى الأوراق المتناثرة وسط الحافلة يلتقطها وهو على نفس وضع السجود الذي خرج به من أمام جدار مكتبه. كان يجمعها وسط الحافلة وهو يستلذ نفحات الدفء التي تغمره كلما لامس فخذا أو مؤخرة سمينة. يلتقط الورق بيد وبأخرى يعدل وضع نظارته السميكة عله يظفر بأطراف فخد أنثوي مكشوف من تحت فتحة أحد الفساتين. انشغل عنه الركاب بأحاديثهم الجانبية ونظراتهم الشاردة خلف بلور نوافذ الحافلة، التي بدأ محركها يكابد مرتفعات الطريق وثقل الركاب المزدحمين، الذين تتضاعف أعدادهم ساعة خروجهم من الإدارات والمؤسسات والمعامل والمصانع.
كادت محنته أن تنتهي ذاك المساء، عندما شارف على القبض على آخر الورقات المستلقية تحت الأحذية وبين الأرجل وسط الحافلة، لو لم يكبح السائق فرامل العجلات فجأة عندما باغتته بهيمة عرجاء تدب بتثاقل بليد عند أحد المنعطفات. كانت حركة السائق كافية لتُسقط أغلب الركاب الواقفين على مناكبهم وأذرعهم، وكان التعب والإرهاق الذي يعانونه من الصباح إلى المساء كافيا ليثبط عزائمهم عن الوقوف والاستقامة وسط الحافلة التي استأنفت سيرها، فظلوا هكذا سجودا يواصلون ثرثرتهم حول تبدل أحوال الطقس في ذاك اليوم، ويقذفون السائق بمختلف الشتائم واللعنات لسوء تحكمه في الحافلة.
كان سينهض من على منكبيه وكوعيه بعد أن بلغ آخر الورقات الطائشة، لو لم تسقط فوقه وبجانبيه أكوام اللحوم الآدمية وتصير مثله كالدواب المتناطحة بين أسلاك زريبة ضيقة. كان سينهض ويقف على قدميه لينزل من الحافلة ككل البشر، لو لم تبلغ هذه العلبة الحديدية اللعينة المحطة النهائية لخط سيرها.
عندما همد المحرك وانفتحت أبواب الحافلة الخلفية والأمامية لم يجد بُدا من تحمل الركلات ومقاومتها التي كانت تدك كل ضلع من جسده النحيل من مختلف الاتجاهات. ركلات طائشة من أحذية الرجال المعفرة بأوساخ الطرق والأزقة. وخزات لاذعة من كعاب أحذية النساء تستقر مرة على إسته وأخرى تحت كليته و ثالثة تكاد تفقأ إحدى عينيه. وهو يجاهد الركض خلف الركاب المندفعين على مناكبهم وأذرعهم نحو بابي الحافلة. لم يتنفس إلا عندما نط فوق درجتي الباب الخلفي كخنزير بري يهرب من طلقة طائشة.
لم تكن المسافة الفاصلة بين منزله والمحطة النهائية طويلة. لم يعد يقوى على تقويم عموده الفقري الذي اتخذ شكل السجود والانحناء مذ نزل مدرج إدارته، فلم يجد عيبا أو حرجا في قطع المسافة المتبقية، سيرا على منكبيه وكوعيه، وقد سبقه الكثير من ركاب الحافلة على أربع من الحافلة واصلوا سيرهم بنفس الوضع في اتجاه منازلهم فرادى وأزواج، منهمكين في أحاديثهم، متسترين بالظلمة التي بدأت تغطي السماء فوق ظهورهم المنحنية.
عندما بلغ باب المنزل مرفوقا بنباح الكلب الذي اعترضه في منتصف الطريق، تناهي إلى سمعه صوتُ تكسر عظام ظهره وهو يحاول رفع يديه نحو الثقب الأسود لقفل الباب، وشاهد خطوطا متعرجة لدم حار تسيل فوق العتبة الإسمنتية من ركبتيه اللتين تورمتا تحت السروال الممزق ومن راحتي يديه

2008/08/26

يا ذراعي كلمني

تعيش العاصمة ، وكذلك أغلب ولايات الجمهورية، حركة بناء وتعمير عمراني ومؤسساتي بالأساس، إذ تنتشر حضائر البناء في كل المناطق : بنوك وشركات، مدارس ومعاهد، مستشفيات ومصحات، وتعترضك الرافعات هنا وآلات الخلط هناك وفي بعض الأماكن تسمع صياح بعض العمال وهم ينادون بعضهم بعضا، حاثين المتواكلين منهم على التفاني في البناء والتشييد والتعمير...
والنسبة الكبيرة من أيادي البناء والتشييد هي سواعدُ الشباب، الطلبة والتلاميذ وخاصة خريجي الجامعات أصحاب الشهائد العليا الذين لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بوظائفهم التي لأجلها تعلموا ودرسوا وسهروا الليالي الطوال...
هذه الفئة الكادحة في حضائر البناء بعد أن كانت تمني النفس بجني ثمار تعبها وتعب عائلاتها ، يتضاءلون كحب الزيتون أمام ارتفاع تلك المؤسسات والشركات، إذ بمجرّد أن تكتمل بناية ما وتجهز بأحدث التقنيات وبالمكيفات والكراسي الدوارة تنسحب منها الكفاءات العلمية بحثا عن حضيرة أخرى تؤمن لهم أياما معدودات لا يعلم قساوتها إلا من يعيشها، وبالمقابل تفتح أبواب نفس المؤسسات لفئة أخرى من الشباب لكنها تمتلك العصا السحرية في ايجاد حلول للأزمات العابرة، إذ يُنتدب لمكاتب تلك البنايات ابن عم المقاول وابن خالة المدير وابنة جار رئيس المصلحة وكل أبناء وبنات صلة الرحم الوظيفي وغيرهم يظل كالجراد يهيم من عطالة الى أخرى ومن نكد الى نكد...
قد تكون هذه تأويلات مغرضة لا صحّة لها، وقد يكون قلمي مهوسا بتحبير السواد وترصيف الأفكار البائسة والمحطمة للآمال... وقد ... وقد ... ولكن يبقى ما كتبته شيئا من الواقع الذي نعيش فيه يوميا ونعرف تفاصيله ودقائقه، فما من عائلة تونسية إلا وتحوّل ابن لها أو ابنان من مدارج العلم والمعرفة الى حضائر البناء والتشييد ... وما من حضيرة بناء تقاطرت على حجارتها واسمنتها حبات عرق شاب يحمل شهادة جامعية إلا ولفظته بعد ان ارتفعت وعلت ، مثلما تُلفظ النواة ... وفي أفضل الأحوال يتم انتدابه عبر شركة مناولة ليحرس البناية ليلا ونهارا بأجر زهيد...
ربما أغنية التونسي الأزهر الضاوي هي الأكثر تعبيرا عن هذا الوضع الذي يعيش فيه مئات المتخرجين في الحضائر ومشاريع البناء ... تقول كلمات أغنية الأزهر الضاوي «يا ذراعي كلمني، جاوبني واعطني التفسير، ها الحيط اللي بنيتو كي تعلّى خلاني قصير ... نبني قصور السادة ونسكن في حكك القصدير ... يا ذراعي ... يا ذراعي...»

2008/08/25

مَـقَـــامُ مَقـــــال

جاء ضمن تقديم سلسلة «مَقَامُ مَقَال» التي يديرها الدكتور التونسي العَادل خضر وتصدر عن دار المعرفة للنشر لصاحبها المثقف بَدر الدّين الدَّبْوسي، انها «سلسلة جديدة في دار المعرفة للنشر، تفتح أبوابها للأقلام المبدعة وذوي العقول المدبّرة، للإقامة معهم في رحاب الفكر، وهي قبل كل شيء دعوة للكتابة المفكّرة الجَذْلَى التي ترحل بالقارئ الى حدائق المعرفة المرحة وتحمله في سفرة بعيدة في دنيا الأفكار حيث يسمع في كل مقام ما يُحتَدُّ به النَّظر، ويذوق من كل مقال عسل الفكر
وهذا التعريف على ايجازه يكتنز كثافة دلاليَّة وفائضًا في المعنى والإحالة خاصة على طبيعة مهمة هذه السلسلة الجديدة والتي تتحدَّد ملامحها من خلال ثلاثة «بُنُود» ان شئنا، وهي الأقلام المبدعة والكتابة الجذلى ورحلة القارئ. وفي تقديري فإن هذا «العقد» ببنوده الثلاثة لم يُخَط على عَجَل بقدر ما يُوحي بأن رهان السلسلة واستراتيجيتها في مجال نشر الكتب واضح المعالم وذو رؤية استشرافية يتلخصان في شعار سلسة مقام مقال القائل «مَقَامٌ للضِّيَافَة، ولكنَّهَا مَقَالٌ للإضَافَة».ومن دون الإسهاب في التحليل والاطناب في التأويل فإننا سنكتفي بايضاح ما أسميناه «بنود» السلسلة وتبيان مدي أهميتها مقارنة براهن وواقع نشر الكتاب في تونس.فالأقلام المبدعة والعقول المدبّرة الذين يستضيفهم مقام دار المعرفة لا يمكنهم ان «يجثموا» على دار النشر مثلما يحدث في دور النشر الأخرى، فأغلبهم جامعيون وأكاديميون دَيْدَنُهُم الكتابة المُضيفة والنَّوْعيَّة لا الكمية، وجلهم يستغرق أكثر من سنة على الأقل في إعداد بحث أو قراءة نقدية ثم يفكر في نشرها، وهم بالضرورة ليسوا متلهّفين على نشر خمسة «كتب» في السنة الواحدة مثلما تطالعنا بعض الاسماء / المؤسسات.أما الكتابة الجَذْلَى والمرحة فهي حتما تلك التي تفتقدها أكداس الورق المكدَّسة بواجهات ومخازن المكتبات، إنها الكتابة المختلفة المؤَسِّسَة والمؤَسَّسَة لسياق معرفي مغاير، الكتابة المغامرة التي تجترح الأسئلة وتطرح الفكر الاشكالي، الكتابة النَّاقدة المرتحلة في أقانيم الفكر والمعارف... أنها الكتابة التي يمكنها ان تضفي على المدوّنة التونسية الحديثة سمة النوعية والإضافة في علاقة بالإبداعات العربية الأخرى المتقدمة في درب الإختلاف مثل المغرب والجزائر ولبنان...أما رحلة القارئ ـ رغم بوادر انقراضه ـ فهي حتما رحلة ممتعة ومفيدة، رحلة يؤمّنها حرصُ مدير السلسلة الدكتور العادل خضر على حسن اختيار النصوص المنشورة، وهو مؤهل لذلك عارف بحديث القراءات وقديمها، جامعي ومثقّف، مثقف متحرّك وديناميكي همّه الأول الثقافة وليس الادارة، كما يؤمن رحلة القارئ التونسي والعربي عموما هاجس مدير دار المعرفة السيد بدر الدين الدبوسي هو المغامرة والمراهنة على كتابة تاريخ مكتبة... تاريخ أكبر من رفوف خشبية متآكلة وهو ما نجح فيه فعلا بشهادة مكتبي مغربي دخلت مكتبته قبل سنتين في الرباط فلم أعثر فيها على كُتب الشَّعوذة واللاّهوت والأبراج، وبتجاذب الحديث معه قال لي بالحرف الواحد إنه «يُقَاومُ الَجهْلَ مثْلَمَا تُقَاومُهُ مَكْتَبَةُ المَعْرفَة الجَذْلَى بتونس».سلسلة «مقام مقال» بما أصدرته من كتب وأبحاث جامعية وبما ستصدره في قادم الأيام من كتب قد تنفتح على الابداعات النوعية في السرد والشعر التونسيين، تؤلّف «نصوصا مضيافة للإسهام في كتابة رواية متعددة الأصوات لا تقولوا لنا ما أشبه اليوم بالبارحة فحسب ولكننا سمعناها تقول لا ينبغي أن يكون غدنا شب

2008/08/23

حوار مع امين عام المؤتمر القومي العربي معن بشور

كيف يكون ليبراليا من لا يكون مدافعا عن حرية وطنه وحرية شعبه؟!

قيادي في حزب البعث حتى عام 1975، امين عام المؤتمر القومي العربي، احد مؤسسي المؤتمر القومي/الاسلامي، احد مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الانسان، المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان، منسق الحملة الاهلية لنصرة فلسطين والعراق في لبنان، المشرف العام على مجلة "المنابر" الثقافية.. كل هذه المهام يرفعها الاستاذ معن بشور على عاتقه، ايمانا منه ان النضال الحقيقي هو التشابك العملي للخطوط الممكنة وللاحتمالات المطروحة امام المناضل الصادق.. يحملها ولا ينوس بها أنّي ولى وجهته في مشرق الوطن العربي او مغربه
...

* بدءا، كيف يمكنكم ان تحملوا للقارئ تجربتكم السياسية اثناء تنظّمكم في حزب البعث؟-
خروجي من حزب البعث كان لاسباب سياسية وتنظيمية. بقيت ملتزما بالفكر لكن أعمل من خارج التنظيم لصالح الفكر، وليس الان مجال لتخصيص اسباب خروجي لأن البعث يواجه الان الامبريالية الامريكية، وقادته اما في الاسر واما في المدافن واما في المنافي، والوقت الان هو وقت التركيز على ما يجمع ولا على ما يفرق، والماضي تجربة نعود اليها كي نستفيد من دروسها وعبرها وليس الماضي سجنا نسجن فيه انفسنا ونبقيها اسيرة خلافات وحساسيات لا يمكن ان تخدم اهدافنا القومية. وأذكر ان الرئيس صدام حسين حين التقيته في اوائل فيفري 2003 أي قبل الحرب بشهر وقال لي بالحرف الواحد "البعث ليس صيغة فنية نحصر نفسنا بها، بل هو افكار يحملها المؤمنون بها ويسعون الى خدمتها بالصيغة التي يرونها مناسبة".

* الا تعتقد ان الواقع والمستجدات الحاصلة في العراق وسوريا ولبنان وبعض بؤر الفكر البعثي اكدت بما لا يدع مجالا للشك ان الوضع المأساوي بهذه المنطقة ناجم اساسا عن ضيق أفق الفكر البعثي؟
- لا اعتقد ان البعث كافكار قد فشل، بل على العكس اعتقد ان الفكرة القومية العربية التي حمل لوائها القوميون الاوائل، ومنهم البعثيون، وربطوها بمحتواها الروحي والثقافي والحضاري المتمثل بالاسلام، واعطوها مضمونا اجتماعيا متمثلا بالاشتراكية وسياسيا متمثلا بالوحدة والاستقلال، وديمقراطيا متمثلا بالحرية. هذه الافكار ما زالت صالحة حتى اليوم، بل هي في قلب روح العصر الذي يؤكد على قيام التكتلات الكبرى ويشدد على الحرية والديمقراطية ويكشف ازمة كل الكيانات الصغيرة وازمة كل الانظمة والمنظومات التي تقفز فوق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
* ولكن الممارسات السلطوية والجو الامني الخانق الذي فرضته الاحزاب البعثية ناقض ما طرحه منظرو البعث ومفكريه؟
- المشكلة التي واجهها البعث تتصل بالممارسة وخصوصا في ظل تناقض موضوعي بين متطلبات البعث كحركة قومية تعمل على امتداد الوطن العربي وبين امكانات السلطة القطرية وظروفها المحدودة والمشكلات الناجمة عن سبل الاحتفاظ بها، لا سيما تلك السبل التي تقوم على تضخم في دور الاجهزة الامنية على حساب المشاركة الديمقراطية الواسعة، الان ان هذه السلبيات التي رافقت الممارسة لا تعني ان التجارب البعثية لم يكن لها ايجابيات بل بالعكس ولا سيما في مجال تحقيق نهضة علمية وتكنولوجية بارزة، كما انها شكلت مواقع للمانعة في مواجهة المشروع الامريكي الصهيوني الرامي الى الهيمنة الكاملة على هذه المنطقة وعلى تقنياتها، وهذا المشروع لاحظناه يتحول الى عدوان واحتلال في العراق ونلاحظه اليوم يتجسد في تهديدات وضغوطات داخل سوريا؟ المطلوب نظرة منصفة الى البعث كما الى كل الحركات الاخرى، نظرة ترى الايجابي والسلبي معا، فلا تخسر موضوعية التقييم ونزاهته وشفافيته.

*هل تسعون للاستفادة من تجربتكم الخاصة ومن التجارب الحزبية العامة في صيغة المؤتمر القومي العربي الذي تتولون امانته العامة اليوم؟
- في البداية يجب ان ننبه الى ان المؤتمر القومي العربي ليس حزبا او تنظيما سياسيا بل هو تجمع لمجموعة من اهل الفكر والنضال في هذه الامة اتت الى المؤتمر من مواقع حزبية وفكرية وسياسية متعددة، ومن منابر ثقافية واعلامية متنوعة تحاول ان تدرس حال الامة كل عام في ضوء عناصر المشروع الحضاري العربي النهضوي لتستخرج من هذه الدراسة توجهات وافكار ومواقف تضعها امام الرأي العام العربي بل امام الامة بكل مواقعها للاستفادة منها، ويسعى اعضاء المؤتمر من خلال مواقعهم السياسية او النيابية او الحزبية او النقابية او الثقافية الى ترجمتها في بلدانهم وفي ساحات عملهم.
فالفكرة المركزية هنا تبدأ من الحوار بين كل المؤمنين بالمشروع النهضوي العربي بمعنى ان فكرة المؤتمر تناقض نهج الاقصاء والابعاد والغاء الاخر الذي حكم الى فترة طويلة العلاقات بين الوان الطيف السياسي العربي، فالمؤتمر اذن ليس بديلا للاحزاب القائمة – التي شارك العديد من اعضائها في الانخراط في صفوف المؤتمر بصفتهم الشخصية جنبا الى جنب مع شخصيات مستقلة للمؤتمر– بقدر ما هو وعاء للتفاعل بين هؤلاء الذين فرقتهم الحسابات والانشقاقات مما أدى الى تشرذم حركات التحرر والوحدة في الامة والى اقصاء متبادل بين تياراتها والى اختزال بين قواها.

* وهل من تفاعل بين المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي / الاسلامي على مستوى الرؤية والبرامج؟
- المؤتمر القومي العربي يسعى مع "شقيقيه" المؤتمر القومي /الاسلامي والمؤتمر العام للاحزاب العربية ان ينقل العلاقة بين تيارات الامة من حال التباعد الى حال التلاقي ومن حال التنافر الى حال الحوار، ومن حال تعثر القوى الى حال تجميع الصفوف لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية وصولا الى بناء مرجعية شعبية عربية تشكل بوصلة للموقف السليم الواجب اتخاذه واطارا للتعبئة الواسعة حول هذا الموقف، وهنا يضع كل اعضاء المؤتمر تجاربهم السابقة والحالية، وخبراتهم الجماعية والفردية، والدروس المستفادة من مسيرة النضال العربي في اطار مناقشات المؤتمر لكي يتم استخراج رؤى تتمسك بايجابيات هذه التجارب وتتخلص من سلبياتها، والمحك في هذا كله هو المشروع النهضوي الحضاري العربي الذي يخرج الكثير من ادائنا السياسي من الوقوع اسرى الشعارات ليضعه في اطار برامج عملية ومحددة.

* اذن هل المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي / الاسلامي في الضفة المقابلة لجامعة الدول العربية – باعتبار صبغتها الرسمية- ام انهما يتقاطعان مع رؤاها العامة في ما اسميتموه مشروعا نهضويا حضاريا؟
- الجامعة العربية هي وعاء للنظام الرسمي العربي، فيما المؤتمر القومي العربي هو اطار لطاقات اهلية عربية متنوعة، فاذا كانت الجامعة العربية في الكثير من مواقفها محكومة بسقف مواقف الانظمة العربية وهي مواقف مكبلة بالف حساب، فان المؤتمر القومي العربي هو هيئة متحررة من كل القيود ويسعى الى ان يطلق المواقف المعبرة عن ضمير الامة، ووجدان شعوبها، ونحن نطمح دون شك ان يقوم تكامل بين عمل المؤتمر وعمل الجامعة بحيث يكون لآراء المؤتمر ومواقفه حضورا في مناقشات الجامعة العربية بكل مستوياته وبالتالي نمارس ضغوطات على مواقف الجامعة كي تتوازن او تعطل الضغوط الآتية من قوى خارجية تسعى في النهاية الى انهاء جامعة الدول العربية كمنظومة عربية اقليمية لصالح النظام الشرق اوسطي الذي يفرض الكيان الصهيوني مركزا رئيسيا له.

* اغتيال رفيق الحريري.. تصاعد المقاومة... القرار الدولي 1559... توتر مع الجيران وخاصة سوريا ... كيف لكم ان تقيموا الوضع الراهن بلبنان؟
- مما لا شك فيه ان لبنان يمر بظروف صعبة، ومصدر الصعوبة هذه ناشئ اساسا عن رغبة اصحاب المشروع الغربي الامريكي الصهيوني في نقل لبنان من موقعه الحالي في الصراع العربي الصهيوني الى الموقع المقابل، وفي عزل لبنان عن عمقه العربي وصولا الى الثأر من لبنان بسبب انتصاره غير المسبوق بالمقاومة على الاحتلال الاسرائيلي، ناهيك عن الطموح الصهيوني القديم يتمزيق لبنان وتحويله الى مجموعات طائفية هزيلة. ولقد ظن اصحاب هذا المشروع بعد احتلالهم العراق ان الفرصة سانحة لهم لينقضوا على لبنان فيجردوه من عناصر قوته وهي المقاومة والعروبة والوحدة الوطنية ويستخدموه منصة للضغوط على سوريا بهدف اجبارها على الاذعان لاملاءات باتت معروفة سواء في اقضية الفلسطينية او القضية العراقية او القضية اللبنانية، ولقد كان عنوان هذا المشروع هو القرار الدولي 1559 والذي يعتبر خرقا فاضحا لميثاق الامم المتحدة وللقانون الدولي فلو كان هناك محكمة دولية تنظر في قانونية قرارات مجلس الامن وشرعيتها لحكمت دون شك بابطال القرار.
ثم جاء اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليشكل الصاعق المفجر للاوضاع اللبنانية وليعطي القرار 1559 زخما كبيرا مستفيدا دون شك من تراكم اخطاء وخطايا وقعت بها الادارة السورية - اللبنانية للشأن اللبناني مما سمح باستغلال هذه الخطايا لايجاد حالة شعبية بدت لوهلة معينة وكأنها مغايرة لكل خيارات لبنان الوطنية ولثوابته الشعبية ... لكل هذا الوضع الطارئ لم يكن ممكنا له ان يستمر طويلا وبدأ لبنان يستعيد تدريجيا توازنه من خلال بروز دور متنام للقوى المتمسكة بعروبة لبنان وبالمقاومة اللبنانية، وبعلاقات سياسية متكافئة مع سوريا، فتغيرت التحالفات وبدأ لاصحاب المشروع الامريكي الصهيوني ان نجاحهم في لبنان ليس سهلا وان الرياح التي ظنوها موأتية لهم بعد احتلال العراق لم تعد كذلك، فالمشروع الامريكي يتعثر في العراق بفضل المقاومة الباسلة، والمشروع الصهيوني يتعثر في فلسطين خصوصا بعد الانتخابات الفلسطينية الاخيرة، والمسرح الدولي لم يعد ملعبا يتحرك فيه لاعب وحيد هو الادارة الامريكية، مما سمح بأن يعود اللبنانيون الى طاولة الحوار وأن يتراجع تدريجيا خطاب التصعيد المحمّل بشحنات طائفية ومذهبية وعنصرية وبات من الصعب على أي طرف لبناني ان يتحمل مسؤولية إفشال حوار اللبنانيين المتعطشين الى السلام والسلم الاهلي والتماسك الوطني والاستقرار الامني.
صحيح ان الحوار الدائر حاليا قد لا يحقق كل النتائج المرجوة منه لكنه دون شك خطوة هامة على طريق تهدئة الاجواء وعقلنة الخطاب السياسي ومد الجسور نحو آفاق جديدة ومبادرات متعددة، بعضها لبناني، وبعضها عربي، وبعضها ربما يكون دوليا، وسيستعيد لبنان في ظل ذلك كله توازنه الذي كاد يفقده بعد الزلزال الضخم المرتبط باغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري، بل بدأ اللبنانيون يدركون ان التفافهم حول ثوابت الوحدة الوطنية والديمقراطية والعدالة والعروبة والمقاومة والعلاقة المميزة مع سوريا هو ضمانة بوجه أي اهتزاز قادم داخل بلدهم ومحيطهم.
ان لبنان – وفي جميع الاحوال- يحتاج الى فهم اعمق واحتضان اكبر من اشقائه العرب، وخصوصا سوريا، بحيث تجري دراسة دقيقة لأي موقف او تصرف او مبادرة او خطاب على نحو لا يسمح للمصطادين في الماء العكر ان يستغلوه لخدمة مخططاتهم الخبيثة ولاخراج القوى اللبنانية المدافعة عن الثوابت الوطنية.

* بوصفكم كنتم مشرفا عاما على مجلة "المنابر" ولاهتمامكم المتزايد بالمسائل الثقافية والاحراجات الفكرية، كيف تنظرون لمسألة انخراط المثقف العربي في المشروع السياسي؟
- اعتقد ان العلاقة بين الثقافة والسياسة مسألة بالغة الاهمية، فالسياسة التي لا تحضنها الثقافة مصيرها الضياع او الدوران في حلقة مفرغة او التآكل والذوبان مع الزمن بينما السياسي ذو البعد الثقافي يحصن نفسه في وجه الارتجال والسطحية، والغرق في تفاصيل مملة، وفي فقدان الجاذبية المتجددة امام الرأي العام، والثقافة البعيدة عن السياسة، بالمفهوم الراقي للسياسة تصبح ثقافة خاوية من المضامين الحقيقية لهموم الناس ولمشاغل الحياة بل ان المثقف الذي لا تكون السياسة بوصلته وموجهته يفقد جذوره، ويمر عابرا في حياة شعبه، وكل المثقفين الكبار في حياة الشعوب هم الذين عبّروا، كل بطريقته، عن هموم شعبهم وعن تطلعاته فكانوا بهذا المعنى ساسة بأعلى الدرجات لأنهم وضعوا ابداعهم ومعرفتهم في خدمة الانسان الذي يفترض ان يكون بهمومه وحقوقه وحرياته هدف كل سياسة.
ان المزج المتوازن بين الثقافة والسياسة هو الذي يعطي المثقف السياسي افضلية على كل أقرانه تماما كما ان هذا المزج المتوازن هو الذي يجعل المثقف ذا البعد السياسي متميزا عن اقرانه. فالعلاقة لا تعني ابدا ان تكون الثقافة هي اداة مبتذلة في يد السياسة ولا ان تكون السياسة هي ترداد فجّ لمقولات ثقافية مجردة. فالثقافة لها خصوصياتها ولها لغتها ولها وسائل تعبيرها ولها استقلاليتها بحيث اذا تخلت عن أي واحدة من هذه الامور تحولت الى ثقافة هابطة او الى لا ثقافة، وبالمقابل فان للسياسة تكتيكاتها واساليب عملها وملامستها العميقة للواقع فهي اذا خسرت هذه الميزات تصبح انتهازية فاضحة او مثالية خائنة.

* نلاحظ ان المخططات الامريكية والصهيونية باتت تمرر الى العقل العربي عبر العقل ذاته... عبر من يدعون انهم مثقفون ليبراليون... فهل فعلا نحن بحاجة اليوم الى مثقفين ليبراليين ام نحن بحاجة ملحة الى مثقف عضوي منغرس في اعماق واقعه؟
- اعتقد ان كل مثقف ينبغي ان يكون ليبراليا بدرجة او بأخرى خصوصا اذا كان المقصود بالليبرالية هو احترام الحرية واحترام الاخر وافساح المجال لكل الاراء ان تتفاعل وتتحاور في جو من الحرية الذي لا تنغصها أي قيود، ولكن الليبرالية باتت اليوم مدارس وصل بعضها الى حد اعتبار الاستنجاد بالاجنبي في مواجهة انظمة الاستبداد هو موقف ليبرالي فيما تكشف الاحداث مثلا ان هذا المنطق قد سقط مع التجربة العراقية ذاتها فعيب الليبرالي، في هذه الحالة، هنا ليس فقط في تنكره لوطنه ولأمته فحسب بل يكمن عيبه في انه كان ممرا عبرت فوقه دبابات الاحتلال لتقيم ابشع انواع الاستبداد واقصى انواع المجازر واشنع معسكرات التعذيب.
فهذه الليبرالية المراهنة على الاساطيل الخارجية والاباطيل الاستعمارية قد سقطت بمقياس الليبرالية نفسها حتى لا نقول انها سقطت بالمنطق القومي او الوطني او الانساني، ولعله من المفارقات المذهلة ان الكثير من الليبراليين الذين كانوا يملؤون وسائل الاعلام ضجيجا ضد النظام العراقي السابق للاحتلال بحجة استبداديته وديكتاتوريته نجدهم صامتين صمت القبور امام ما يرتكبه المحتل الامريكي وادواته وأعوانه من جرائم في حق الشعب العراقي.
ان هذا الصنف من المثقفين الليبراليين يقع هو الاخر في لعبة ازدواجية المعايير فيفقد مصداقيته ويتضح ان علاقته بالليبرالية لا تختلف عن علاقة الكثير من رافعي الشعارات البراقة، اما المثقف الملتزم بقضايا امته ومجتمعه فهو الليبرالي الحقيقي لانه يدرك ان استقلال الاوطان وحريتها هو المدخل الحقيقي للديمقراطية وحقوق الانسان فتعبير الليبرالية مشتق اساسا من كلمة ( Liberte') أي الحرية فكيف يكون ليبراليا من لا يكون مدافعا عن حرية وطنه وحرية شعبه؟!

أجيال وراء أجيال

لو كنت فرنسيا لمت في فرنسا... ولو كنت كنديا لمت في كندا... ولو كنت يابانيا لمت في اليابان... ولو كنت كوبيا لمت في كوبا... ولكن انا تونسي ومع ذلك لا أحب ولا أتمنى ان أموت في تونس!!!
«أنا» لا تعود عليّ أنا، وإنما هي ضمير ـ ليس حيا ـ يعود لعدد غير قليل من ابناء جلدتنا ولدوا وكبروا هنا وهم الان يكبرون وسيهرمون هناك... ولأكن واضحا فأنا أقصد عيّنة بذاتها من شباب تونس وشاباتها، هم تحديدا ابناء وبنات عدد كبير من «المناضلين» السياسيين والحقوقيين والنقابيين ـ أعرف أغلبهم ـ قاموا «بتهريب» ابنائهم وبناتهم الى الجامعات الغربية والامريكية ليواصلوا تعلمهم ويحصّلوا من الشهادات ما تيسّر لهم، ولهم في ذلك كل الحق، ولكن ما يحزّ في النفس ان العديد من أولئك «المناضلين» الذين صرفوا اعمارهم في السجون والسرية وفي الاعتصامات والمظاهرات من اجل تونس الحلم لأبنائهم وبناتهم وللجيل الذي سيبقى بعدهم، ترى أغلبهم يشجع ابنه أو ابنته على البقاء هناك وعدم التفكير في العودة الى تونس... تراهم يفاخرون ببقاء ابنائهم في باريس ونيويورك ومونتريال والمانيا وغيرها من العواصم ولا تسمعهم يتحدثون الا عن رفاهيتهم هناك وعن حريتهم هناك حتى أقنعوا أنفسهم بأن هذه البلاد ما عادت تصلح لهم وان مناخها أضيق من نشاطاتهم وطموحاتهم فلماذا يعودون؟ ولماذا يؤوبون؟!!
هنا أود أن أسألكم أنتم بالذات، لماذا ناضلتم ولا تزالون؟! لماذا صرفتم أعماركم في النقد والاصلاح وحتى في الحلم بالثورة؟! أليس من اجل ابناكم وبناتكم ومن اجل جيل كامل؟!! هل أفنيتم سنون حياتكم من اجل جيل منذور للهباء والشتات؟!! يا لنفاقكم وخيبتكم ايها المناضلون الثوريون؟!
وحدهم ممن تطلقون عليهم صفة «الشعبيون» يكدون هناك لأجل العودة هنا وبناء مشروع لصالح البلاد... وحدهم صادقون في حب هذه الارض... بل اني اعرف الكثير من الشباب الضائع هنا من «حرق» الى «طاليا» ليعود الى تونس ويبني مشروعا ينقذه من الضياع الذي كان فيه...
وحتى لا أتجنى على احد فاني بالمقابل اعرف عدد قليل جدا جدا من شبان وشابات تغربوا عن تونس وأصروا على العودة اليها بزادهم العلمي والمعرفي الذي حصلوها هناك ولكنهم ـ مع الاسف الشديد ـ يعدون على اصابع اليد...
لن أصف الجيل الذي تربيت على نضاليته بأنه امتهن النضال النخبوي والبورجوازي والفئوي... لن اصفه بذلك لأني بالاخير اظل احترمهم واحترم نفسي باعتباري ثمرة من ثماره... ولكن لست ادري كيف اصف وبماذا اصف صنفا اخطر من الاول من اولئك المناضلون السياسيون والنقابيون والحقوقيون (اقصد كل الحساسيات والاحزاب، حاكمة وتابعة ومعارضة) واقصد بالصنف الثاني عددا كبيرا من «المناضلين» الذين أفنوا اعمارهم في الانصهار في العائلات الحزبية او الحقوقية أو النقابية او المدنية ومع ذلك لم ينجحوا في تكوين عائلاتهم «الدموية» على المبادئ والقيم والشعارات التي رفعوها وآمنوا بها خارج عتبة بيوتهم ومنازلهم اذ نادرا ما تلتقي ابن او ابنة «مناضل» مهتم بالشأن السياسي او النقابي او الحقوقي... فالكل منصرف الى شأنه الخاص... وأي شأن... كرة، مقاهٍ... فضائيات!!!

2008/08/22

بيان حبري ضد الزمن الحربي


من السهل على الواحد منا – نحن السواد الأسود– أن يعثر على عتبة حبرية يشغل بها رأس المساحة الورقية المتبرجة أمام ناظريه، في فستانها الأبيض، ولكن من الصعب عليه أن يجد الوقت الكافي والضروري لفك أزرار الفستان البيضوي والولوج داخل أتون الورقة ومغاورها، فيصيّرها – بعد ساعة أو بعد أيام – حبلى بمتن لغوي نثري أو شعري...
من السهل على الواحد منا - نحن السواد الأسود – أن ينجح في لضم تركيب لغوي على قياس «لا الوقت لنا... ولا الكتابة أيضا» مثلما كانت تلضم بائعة الكبريت – في حكايا الجدات - دموعها عقدا من الزمرد والمرجان...
ببساطة، من السهل على الواحد منا أن يمسك بعنوان قصة قصيرة مثلا وهو يركض خبطا ولطما خلف ذيل حافلة صفراء عجوز. من السهل عليه ذلك، ولكن من الصعب جدا أن ينجح في الحفاظ على حبات الزمرد والمرجان لعقده اللغوي بمجرد أن يحشر داخل العلبة الحديدية الصفراء العجوز اللعينة، إذ تتبخر فكرة القصة مع الروائح العطنة وتبتلعها أحداق العيون المتوثبة على الجيوب والحقائب اليدوية لصبايا الطريق... ويداس المتن السردي بأحذية الركاب المعفرة بأوحال الأرصفة، وتثقب الفكرة بكعب حذاء يرزح تحت وطأة مائة كيلوغرام من لحم أنثوي مترهل...
يمكنك أن تحني ظهرك النحيل، كما قلمك ينحني سيلانا فوق دروب الورقة، يمكنك ذلك، فتمد ذراعك لتلتقط بأطراف أصابعك ما سقط من مرجل جمجمتك هذا الصباح فتجمع نثار المعني وشتات الفكرة وتستجمع ألق صباحك ذاك... فتنجو بجلدك المصهود بالأنفاس المحرقة وبمحفظتك المكتنزة وبفكرة قصتك القصيرة بما حوت من أبطال وأحداث ومكان وزمان وأزمة وانفراج...
تحضنهم جميعا وتهرول نطا وركضا من الباب الخلفي للحافلة الصفراء اللعينة باتجاه أول كرسي وطاولة لم ينخرهما سوس الثرثرة واللغو، فتلقي بجسدك فوق الكرسي وتبسط على خشب الطاولة عتبتك اللغوية لتشرع في رفع أوتاد خيمتك القصصية...
من السهل عليك وأنت - من السواد الأسود – أن تفتح محفظتك العتيقة وصدرك ينشرح لسيلان القهوة الدافئة والتبغ الموشح بالضباب في عروقك، فتكاد تصيّر عين قلمك الراقص بين أصابعك كأوتار كمنجة قرطبية، مثل فوهة بندقية، يطارد حبره وبر المفردات...
من السهل ذلك ولكن من الصعب عليك أن تكتب جملة واحدة في قصتك القصيرة تلك، وأنت مزدحم ب«صباح الخير» و«يومك سعيد» ومكتض بـ«كم الساعة من فضلك؟» أو«ولاعتك لو تسمح»... من الصعب أن تمسك بأول حروف قصتك وسط مقهى «l’univers» (٭)... من الصعب عليك ذلك وأنت محاصر بعقارب التوقيت الإداري وبسخط رئيس التحرير على تأخرك الدائم... من الصعب.... من الصعب...
ولكن من السهل عليك مرة أخرى، وأنت ضاج بأزرار الحواسيب الجامدة داخل مكاتب عملك الباردة، ومشغول بخطى الموظفين رائحة غادية تلوك الوقت والهراء كما يلوك الجمل الكلأ، سهل عليك أن تشحذ قلبك بمساء هادئ في غرفة نومك لتزهق روح متنك السردي اللعين، تشحذ قلبك بالتمني وتشرع في اختيار مطفأة السجائر الأوسع والقطع الموسيقية الأنسب، وتتوعد الانتظار والازدحام والخوف من السرقة... أعداؤك الدائمين المتربصين بك وبقصتك وسط الحافلة الصفراء العجوز اللعينة... تشحذ قلبك ولا تنتبه لغبطة موهومة إلا على هدير محرك الحافلة...
من الصعب إذن عليك، وأنت من السواد الأسود، أن تجد الوقت الكافي والضروري لكتابة مسودة قصة قصيرة طيلة يومك، ولكن من السهل عليك مادمت تصر وتلح على فعل الكتابة، أن تسلسل أحداث قصتك في ليل المدينة...
من السهل عليك أن تتخلص من محنتك الحبرية هذه وأنت محاط بالمطفأة الأوسع وقلبك يتلاشى تحت سطوة الموسيقى الصامتة وساقاك يرفلان في الدفء تحت صوف الغطاء الشتوي... من السهل أن تكتب على الورقة البيضاء من دون أنفاس حارقة ولا روائح عطنة أو كعاب ثاقبة... من السهل... من السهل...
ولكن من الصعب عليك أن تجهز على عتبة الخروج من قصتك هذه وصوت المذيع الأجش يخرم هدوء غرفتك ونقاء فكرتك، وهو يقدم للنظارة الكرام مجموعة قصصية حديثة النشر، هي السادسة لأستاذ جامعي في عقده الثامن...
تطفئ الضوء الخافت وتشعل سيجارة يابسة لتؤنس صمتك أمام ثرثرة المذيع والأستاذ القابعين داخل الصندوق الملون... فتتيقن – وأنت المنهك – أن لا وقت لك وللسواد الأسود إلا للنوم... فتسحب الغطاء الصوفي إلى آخر رأسك وتشرع في كتابة قصتك القصيرة حلما أو كابوسا في انتظار منبه الساعة الخامسة فجرا وهدير الحافلة الصفراء العجوز اللعينة و«صباح الخير»... وفي انتظار عتبة دخول حبرية أخرى لرأس ورقة البارحة تنتظرك لتفك أزرار فستان عرسها الأبيض...

*****************
(٭) اسم مقهى كائن بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية أغلب روادها من الشريحة المثقفة.

2008/08/20

إلى محمود درويش:


هكذا أقرأ يوميات الحزن الفلسطيني

«أحارب... أو لا أحارب؟
ليس هذا السّؤال
المهم أن تكون حنجرتي قويّة»

محمود درويش، الفلسطينيُّ المعتقلُ بالذّكريات داخلَ/خارجَ الوطن المُتكرّر في المذابح والأغاني... الفلسطينيُّ الذي مازال يفكُّ طلاسمَ هويّته المُوزّعة من مطار إلى مطار...
محمود درويش سيموتُ متّهما بالتّجريد وتزوير الوثائق والصور الشّمسيّة، وهو يُصرُّ على رسم شكلَ فلسطين المُبعثرة بين الملفات والمُفاجآت... المُتطايرة على شظايا القذائف وأجنحة العصافير... فلسطين المحاصرة بين الرّيح والخنجر...
اسمُ محمود درويش السّرّيُّ هو بالكامل «محمود درويش»، أمّا اسمه الأصليّ فقد انتزعته سياطُ الشُّرطة وصنوبر الكرمل عن لحمه... وتركت له هويّة تتكئ على الرّيح... وقامة تصقلها المسافات وتذاكرُ السّفر... وممرّاتٌ تحتشدُ بالفراغ... وهو لايزال إلى الآن يحاول أن يذكُر اسمه الأصليّ بلا أخطاء... ويفكّ الحروف والحركات عن اللّحم الحي...
ويحاول أن يكفَّ عن الكلام لكي يصف نفسه...
ومازال أيضا يستجدي فلسطينَ كي تُعلن براءته منها ليكفّ عن الموت... أو تُعلن انتهاء عَقْد الشغف بينهما ليُصبح قادرا على الموت والرّحيل...
«تَنْتَشرينَ في جسْمي كَالعَرَقْ
وتَنْتَشرينَ في جسْمي كَالشَّهْوَة
وتَحْتَلّينَ ذَاكرَتي كَالغُزَاة
وتَحْتَلّينَ دمَاغي كَالضَّوْء
مُوتي... لأَرْثيك
أوْ كُوني زَوْجَتي لأَعْرفَ الخيَانَةَ
مَرَّةً وَاحدَةً»
لم تمت فلسطين درويش... ولم تكن زوجة لمحمود... ورغم ذلك لايزال محمود درويش يشرحُ سُدًى للبوليس تهمة الخيانة الموصوفة التي ترجُم صوتهُ أنَّى ولَّى شعره... أو أين سرَّحَ شَعْرَهُ... لايزال يُدافع عن براءته من خيانة الصمت والمنفى والصّدى...
بين اتهام البوليس بالخيانة ودفاع درويش عن البراءة، طالت حالة احتضاره... وتكاثر من حوله المغنّون والخُطباء، ونبت على جثّته الشّعر والزُّعماء و»كل سماسرة اللّغة الوطنيّّة صفّقوا... صفّقوا... ولتعشْ حالة الإحتضار الطّويلة...مادام المطر يتساقط في الخارج بلا سبب... والقحط ينتشر في الداخل لأسباب كثيرة...»...
تطول حالة الإحتضار بمحمود درويش... وهو لايزال يتحفّز للموت على حافة الحلم كما يتحفّز الشّهيد للموت مرّة أخرى تاركًا لحمهُ مشاعًا للجنود كسطوح المنازل، ليظلّ أبدا صامدا في الهزيمة وعدوّهُ صامد في النّصر... ويواصل حياته كفلسطينيّ يُداعب الزّمن ويلاعبُ الأيّام...
«إنّي أَحْتَفلُ اليَوْمَ
بمُرُور يَوْم عَلَى اليَوْم السَّابق
وأَحْتَفلُ غَدًا
بمُرُور يَوْمَيْن عَلَى الأَمْس
ذكْرَى اليَوْم القَادم
وَهَكَذَا... أُوَاصلُ حَيَاتي»
طوال حالة الإحتضار ومحمود درويش يبحث عن هويّة لشعره فلا يجدها إلاّ عندما يُشاهد يَافَا فوق سطح باخرة، فيعلن ساعتئذ أنّه شاعرٌ كان و في الذّاكرة يبست القصيدة عندما تناهت موسيقى اللّحوم البشريّة، في يَافَا، إلى مسامع مواليد برج الحصار...
وكان درويش/الفلسطيني يرثُ السّلاسل ويمنح هويّته شكلها الطّبيعي : صوت يابسٌ كسارية العَلَم ويَدَيْن فارغتين كالنّشـيد الـوطنيّ وروحٌ منذورة لرغوة السّفن... وربطة عنق تلتفّ حول الرّقبة مثل حبل المشنقـة !!!...
هو ذا محمود درويش... هو ذا الفلسطينيُّ... يسقط من رحم فلسطينيّ ويُحشرُ في نفق «اسرائيليّ» ولكن هل تمتلك الطّفولة والولادة دعوى في المكان ؟
«لَيْسَ المَكَان الذي وُلدْتَ فيه هُوَ دَائمًا وَطَنُكَ،
إلاَّ إذَا كَانَتْ ولاَدَتُكَ جَمَاعيَّةً وَطَبيعيَّةً.
إذَا كَانَتْ الولاَدَةُ فَرْديّةٌ وَاصْطنَاعيّةٌ
فَإنَّ المَكَانَ يَكُونُ مُصَادَفَةً،
وَذَلكَ مَا يُشَكّلُ الفَرْقَ التَّاريخيَّ
بَيْنَ مَحْمُودَ وَيَسْرَائيلَ في مَكَان وَاحد الآنَ.
أَنْ يَتَنَاسَلَ غَُزاةٌ في أَرْض الآخَرينَ
لا يُؤَلّفُ حَقًا وَطَنيًّا لَهُمْ،
وَلَكنْ أَنْ يَتَنَاسَلَ شَعْبٌ في وَطَنه
هُوَ دَيْمُومَةُ الوَطَنيَّة وَشَرْعيَّتُهَا.»
من هذه الوطنيّة والشرعية ذاق محمود درويش طعم عكّا الأوّل : كلّما فتّش عن شيء لم يجده: أُمٌ عادت إلى البروة، حبيبة زُفّت لرجل آخر، وفقر ٌيُلاحقه... وزنزانةٌ وضابطٌ وَقحٌ عوضًا عن أرض وشعب... عكّا كانت آخر حدود العالم وأولى المحاولات والخيبة...
ودرويش لازال إلى الآن يبني فوق الرّمال ما تحملهُ الرّياح... لا قشّر البرتقال فوق طبق من ورق في مقاهي باريس... ولا ملك من الوقت وقتا ، في أقبية الأندلس، ليُسرّح وقته بين الكروم...
«أَيُّهاَ الظَّلاَمُ القَادمُ إلَى المَدينَة
انْهَمرْ... انْهَمرْ
لأَنّي أَعْتَزمُ اللَّيْلَةَ مُغَادَرَةَ وَجْهي الحَافل بالحُدُود
في اتّجَاه قَلْبي،
وَهْوَ المَدينَة الوَحيدَة التي لَمْ تَقَعْ في الأَسْر»
يُغادر درويش وجهه نحو قلبه ليُعلن قصّته والحرائق تنمو على زنبقة... يغادر ليُعلن صورته والصّنوبر ينمو على مشنقة... يعلن درويش قصّته وصورته بعد أن يسرق من جرح الشّهيد القطن ليُلمّع أوسمة الصّبر والإنتظار... لينهمر منه الحبر خلف جداول الدّم...
يُغادر درويش وجهه نحو قلبه بعد أن يتعلّم اللّغات الشّائعة... متاعب السّفر الطّويل... النّوم في القطارات البطيئة و السّريعة والحب في الميناء والغزل المُعد لكل النّساء والشّوق المُعلّب... يغادر وجهه نحو قلبه بعد أن يتعلّم تربية الأمل ومراسم الوداع...
يتعلم درويش كل ذلك ويفشل في نسيان فلسطين... إذ يتفتت وجه المدينة حصًى في اللغة... وتتوزّع شوارعها وأديرتها كنايات واستعارات في لغة درويش وأحرفا ونقطا...
لتطرّز حقول القمح... وتُزهر الورود فوق المقابر...
«إذَا انْفَجَرتْ منْ دمَائي قَصيدَه
تَصيرُ المَدينَةُ وَرْدًا،
كُنْتُ أمْتَشقُ الحُلُمَ منْ ضلّعهَا
وَأُحَاربُ نَفْسي...»
وتُفلس الحَواس على حدود القدس... وحدَها تظلُّ حاسة الدّم يانعة بين أصابع الفلسطيني الذي لا يكون إلاّ شهيدا أو شريدا، حَاملا لقبره بَدلا من خَريطة الأرض وأغَاني الوَطَن...
وتظلّ المُدُنُ اللّقيطة تتدحرجُ على بطن الهَزيمة كل صَباح... ومابَين صباحين يُولدُ صباح جديد للفلسطيني يسميه «الوطن»...
من تحت الأظافر يُولد، من بَين الأنامل تُورقُ كرومه... وفي كََف اليَد المُحترقة تعلو بذرة القمح أعلَََى وأعلى ... وبين المفاصل يُعصَر البرتقَال البرتقاليّ وفوق اللّحم الفلسطينيّ ينمو الزّيتون أخضرا... أخضَرا... ويمتزجُ الدّم مع الحبر فوق التراب/الورق... وتحت كل حجر يكتَََمل قمر. فلا تأتي إلاّ أسطورَة الفلسطيني ولا يَكون إلاّ العرس الفلسطيني حََزينا... حزينا... وللحُزن وجه الفرح في الجليل ويافا والكرمل وعكا والبروة و... ينام على شجر الذكريات ويصحو على وتر المعجزات...
ويُحاصرنا الفلسطيني قاتلا أو قتيلا...
ويجيؤنا درويش بلغة من رخََام وبرق... لغة له منها «وضوح الظل في المترادفات ودقة المعنى»... له منها «التشابه في كلام الأنبياء على سطوح اللّيل»... و»حمار الحكمة المنسيّ فوق التّل يسخر من خرافتها وواقعها»... لغة له منها «احتقان الرّمز بالأضداد... لا التجسيد يُرجعها من الذكرى ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى»...
يجيؤنا درويش هنا، يجيؤنا من بلاد على أهبة الفجر إلى بلاد تجلس على صخرة تتنهّد... يجيؤنا من بلاد إلى بلاد ليُذكّرنا أن الحريّة حرّة تكون ويجيء ليُذكّرنا أن وطأة الزمان الفلسطيني لا يزال يتمطّط من حمأة المكان العربيّ...
«سَيَمْتَدُّ هَذَا الحصَارُ، حصَاريَ المَجَازيّ
حتّى أعلم نفسي زهْدَ التَّأَمّل :
مَا قَبْلَ نَفْسي ـ بَكَتْ سَوْسَنة
وَمَا بَعْدَ نَفْسي ـ بَكَتْ سَوْسَنة
وَالمَكَانُ يُحَمْلقُ في عَبَث الأَزْمنَة»
يتحجّر المكان في الزمان إلى الأبد.... يتخلّف الزّمان عن موعده في المكان... ويظلّ الفلسطينيُّ، الفلسطيني التّاريخي لا الجغرافي، يظل مُصابا بداء الأمل، يضع غزالا على مخدعه وهلالاً بين أصابعه ليُخفّف من حزنه...
يظل يربّي الأمل ويسبق كل «المتعاطفين» الذين يُعدّون له قبرا مريحا «يظلّله السنديان وشاهدة من رخام الزمن» يسبقهم ويُزغرد في «عطفهم الكلاميّ الغوغائي الخطابي... يُزغرد ويسألهم من مات ؟... لمن تحفرون هذا القبر ؟... وهذه الشاهدة على من تدلّ ...؟
يسألهم/يسألنا ويمضي نحو النعش يجرحُ خشبه بتهاني ابنه الذي وُلد من الطلقة التي أصابت الجندي الصهيوني... ومن القصيدة التي فجرت سيّارات الغُزاة مجازا وتورية... ومزّقت أوتار عازف الكمان اليهوديّ في مسرحيّة «شالوم عاليخم»... فالشّعر لا يمزح كما التّاريخ الذي سيذكر أن الموت في فلسطين مهنة الرّضيع والشّيخ... مهنة العروس والحبيبة...
في مهب التراب يرتوي اللّحم الفلسطيني وينمو الحزن الفلسطيني كل ثانية... وفي مهب الورق يرتحل محمود درويش في غموض الصور... يترنّح لغة في دوار البحر... وتطير به إلى مجهول الشِّعر الأبديّ من جهتين «أن تنظر وراءك توقظ سدوم المكان على خطيئته... وأن تنظر أمامك توقظ التاريخ... فأحذر لدغة الجهتين.»
وهل تجيء اللّدغة من الجهتين أم من الجهات المليون ؟! هل تأتي اللّدغة من رامبو أم من نيرودا؟! أم تجيء من يافا والقدس العتيق؟! هل يُلدغ من كرنفال الشعر وشهوة النّثر...؟! أنُلدغ من اتفاق أوسلو أم من حَمَّام دم حَمَّام الشَّط ؟!...
إنّنا نُلدغ أبدا من المقاومة الزّاحفة كغيمة مطر و من الحب وهو يُسوّر خطوتنا بـموعد النّرجس وتراتيل بحرية...؟!
حتما انّنا نُلدغُ من الحزن الفلسطيني الطّالع من هتاف الجماهير القادمة من فوهة البندقية والفرح...
إلى محمود درويش :
يدلّنا القلب دائما إلى ما لا ننتظر...
إلى حُمَّى القصائد...
«صَبــَاحَ الذي قيلَ
ليُعـَـادَ أجْمَلَ
تَمَّحي التَّقَاسيــمُ
وَيَبْقَى ابنَ مَنْظُور
فَرحًـــا
مُتَأبِّطًــا لسَانهُ السِّحـْـريَّ
تُرَاقصيـنَهُ
وَتَتَمَايلِينَ عَلَى شَفَتَيْ دَرْويشْ
المَجْـدُ لـهَذَا الدَّرْويش
كَيْفَ صَيَّـرَ الأسْمَــاءَ غُيُومًــا
ليَقْفزَ إليهَا مَتَى شَاءَ
المَجْدُ لَهُ، كلَّمَـا أمْطَرَت
ذَكَرْنَاهُ قَائلين :
هَلْ تُمْطرُ في يَــافَــا؟؟!!
وَهَلْ يَعُودُ البَحَّــارُ آمنًــا؟؟!!
وَقَضَى شعْرُهُ أنْ
نَحْملَ الجُرْحَ سَويًّــا
لنَبْكي قلاَعَنـَـا إذْ تَهـَـاوَتْ
نُقَعْـقعُ بالكَلمـَـات
وَنَسْــألُ :
صَبــَاح الصَّمْــت
أَمـَـا منْ أحـَـد
يَـرُدُّ السَّلاَمَ ؟
صَبـَـاحًــا
لاَ يَهُمُّ إنْ سَألْنَا :
«كَيْفَ تَكـُونُ البِدَايـََـاتُ ؟!»

يُســرى فَراوس
من مجموعة حُمّى القَصَائد

2008/08/15

مسرحية "خمسون" للجعايبي على مسرح قرطاج بتونس :


استنزاف الذاكرة لتوطين الجراح

* التاريخ: خمسون سنة على استقلال البلاد أو ما يشبه...
* المكان : على مرمى خطوات من أقبية وزنازين، وحانات ومقاه عجت ـ ولا تزال ـ بأحلام وآمال وأفكار وأجساد وبقايا أجساد...
* الحدث : أول عرض لمسرحية «خمسون» عن نص لجليلة بكار وإخراج للفاضل الجعايبي.
* الممثلون : جليلة بكار، فاطمة بن سعيدان، بسمة العشي، وفاء الطبوبي، لبنى مليكة، دنيا الدغماني، جمال مداني، معز المرابط، رياض الحمدي، خالد بوزيد، حسني العكريمي مع صوت فتحي العكاري.
* المشاهدون: خمسونيون، أربعينيون، ثلاثينيون، عشرينيون... مثقفون وأشباه، سياسيون ومتملقون، جيل مكرم وجيل مستهدف وما بينهما سوط وأعقاب سجائر... حقد وذغائن وتشف وندم وإصرار...متناقضات لا عد لها ولا حصر.
* إشارات بعيدة وقريبة:ـ استاذة شابة ومتحجبة تفجر نفسها وسط ساحة معهدها.
ـ طالبة عائدة من باريس حيث انتقلت من القناعات العلمانية الى اكتشاف الفكر الإسلامي تتورط مع شبان آخرين في عملية تفجير صديقتها.
ـ شرطة سياسية أخطبوطية تحقق
ـ أب مناضل يساري ينهار وأم حقوقية تحتار تبحث عن أسباب تحجب ابنتها وابتعادها عن قيم والديها.
ـ شباب تائه مرتمي في أحضان صناع حلم بائس.
ـ خمسون سنة تمضي.
ـ ماذا تأسس وماذا تقلص؟
ـ ماذا تحرر وماذا تفجر؟
ـ أفق مسدود أم رجة مرتقبة تنبئ بأمل جديد؟
يتفق الفيلسوف الألماني»ولتر بن يامين» والمنظر الفرنسي «لويس ألتوسير» على أن العمل الإبداعي يظل ناقصا ولا يكتمل إنتاجه إلا في عملية استهلاكه، وما تفضي إليه هذه العملية من علاقة جدلية (dialectique) بين البنيتين التحتية والفوقية في الإبداع ذاته، أي العلاقة بين الإبداع من حيث هو نتاج، ومن حيث هو إيديولوجيا. هذا الاتفاق يتجاوز نظرية «تيوفيل غوتييه» القائمة على مقولة «الفن للفن» (lصart pour lصart) ويقوضها تماما، ليؤكد على أنه لا وجود لفن خارج دائرة الايدولوجيا، وأن الايدولوجيا تتسرب وتنفذ الى المتقبل /المرسل إليه عبر التعبيرة الفنية ذاتها، وللإشارة فإن الايدولوجيا حسب تعريف «لوسيان غولد مان»«هي رؤية مشوهة لا جدلية ولا تاريخية لأنها تنبع من أوهام مركزية الأنا الأنانية» فلا تعيش الايدولوجيا إلا في ظل الصراعات مما يكسبها بعدا سوسيولوجيا ثقافيا عائما (flottant).
هذه العلاقة الملتبسة والمعقدة بين الرؤيتين الفنية والإيديولوجية، يمكن لأي عقل يشتغل على موضوعاته بفطنه وحدس نسبيين، ويمارس أسلوبه وفق قاعدة عقلانية وأرضية ابستيمية محض تخول له نقد/نقر المعنى في وجهه الأصيل وفق قراءة كاشفة (lecture décapante) لذاك الركام الهائل من الأسئلة ونقاط الاستفهام والاستنكار والتعجب التي تناثرت كالشظايا المنفلتة من الأحزمة الناسفة وسط المسرح البلدي، لتغور عميقا في ذاكرة الجيل المكرم في مسرحية «خمسون» للجعايبي وبكار من جهة، وراهن ومستقبل الجيل المستهدف من خلال الخطاب المسرحي الذي قدمته مسرحية خمسون من جهة ثانية.
* نص غير بريء...أسئلة وأسئلة وأسئلة لا توصل إلا الى هذيان محموم، وإرباك معرفي، ولا تماسك أنطولوجي... أسئلة مدوية بحجم الانفجار المدمر، والمقوض لكل بناء مهزوز من الداخل... أعواد ثقاب حارقة تلقى هنا وهناك، لتشعل حرائق قادمة من رماد خمسين سنة مثخنة بخسارات، وخيبات، وانكسارات، واحباطات، توسدها جيل وأكثر: يوسفيون، جماعة العامل التونسي، ترتسكيون، ماويون، وطنيون، شعلة، أحزاب سرية وأخرى علنية، نقابيون شرعيون وآخرون منشقون، أصوليون ومتطرفون... إخوان ورفاق...
ديمقراطيون وليبراليون وشيوعيون ومسلمون... في تغييب لحركة فيفري وحركة آفاق... وأحداث الخبز... وغيرها من الاحداث الفارقة في تاريخ البلاد...
ذاكرة أجساد وبقايا أجساد: ذاكرة شاعر وسياسي وقواد ونادل وحقوقي وتقدمية وعاهرة وروائي وطالب وطالبة وبوليس ومرشد... حركات وحلقات ونقاشات وخلايا ومناشير ومؤامرات وذكْرٌ وصلوات ومجالس وعظ وارشاد... تكتيك وإستراتيجية وتحالف الضد بالضد... آمال وأحلام.... جميعها انفرطت مثل حبات عقد أميرة من الزمن الغابر، فأججت وأضرمت لدى ذاك الجمهور «النوعي» الذي حضر أول عرض لآخر انتاجات «فاميليا « مسرحية «خمسون» أو «أجساد رهينة»، والذي ألفى نفسه مورطا من حيث يعلم ولا يعلم في أحداث صنعتها خطاه هو وجسده هو وفكره هو طيلة ما يربو عن نصف قرن كامل من تاريخ تونس الحديثة... تاريخ بلد الحبيب والغريب...
«خمسون» الفاضل الجعايبي وجليلة بكار أكدت، بشكل أو بآخر، ما سبق أن حدده الفيلسوف ميشال فوكو ضمن كتابه»المعرفة والسلطة» من أن «التاريخية التي تجرفنا وتحددنا، هي تاريخية حربية لا لغوية، والعلاقة علاقة سلطة لا معنى»، فصراع الأضداد، أو صراع الهويات، الهويات الرسمية المصلوبة في أزيائها الرسمية والهويات المتمردة المارقة عن الأطر والأسيجة الحديدية والدوغمائية، هو العمود الذي تراكمت فوقه خمسون سنة من تاريخ النضال والقمع، من تاريخ السياسة والثقافة من جهة، وتاريخ الاستبداد والجهل من جهة مقابلة وفق عملية تبادل رمزية (La valeur dصéchange symbolique) تارة تأخذ شكل المهادنة والمخاتلة أو المسايرة، وطورا آخر تشتد حدة القمع والردع والنضال والاستبسال من كلا القوتين، ليظل، حسب الجعايبي وبكار، الجلاد هو الراقص فوق الجثث المشلولة أو المعطوبة الأحلام والقوى دائما وأبدا حتى فوق خشبة المسرح، انه «قدّور» القادر والمقتدر في كل آن وأوان وفي كل ركن وزاوية، والقامع هو المنتصر... فحتى لعبة الضوء المعتمدة فوق الركح، ذاك الركح الخالي من أي ديكور أو تزويق في إشارة راشحة الى الخلاء المعمم، تعلن عن طبيعة العلاقة أو النظرة القائمة بين القامع والمقموع من جهة، وبين المكرم والمستهدف من جهة ثانية، فالضوء في مسرحية «خمسون» دائما ما يٌرسل بطريقة عمودية (ثلاثية أو ثنائية أو أحادية) ونادرا جدا ما يٌستخدم بطريقة أفقية.
* هل نتحمّل وزر هزائمكم ؟«خمسون» اجترحت بما فيه الكفاية وأكثر، أسئلة ونقاط استفهام وتعجب واستنكار، لم تترك المجال لجيل ما بعد نصف قرن من «الاستقلال»، إلا أن يرفع شعارا واضحا وقاطعا وصارما :» أيها الأساتذة إن شيخوختكم توازي شيخوخة ثقافتكم....» شعار لا أخال أن الجعايبي وبكار ورفاق درب الخمسين سنة الماضية، لم يسمعوا به أبدا، لأنهم رفعوه هم أيضا إبان اشتعال جذوة التمرد داخل أسوار جامعة السربون في ماي 1968 .
الجيل القابل للتحول من ضفة لأخرى... والانتقال من فكر الجدل والمادة (بطلة المسرحية التي فجرت نفسها أستاذة فيزياء) الى تهويم اللاهوت والميتافيزيقا بمجرد أن تطأ قدما شارون عتبة مسجد الأقصى، هو ذاته وعينه الذي أنجز مسرحية «خمسون»: بسمة، لبنى، دنيا، جمال، معز، رياض، خالد، حسني... وهو الذي ملأ نصف المسرح البلدي ولا يزال... كيف يمكن لتاريخ من تمرس بآليات التحليل المادي الجدلي والذي آمن بالديالكتيك وبأن الصراع أبو الأشياء، أن يقدم طرحا ميكانيكيا بسيطا يفتقد لأي مبرر منهجي أو مسوغ منطقي؟ كيف تتحول أستاذة فيزياء ماركسية ابنة ماركسي وحقوقية في ظرف أربعين يوما الى كائن متطرف في التفكير والفعل...أهي أيام العدة والإنقلاب الإيديولوجي في عرف «الكبار»؟!!!
أي أفق كان ؟ وأي مستقبل سيأتي ؟ من هي الجماعات الضاغطة ومن هي الجماعات المضغوط عليها ؟ هل الانفجار لا يكون إلا باسم الإسلام تحديدا وليس باسم الدين عمومـا ؟ هل يمكن أن تتراجع الروح الرفاقية أمام المد الاخواني وتسقط أمام بعض الأشعار الصوفية ؟ هل الثقافة لا تقدم إلا في الجبة الفلكلورية ؟ هل الخطاب الأصولي هو شجرة المنتهى ومصير من فاتهم أن يكونوا خمسينيون ؟
إن متواليات العبث والعبثية، والسواد والسوداوية التي صارت تطوقنا من كل المنافذ والجهات، في المعاهد والجامعات... في المقاهي والحانات... في مكاتب العمل وعلى أرصفة الشوارع... أمام شاشات التلفزات الملونة والمسطحة... على أعمدة الصحف والمجلات... كلها وغيرها كافية لأن تجعل الكائنات المترنحة تتورط في خطابها والانجراف في تيارها... ولكنها غير مبررة لأن تجعل البديل الفني والفكري يسقط في براثينها ويكرر مقولاتها من حيث يعلم ولا يعلم، حتى وان كان الخطاب خطاب تذكر لا خطاب استشراف...
هي ذي اضمامة أسئلة ونقاط استفهام وتعجّب أولى تقفز عشوائيا ودون ترتيب منهجي، بعد أوّل مشاهدة لـ»خمسون»، وحتما ستتناسل عنها أسئلة ونقاط أخرى، كتلك التي تجول الآن لدى كل من شاهد العرض، سواء من «شيوخ» الجيل السابق أو من «شباب» الجيل الراهن...

2008/08/04

ريحة البلاد

لا أخال تونسية واحدة أو تونسيا واحدا، كبيرا كان أم صغيرا، يمكنه أن يتوه عن رائحة البلاد في جهاتها الأربع... رائحة الفل والياسمين تعبق في ضواحي العاصمة، رائحة السمك تتماوج على الموانئ، رائحة المواد الكيمياوية تخنق السماء في المناطق الصناعية والمنجمية، رائحة الحشائش تسري في الصدور على المرتفعات والجبال... رائحة البنزين في الطرقات السيارة وغير السيارة... رائحة الكتب القديمة، رائحة البن والخبز... وطحالب البحر وروائح العرق تسقي الأراضي الفلاحية...
روائحنا التي ننام ونصحو عليها... روائحنا التي كبرت معها حواسنا وصارت ألصق بنا من جلدتنا... نحب بعضا منها، نتقزز من أخرى ونشتهي البعض الآخر من تشكيلة الروائح التونسية الخالصة...
كل هذه الروائح وغيرها مما نسيت أو تجاهلت، كلها تعنيني وأحبها أكثر حتى من «باتريك زوسكيند» في روايته «العطر»... ومن دون استثناء فقد بتُ أكره وأمقت أغنية الراحل محمد الجموسي «ريحة البلاد» التي أصبحت النشيد الرسمي لمهاجرينا وعمالنا بالخارج... الكل في المطارات والموانئ التونسية يرفعها شعارا للتعبير عن شوقهم لتراب تونس ورائحتها... وأنا لا أتعارض مع أحاسيسهم تلك لأنني عشتها بالفعل وأعرف ما معنى غربة وسفرا وغيابا...
ولكن، يا عمالنا المهاجرين ويا من تدرّون العملة الصعبة ويا من عرفتم وشاهدتم تفاصيل الحضارة والحداثة... رفقا بنا عندما تؤوبون لأرضكم تقضون فيها اشهرا أو أياما معدودة... رفقا بشواطئنا وطرقاتنا... رفقا برائحتنا التونسية التي صارت تتبخر كلما عدتم... تتبخر بفعل استهتاركم في طرقاتنا... بفعل تفاخركم وتباهيكم المبالغ فيه واللامبرر... رفقا بشبابنا الذي تحرضونه ـ من حيث لا تقصدون ربما ـ على ركوب قوارب الموت... رفقا بجيوبنا تخرّبونها كل صائفة بالأورو... رفقا بأنفسكم فلن تسكنها الا الرائحة التونسية على عطنها ودبقها...