بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/06/30

تراتيل بحرية (قصة قصيرة)

"... ثم رأيت البيت المعمور, فإذا هو قلبي"ابن عربي

أصل الخرافات هاتف شوق... وأوّل الأساطير موعد مع اللاّمنتظر, ترتّبه مفارقات عجيبة, مخاتلة ومباغتة, لا تترك لك فرصة لاستيعاب ما سيحلّ بك ولو بعد دقيقة واحدة من الزّمن اللاّممسك. توليفة عجائبيّة تدفعك للتواطؤ مع لون الجدران مثلا,
مع رائحة الممرّات أو خذلان أزرار المصعد الآلي, مع أحذية النّزلاء وألوان ربطات العنق... ومع صوتها... صوتها هي النّازلة من سلالم الطّوابق العليا إلى بهوك السّفلي... هي الّتي تطوف بك وتجعلك تركب ظهر الصّدف المرتّبة بنظام سريالي وأنت تركض كطفل من أسفل إلى أعلى... من بهو الاستقبال إلى شرفة الغرف... من الأرضي إلى السّماوي...
صدفة تجد رأسك مثقلة بالبيرّة في قاعة استقبال أحد النّزل الفخمة, وعلى غير موعد يطفح قلبك بسكون البحر الفجريّ, وبزغب صرّتها الحليبيّة بإحدى شرفات الطّوابق العليا, حينها تفقد أصابعك واحدا واحد. لا يهمّ إن كان خنصرا أو بنصرا
المهمّ أنّه غار في الصلصال المسكون باضطراب الأنفاس وتقطّع اللّهاث... ويضيع المتبّقي من جسدك المرهق في ارتجاف الشّهقات الخجولة.
... إعترضها في الممرّ الطّويل الممتدّ من باب المصعد الآلي إلى خارج جناح النّزل بالطّابق السّادس. تركها تنهي حديث مجاملة مع أحد النّزلاء, يبدو أنّه كان داخل تلك العلبة الآلية, مثلما يحدث غالبا في مثل هذه الأماكن.
سألها عن رقم الغرفة الّتي حجزت لها من طرف إدارة النّزل, فأجابته أنّها الغرفة رقم 1711.
ابتسم وهو يقول:
ـ جيّد. إذن سيفصلنا جدار واحد هذه اللّيلة. جيّد جدّا.
ـ لماذا, هل حجزت الغرفة رقم 1710 أم 1712 ؟
ـ الأولى, الأولى. غرفة 1710 .
ناولته المفتاح وهي تهمس بدلال:
ـ دلّني على الغرفة إذن, لأرى سمك الجدار الفاصل بيننا.
تباوسا خلسة في الممرّ وهما يمدّان الخطى نحو الغرفة.
لم يضمر أيّ شيء في ذهنه. ولا هي. كان هو مشتّتا بين زجاجات البيرّة الّتي تركها فوق المنضدة ببهو النّزل حذو مضيّفه , وبين جثّة الرّجل الّذي يقاسمه غرفته رقم 1710 , وبين الفسحة البحريّة الّتي تواعد عليها معها قبل ساعة, أمّا هي فكانت سعيدة لتخلّصها من دعوة صديق لها لشرب قهوة خارج النّزل بضاحية سيدي بو سعيد, متعلّلة بالإرهاق والتّعب.
كانا هكذا, هو مشتّت وهي سعيدة, إلى أن ألفيا نفسيهما داخل عرفة مرتّبة بعناية فائقة... غرفة بابها مغلق على النّزلاء, ونافذتها البلّوريّة مفتوحة على الأفق البحري الممتدّ إلى آخر البصر... غرفة معدّة مسبقا للرّقص على خوان نحاسي من جمر الشّهوات المصهودة...
قطع الصّمت قائلا:
ـ تركت بيرّتي والأصدقاء فوق الطّاولة بالبهو.
فأجابته دون تفكير:
ـ تخلّصت من دعوة ثقيلة مع صديق قديم.
ـ والفسحة البحريّة معي. هل نسيتها أم هل ستتخلّصين منها هي الأخرى؟
ـ لو نزلنا إلى أسفل لرآني صديقي، وأنا الّتي أوهمته بتعبي ورغبتي في النّوم.
ـ إذن سأدعوك لفسحة بصريّة على البحر من نافذة غرفتك.
صمتت قليلا ثمّ سألته بصوت مغناج:
ـ وزجاجتك الطّيّبة, كيف تتنازل عنها؟
سحب الجزء المتبقّي من ستارة فستقيّة اللّون كانت تغطّي بلّور النّافذة إلى آخر ركن الغرفة, ثمّ سحب سيجارة من علبته وأشعلها وهو ينظر إلى ضوء القمر الّذي بدأ ينكسر على ماء البحر, و قال لها :
ـ سأشرب البحر بدل البيرّة. ما رأيك؟
لم تكن في حاجة كبيرة إلى فطنة استثنائيّة لتعرف أنّه الآن يستفزّ ذكائها وحواسّها معا, أو هو يراهن عليهما كما يوهمها دائما. كانت متأكّدة تماما أنّه يعني ما يقول...أنّه سيشرب البحر... وكانت هي البحر... بحره.
لم تقل شيئا. تقدّمت منه, وهو لا يزال واقفا أمام النّافذة. سرّحت بصرها في الزّرقة اللاّمتناهية وهي ترسم بأصابعها خطوطا عموديّة وأخرى أفقيّة على امتداد المساحة البلّوريّة المتاحة أمام يديها, ثمّ مسكت السّيجارة من يده. سحبت منها نفسا ممتلئ قبل أن تعجن نصفها في قعر المطفأة بتلذّذ خفيّ, ثمّ التصقت به وبدءا يسكران سويّة وهما يتطاوقان ويتمايلان وسط الغرفة كتوأمي فراش يكابدان لحظة خروجهما من الشّرنقة.
ظلاّ هكذا برهة من الزّمن إلى أن أسقطهما السّكر فوق السّرير, جذبها إليه وبدأ يغوص في أعماق البحر...وكان البحر يبتلعه مرّة... ويلفظه أخرى.
أسند قلبه على زندها الرّخامي الملمس وصار عندها كالغريق النّاجي, لا يني يمسح بلسانه طحالب صرّتها مدّا, وجزرا يهمس في أذنيها بحروف متعثّرة بلسانه, وهو يمرّر شفتيه متلمظا صدفتيها الحليبيّتين ويمزمزهما كحبّتي زبيب, ويقول لها:
ـ ملح البحر يصير سكّرا في لساني, يا بحري السكّري.
تتبسم في حياء مصطنع, وهي تسحب اللحاف الأبيض إلى حدود صدرها الناهد وتهمس له :
- كفى. كفى الآن, انك ستبتلع البحر بأكمله ولن تسكر أبدا أيها الرحمان الرجيم.
ضحك الاثنان وتباوسا من جديد ثم رفعها من خصرها إليه وعاودا الوقوف قدام نافذة الشرفة المطلة على البحر المتلألئة مياهه تحت ضوء القمر. ظلا ساكنين ينظران إلى البحر طويلا... طويلا حتى تبدت لهما خيوط الشمس مارقة عن الأفق البعيد خيطا خيطا, وتشرع في امتصاص ضوء القمر الفضي ومحو ظلمة السماء المرقطة بحفنة نجوم لا تزال منثورة هنا وهناك وكأنها تزاحم في كبرياء موهوم أشعة الشمس.
تركها لتأخذ حماما صباحيا وترتب شعرها وزينتها وتعيد لجسدها تماسكه, بعد أن تواعدا على احتساء قهوة الصباح ببهو النزل بعد نصف دقيقة.
دلف إلى الغرفة رقم 1710, غرفته المفترضة في جذاذات النزل. وجد جثة الرجل كما تركها البارحة, شخيرها يتكسر على الجدران البيضاء, وعلى النافذة الستائر الفستقية تحجب زرقة البحر.
أخذ بسرعة حماما باردا أنعش جسده ثم حمل حقيبته الجلدية وربطة عنقه في يديه ونزل خفيفا إلى بهو النزل أين ألقى جسده فوق أريكة مركونة تحت أحد الأبواق المثبتة في السقف.
ارتخى بثقله لينتظر قدومها وأخذ يدندن مع صوت فيروز المنهمر عليه من السقف - :" شايف البحر شو كبير... كبر البحر بحبك يا حبيبي...".
لم يطل انتظاره فبمجرد أن وضع النادل زجاجة البيرة فوق المنضدة الرخامية أمامه حتى تناهى له صوت شهقة مدوية تأتي من جهة المصعد الآلي للنزل.
رفع بصره فإذا هي تنظر إلى الزجاجة المنتصبة أمامه ويدها على صدرها.