بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/09/05

ساحة الكوريدا التونسية


قد يتبادر إلى ذهن قارئ عنوان هذه البطاقة انه ثمة مشروع ما يتعلق بتشييد ستوديو ضخم لتسجيل الأغاني وتوزيعها والسهر على حفظ حقوق منتجيها، ستشرف عليه وزارة الثقافة مثلا، ويكون هذا الاستوديو مشروعا وطنيا يحتضن أكثر من صوت تونسي فيحميه من آفة اليأس والاندثار فوق سطوح العمارات وبين جدران قاعات الأفراح الموسمية...أو قد يتبادر إلى ذهن أكثر من حالم أن أضخم ستوديو فن بالعاصمة هو مشروع فني اتفق أكثر من فنان وفنانة على التشارك بالأفكار والأموال في إنشائه بُغية التحصن من طوفان الرداءة والبلادة «الفنية» التي تتخلل تفاصيل أيامنا من كل الجيوب الممكنة، وأيضا لإنتاج أعمال فنية قد تختلف عن السائد المكرور وقد تنأى عن هوس «تشذيب التراث» الذي بات ينهش أية بارقة إبداع موسيقية أو غنائية...
قد تتبادر هذه التأويلات بشأن هذا العنوان، غير انه لا يحتمل في ذهن كاتبه أكثر من تأويل يتيم ومن فكرة يتيمة نخرت رأسه مُذ وطأت خطاه ساحات العاصمة العمومية ومحطات وسائل نقلها الحضرية إلى حد ما، بدءا بساحة برشلونة ومرورا بساحة الباساج وصولا إلى محطات باب الخضراء وباب عليوة وأغلب المحطات النهائية لخطوط وسائل نقل سكان تونس الحاضرة.
فكرة يتيمة «تقرفصت» في تركيب العنوان بعد أن كانت تتلبس بأصابعي كلما ألفيت نفسي محاصرا ببوارق «المزود» و «الراي» و «الفن الشعبي» و «الذّكر» و «الحضرة» و «مواعظ الشيوخ» بأصواتهم تنوس نواحا ونشيجا... وشتى ضروب فنون القرع والطبل تخرُم أذني وأنا رابض (وقوفا) بانتظار حافلة صفراء قد تأتي في موعدها وغالبا ما لا تأتي...
هكذا، في ساحة برشلونة ـ وبالمثل في كل ساحات العاصمة وأحوازها ـ يُلفي أي مواطن منهوك القوى، مقطوع الأنفاس، يلفي نفسه محاطا ومحاصرا بتقاطعات عجائبية تثقب انتظاره المرير بأصوات مكبرات الصوت تتدافع نحوه، والجة كل ثقب فيه ليطفح داخله بالغثيان... وكثيرا ما ذكّرتني «برشلونتنا» المحلية بـ «برشلونتهم» المتوسطية، ذكّرتني بساحات «الكوريدا» الاسبانية، فلم أجد فرقا بين مستلقي حافلاتنا الصفراء ومصارعي الثيران الهائجة، وبالمثل صرت أرى حافلاتنا الصفراء (بسائقيها)، لا ينقصها إلا قَرْنَا ثور اسباني، وهي تتلوى بعجلاتها وصديدها بين أرجل المواطنين وأرصفة المحطة... محطة ساحة برشلونة التونسية!!!
هكذا، في ساحة برشلونة، وبالمثل في كل ساحات العاصمة وأحوازها، ينتصب أكثر من كشك لبيع السجائر وصحف معلومة وبطاقات بريدية وبعض مما خف وزنه وغابت صلوحيته، وأساسا تبيع هذه الأكشاك الشرائط المسجلة والأقراص الليزرية لكل أنواع الموسيقى والغناء، ما عدا الموسيقى الهادئة والهادفة، وما عدا الأغاني التي يمكنها أن تنتشل ضحايا الثيران الصفراء، مواطني ومواطنات الإدارة التونسية ومؤسساتها العمومية والخاصة ومدارسها ومعاهدها، من حالة «العصيان الميكانيكي» الذي تمتاز بها حافلاتنا الصفراء من دون غيرها...
هكذا، في ساحة برشلونة تحديدا يمكن لطالب أو أستاذ أو جامعي أن يتصفح مثلا «يوميات شارل بودلير» أو كتاب «قصة الحضارة» أو رواية «وقائع المدينة الغريبة» لعبد الجبار العش داخل مكتبة «المعرفة الجذلى» وجسده يقاوم هستيريا الهزّ والرقص على قرع طبل يتسرب إلى المكتبة من كل الأكشاك المنتصبة كالفقاقيع ببرشلونتنا، ويكاد صاحب المكتبة أن يُجن فيجيب حريفا بأن كتاب «الحريم السياسي» هو لفاطمة بوساحة وليس لفاطمة المرنيسي!!!
هي ذي ساحات العاصمة العمومية ومحطات حافلاتها الرئيسية، كلها، مثل بيوت النحل، تختلط فيها أصوات الباعة بحناجر زينة القصرينية وسمير الوصيف، ويتماوج فيها دخان الحافلات بشجون الشاب خالد والشابة لويزة ويتشابه فيها هدير المحركات الميكانيكية بحشرجة جورج وسوف وسماجة هيفاء وهبي... وتتقاطع فيها الأرجل والسيقان بمواويل الصالحي وأغاني البدو محفزين على الهجران بأغنية تطفو بين نشاز ونشاز «يا البابور خرجني من لا ميزار»!!!
هي ذي أماكننا العمومية، لا احترام فيها للعمومي المشترك (لكأن الرداءة صارت العمومي المشترك الوحيد) !!! يحتلها صبيان الأكشاك بمعاكساتهم البدائية للعابرات والمنتظرات... وباختياراتهم «الغنائية» التي تصير لفرط ترديدها ما يطلق عليه «الذوق العام» وما يتهافت المرُوَّضُون عليه لاقتنائه.
هي ذي نقاط عبورنا تحكمها أصوات قادمة من عالم الدواب بثغائها ونهيقها وبعبعتها فتجعلها جحيما يوميا نُجْبَرُ أكثر من مرة في اليوم على التلظّى بناره.