بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/10/18

التلفزة معاك


وحدها التلفزة تدخل إلى بيوتنا من دون استئذان. تستأثر بزمننا النهاري والليلي، وتقوض كل إمكانات التواصل والتحاور بين أفراد الأسرة الواحدة. تمارس علينا كل أنواع الانزياحات المعنوية والأخلاقية... مرة تُدهش الساكن فينا، ومرة تُمعن في استغبائنا واستبلاه عقولنا، ومرة ثالثة ترمينا بالسأم والملل...

تتوزع مهامها أساسا بين الإخبار والتثقيف والترفيه والإبداع أيضا، وما على المستهلك أمام ما يقدمه صندوق العجب إلا أن يختار ويفرز الجيد من الرديء متى استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذا الصندوق بات يمتلك اليوم من السلطة ما لا تحتكم له اعتى الحكومات والأنظمة في العالم...

في تونس، وقريبا من "صناديقنا العجيبة"، أي قنواتنا التلفزية، يمكننا بمعادلة بسيطة أن نقسم الشعب التونسي إلى صنفين من المشاهدين، ونقول بنوع من الموضوعية أن 45 بالمائة يشاهدون البرامج ذات البعد الديني والمسلسلات (النساء خاصة وجحافل كبيرة من الشباب) و45 بالمائة يتابعون البرامج الرياضية (الرجال خاصة) ونترك العشرة بالمائة للنزر القليل من المتابعين للبرامج "الثقافية" وهي أيضا، تقريبا، النسبة التي تخصصها قنواتنا التلفزية لهذه المادة أو أقل.

ولكن الملاحظ أننا في السنوات الأخيرة، ومع بروز البرامج ذات البعد الاجتماعي والقانوني، تقاربت تلك النسب والتقت في مفترق هذه البرامج، بعد أن استأثرت هذه النوعية من البرامج بنسبة كبيرة من المتابعين لها لاقترابها من مشاغلهم ومشاكلهم، رغم أنها كانت في الغالب تبتعد عن تحليل وملامسة عمق المشاكل الحقيقية.

مثل هذه البرامج التي اكتسحت الزمن التلفزيوني واجتاحت بحلقاتها منازل الملايين من الناس وتحولت إلى محور أحاديث المشاهدين في مكاتب الشغل وفي المقاهي وبين ربات المنازل، باتت تمثل خطرا حقيقيا لما بات يُعرف بدولة "القانون والمؤسسات"، ذلك أن أقصى طموح لدى الملايين من الناس هو الوصول إلى هذا البرنامج أو ذاك المنشط أو تلك المنشطة لطرح قضيته على "الرأي العام" وصار الهاجس الأوحد للمواطن المظلوم اللجوء إلى "بلاتو" التلفزة لكسب "تعاطف شعبي" مع قضيته أو لفت انتباه هذا المسؤول أو تلك الإدارة لضيم لحق به أو بأسرته...

بهذه البرامج يسقط الشعار الحقيقي للمواطن المتمثل في "القانون" ليأخذ مكانه شعار جديد هو "التلفزة معاك"، ولئن توهمنا هذه البرامج بأن دورها لا يتعدى الوسيط بين المواطن والقانون أو الحق، فان ذلك لا يشفع لها السقوط الواضح من جهة أولى في "الانتقائية المسالمة" التي تبتعد قدر المستطاع عن مكامن الفساد الحقيقية وارباك السكون المعمم في أرجاء المؤسسات والادارات، وفي "استثمار الحالات" التي تقدمها لكسب اكبر عدد من المشاهدين وبالتالي اكبر عدد من المستشهرين من جهة ثانية، وهو الهدف الرئيسي لمنتجي هذه البرامج الذين لا هم لهم سوى مراكمة الأموال على حساب مشاعر الناس وعواطفهم.

بهذه البرامج تحولت وجهة المواطن من المؤسسات القضائية والإدارية باعتبارها الراعية الأولى والأخيرة لحقوقه ومصالحه، وانتقلت إلى أبواب المؤسسات التلفزيونية وهواتف المنشطين والمنشطات، وهي وجهة تنذر بالخراب لأنها لا تبني الوطن ولا تخدم مصالح المواطن بقدر ما تخدم مصالح أشخاص بعينهم.

2010/10/07

تحيا السينما


عندما يقول المخرج الفلسطيني نصري حجاج إن مدينة نابل ستنافس "كَان" الفرنسية وتطوان المغربية ووهران الجزائرية في تحويل الصورة السينمائية إلى أيقونة لازوردية، فإنه حتما لا يلقي الورود إلى عاصمة الوطن القبلي التي كرمته واحتفت بآخر انتاجاته السينمائية "كما قال الشاعر" ضمن لقاء نابل الدولي للسينما العربية...

وعندما يقول المخرج التونسي إبراهيم لطيف بأن لقاء نابل للسينما العربية لقاء فريد من نوعه ومغامرة محفوفة بالإصرار والمكابرة فهو حتما لا يجامل ولا يمدح من سهر على هذا اللقاء وأثث لياليه وأيامه بالحب قبل التعب...

وعندما يصرح الممثل محمد علي بن جمعة بأعلى صوته أمام كاميرا طلبة المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل ويقول "تحيا لغة السينما وتسقط لغة كرة القدم" فانه حتما يعبر بكل تلقائية وعفوية الممثل المتعطش للجمهور عن سعادته بملاقاة جحافل المشاهدين المتوافدين على المركز الثقافي نيابوليس بنابل لمشاهدة السينما المختلفة والمغايرة...

وعندما تتفق المخرجتين السوريتين لمى طيارة وعلياء خاشوق والجزائرية حجلاء الخلادي والمغربي إدريس شوكة على أن من يقوم بالفعل الثقافي يجب أن يكون مهووسا قبل أن يكون موظفا، فإنهم حتما لا يقصدون مدير المركز الثقافي نيابوليس السيد الطاهر العجرودي في شخصه وإنما يقصدون تلك الفورة المتوثبة بداخل كل شابة وشاب من طلبة المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل وكل من تحركت خطاها أو خطاه بثبات بين أروقة وقاعة هذا الفضاء الشامخ في قلب مدينة نابل...

وعندما "تجازف" المؤسسة الثقافية الرسمية، في شخص السيد لطفي المسعدي المندوب الجهوي للثقافة والمحافظة على التراث بنابل، بإطلاق هذا اللقاء وتجند لإنجاحه كل الوسائل، فإنها حتما تراهن على أن يكون مولودها ناضجا في سنته الأولى وواثقا في خطوته الأولى...

خطوة أولى مؤسسة لدرب طويل سيُشرع نوافذ أوسع للحلم ويدخل مريدي الشاشة الفضية إلى عوالم أكثر انفتاح ويمنحهم مفاتيح لم تصدأ بعد بفعل التجارة والاستهلاك المفرط حد الهلاك...

لقاء نابل للسينما العربية، باختياراته السينمائية، بضيوفه، بجمهوره، بإدارته، وبمن أراد له الاختناق في السر والعلن... أثبت بعد دورته الأولى انه "بروفة" ناجحة لفعل ثقافي جاد ومختلف ومؤسس، واثبت أن مركزة الثقافة في العاصمة وَهمٌ لم تنجح جدران المؤسسات الثقافية المنتصبة في شوارع العاصمة وأزقتها في تثبيط عزائم وإصرار من أصابتهم لعنة الثقافة الحقيقية البعيدة عن التنشيط الثقافي العابر والمهووسة بكتابة الجمل الاسمية الباهتة...

لقاء نابل للسينما العربية يبدو انه سيكون مثل ذاك الديوان الشعري الذي نحتفظ به داخل غرف نومنا لنختلي كل ليلة بقصيدة منه ونحلم بالتي ستليها... وبما ستحمله لنا من فوائض دلالية وجمالية...

وأن نحلم بما لا ننتظر هو الحلم في ذاته...