بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/03/31

زيارة...


كثيرا ما زارته على غير موعد داخل غرفته الصغيرة. بعد أن يأس من استمالتها. دخلت عليه هذه المرة، عارية تماما من المساحيق اللزجة والملابس الشعشاعة. متمنعة، كعادته بها، سقطت بين يديه مثل ورقة بيضاء.
فتح آلة التسجيل لينساب منها صوت فيروز كندى أول الربيع وهي تشدو "عندي ثقة فيك"... وتبلل قلبه فرحا بهطول المطر داخل صندوق اللحم الذي يحمله...
أجلسها فوق مكتبه بعد أن أزاح عنه كل الأوراق المتراكمة في غير ترتيب وأسقط الأقلام الجافة والحبرية والأقراص الليزرية، فظلت متمنعة غير راغبة. قام من على كرسييه واتجه نحو السرير الملقى تحت اللوحة الزيتية التي تغطت بالغبار وبخيوط العناكب. تركها تستلقي فوقه، فلم تلن ولم تبد أي اهتمام بلهفته وتحرّقه لها. حاول أن يخاصرها مثلما كان يفعل ذلك مع كل فتاة يصطادها من الشارع فلم تتركه.
شاهدها تجري نحو الغرفة الثانية التي يرصف على مساحة جدرانها الثلاثة مئات الكتب والمجلات والصحف القديمة المهترئة الأطراف، والمحشوة كيفما اتفق فوق المحامل الخشبية، فجرى خلفها مثل طفل صغير يلهث وراء كرة تسبقه. حاول أن يحاصرها في ركن من أركان الغرفة المظلمة غير أنها أفلتت من قبضته، وعادت مسرعة الى الغرفة الثانية .
وقفت متكئة على حافة النافذة المفتوحة على الشارع الطويل الممتد أمام بيته. تركها واقفة وذهب ليعد لها فنجانا من القهوة الممزوجة بحبات الهيل على ناره هو لا على نار الموقد... عندما كان البن يفور على رسله كانت أصابعه ترتب لها طبقا من الثمار والفواكه: تفاحة، اجاصة، عنقود عنب، حبتي مشمش، برتقالة، تينتين، حبات كرز، سفرجلة، حبات فراولة، حفنة توت ورمانة مفركة...
سمع طرقات خفيفة تنقر الباب الخارجي. نهض ليفتح ويعرف من الطارق. كانت جارته العجوز جاءت لتسأله إن كان بإمكانه أن يترك لها البيت غدا للمعزين لأن زوجها المٌقعد مات البارحة في منتصف الليل. أجابها بنعم وهو يجهد ذاكرته ليتذكّر آخر مرة شاهد زوجها... حين يئس من تعقل ملامح وجهه ترحّم على روحه وأوصد الباب على حزن العجوز وصوت المرتل الذي بدأ في اختراق أغنية فيروز.
أطرق برهة وغاب رأسه بين يديه كمن استهلكته الحركة... مالت عينه تلاحق... ما تبقى من بياض الغيمة التي خلّفتها الطائرة... رحلت... كانت الفكرة تدخل في الحلم... كانت تلك الفكرة التي زارته في جراب الوحدة والإفلاس العاطفي قد رحلت من النافذة... رحلت وتركته لفنجان القهوة وطبق الثمار والفواكه ولعزاء المعزين... رحلت عنه بعد أن أسرت بيته بلعنة الحنين وضمخت مخدعه برائحة العطش...