بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/05/31

ريحة البلاد

لا أخال تونسية واحدة أو تونسيا واحدا، كبيرا كان أم صغيرا، يمكنه أن يتوه عن رائحة البلاد في جهاتها الأربع... رائحة الفل والياسمين تعبق في ضواحي العاصمة، رائحة السمك تتماوج على الموانئ، رائحة المواد الكيمياوية تخنق السماء في المناطق الصناعية والمنجمية، رائحة الحشائش تسري في الصدور على المرتفعات والجبال... رائحة البنزين في الطرقات السيارة وغير السيارة... رائحة الكتب القديمة، رائحة البن والخبز... وطحالب البحر وروائح العرق تسقي الأراضي الفلاحية...

روائحنا التي ننام ونصحو عليها... روائحنا التي كبرت معها حواسنا وصارت ألصق بنا من جلدتنا... نحب بعضا منها، نتقزز من أخرى ونشتهي البعض الآخر من تشكيلة الروائح التونسية الخالصة...

كل هذه الروائح وغيرها مما نسيت أو تجاهلت، كلها تعنيني وأحبها أكثر حتى من «باتريك زوسكيند» في روايته «العطر»... ومن دون استثناء فقد بتُ أكره وأمقت أغنية الراحل محمد الجموسي «ريحة البلاد» التي أصبحت النشيد الرسمي لمهاجرينا وعمالنا بالخارج... الكل في المطارات والموانئ التونسية يرفعها شعارا للتعبير عن شوقهم لتراب تونس ورائحتها... وأنا لا أتعارض مع أحاسيسهم تلك لأنني عشتها بالفعل وأعرف ما معنى غربة وسفرا وغيابا...

ولكن، يا عمالنا المهاجرين ويا من تدرّون العملة الصعبة ويا من عرفتم وشاهدتم تفاصيل الحضارة والحداثة... رفقا بنا عندما تؤوبون لأرضكم تقضون فيها اشهرا أو أياما معدودة... رفقا بشواطئنا وطرقاتنا... رفقا برائحتنا التونسية التي صارت تتبخر كلما عدتم... تتبخر بفعل استهتاركم في طرقاتنا... بفعل تفاخركم وتباهيكم المبالغ فيه واللامبرر... رفقا بشبابنا الذي تحرضونه ـ من حيث لا تقصدون ربما ـ على ركوب قوارب الموت... رفقا بجيوبنا تخرّبونها كل صائفة بالأورو... رفقا بأنفسكم فلن تسكنها الا الرائحة التونسية على عطنها ودبقها...

2009/05/20

النخل يغني لا يبكي


كأنها كانت تنتظر أَوْبَتَهُ الأخيرة... لبِست كامل زِينتها، السنابل الشامخة في خضْرتها، شقائق النعمان متبرّجة في حُمْرتِها، الحساسين والطيور تُزغردُ، السماءُ تفيض في زُرقتِهَا، والشمس طلعَتْ يومها كالخُبزة الفَائِرة لتسطع على أرض بوعرادة يوم 9 ماي وهي تحْضُنُ ابنها الذي حملها في قلْبه وفكرهِ وحبرِهِ طيلة 62 سنة.
عادَ إلى ثَراها مُلتحفًا علم البلاد، متأبطًا أجمل الأزْهار، مُتأنيا في مشْيَتِه، خافتًا في صوته، كأن كلّ الضحك والزهْوِ يملأُ مُحياهُ...
وُلد الطاهر الهمامي بالزغاريد... ومات أيضا بالزغاريدِ... فَلْيَمُتْ الموتُ في كَمَدِهِ وحَسَدِهِ من صندوق الفرح الذي أتاه...
كانت مقبرة سيدي جابر ببوعرادة أجمل من بستان أندلسي وهي تفتح قوس مدخلها لمئات الخطى تدخلها في خشوعِ وتأنِّ... عمّال، فلاحون، طلبة، أساتذة جامعيون، محامون، عاطلون، سياسيون، نقابيون، اعلاميون، قضاة... كلهم تَوَافَدُوا على مدينة بوعرادة بدعوة طارئة ومُلحّة من صدِيقهم ورَفيقَهم وأستَاذهم وزميلهم وإبنهم الطاهر الهمامي... فلم يتردّدوا ولمْ يتخلّفوا عن الموْعِد...
في تمام الساعة الثانيّة بعد الظّهر من يوم السبت 9 ماي 2009 انطلق مَوْكَب جنازة الطاهرة الهمامي من بيت شقيقه المحامي الهادي الهمامي الكائن بشارع محمد علي الحامي، وبعد زغَاريد الحاضِرات ارتفع صوْت مرتّل القرآن في السيّارة التي تحمل نعش الرّجل... ليُرافِقَهُ إلى مقبرة سيدي جابر أين تنتظرهُ على بعد كيلومترين تقريبًا.
على جَسَده الـمُسجَّى داخل الصندوق كان علمُ تونس يحنُو على بياض شَعْره وحُمرةِ خدّيهِ وطولهِ الفارِعِ وابتسامته التي وُلدَ بها... وعلى صدْرِهِ تفتّحتْ باقتَانِ كبيرتَانِ من الورْد الأحْمر... ولاَ أخَالُ الطاهر كان ساهيا في نومتِهِ الأبدية عن الأحاديث التي تناثرت كحبِّ القمْحِ على مسافة الكيلومتريْن الفاصلين بين بيْتِ شقيقه وقبْرهِ...كنتُ أراه يكسر أذنيه ويقرّب رأسَه قليلا ـ كعادتي به دائما وهو يتحدّثُ إليَّ عندما كنتُ طالبًا لديه ثم صديقًا يقْرأُ كل ما أكْتُبُ ـ ليستمع إلى النّاس التي رافقت صندوقهُ وهمْ يتحدّثون عن كُتبهِ وشعْرِهِ ونقْدِه ومقالاته وخجَلِهِ وحنوّّهِ على الطلبة ومواقِفه ونضالاَته النقابيّة... وكان يسمع أيضا في نومته الأبديّة، صوتَ الفنان محمد بحر يصلهُ من باريس يغنّي له «أرى النخلَ يمْشي واقفًا» وهو يواري دمعته ليظلّ صوته شامخا في أوتار عوده مثلما كان الطاهر شامخًا في قصيدته...
على بُعد بضعة أمتار من القبر الذي سيضمُهُ تكوْكبت جموع المعزين حول صندوق الفرح الطاهر لتتوالى كلمات التأبين التي تعطّلت فيها لغة الكلاَم وانداحت أمام الزفرات المكتومة والدُموع... وكانت كلمات التأبين بحجمِ صفات الرجل وبالمهمات التي نذر لها عمرُه...الطاهر الهمامي الشاعر، الطاهر الناقد، الطاهر أستاذ التعليم الثانوي، الطاهر استاذ التعليم الجامعي، الطاهر مؤسس الطليعة، الطاهر مؤسس أيام الشعرية بمنوبة، الطاهر النقابي، الطاهر الانساني، الطاهر الكاتب الصحفيّ، الطاهر سفير الشِّعر التونسي، الطاهر نصير المرأة والطبقة الشغيلة...
عرائس الشعر...
كانت كلمة التأبين الأولى لعميد كلية الآداب والعلوم الانسانية بمنوبة الاستاذ شكري المبخوت التي توجه بها الى زملاء الفقيد وطلبته وعائلته وأصدقائه وضمنها عدّد خصال استاذ الجامعة التونسيّة الطاهر الهمامي الذي جمَع بين الصّرامةِ وطيب المعشر وهو ما جعلهُ صديق الجميع، ذاكرا حسّه النقدي الرفيع وإيمانه الأصيل بالحرية ودفاعه عن شعبية الجامعة وديمقراطية التعليم... عن العقلانية والعلمانية فاعتز طلبته بالاختلاف حول دروسه، وستذكر كليّة الآداب والعلوم الانسانية بمنوبة للطاهر الهمامي مبادرته صحبة صديقه الجامعي والشاعر حسين العوري بتأسيس الأيام الشعرية بها التي صارت مدرسة يتخرّج منها شعراء الشعر الحديث في تونس اليوم، واصفًا الشاعر بأنّه مسكون بعرائس الشعر التي تحرّضه دائما على الثورة على اللغة والقوالب الفنيّة وطرائق القول، مذكرًا بتأسيسه مع الشاعر الحبيب الزناد ما أصبح يعرف بغير العمودي والحرّ في السبعينيات من القرن الماضي ليعود إليها بعد 20 سنة في عمل اكاديمي تمثّل في اطروحة دكتوراه دولة، ولم يُغَالب العميد الاستاذ شكري المبخوت دموعَهُ وهو يقول بأنّ أروقة الكليّة وساحاتِها الخضراء لن تنسى مرح الطاهر الطفولي وخطواته الواثقة...
حبرُ الستين
الأخ سامي العوّادي الكاتب العام لجامعة التعليم العالي والبحث العلمي لم تقل كلمته التأبينية باسم الجامعة حرارة وحسرة على فقدان الطاهر الهمامي ولم يُغالب دموعه وهو يودّعه، وقد ذكّر الأخ سامي العوّادي بالفاتورة الضخمة التي تكبّدها الطاهر الهمامي جرّاء نضالاته النقابية لما كان أستاذا للتعليم الثانوي ولما أصبح أستاذا للتعليم العالي حيث لم يتخلف عن أي تحرّك نضاليّ ولا عن الاجتماعات النقابيّة، وعاش كلّ الازمات والصعوبات مذكرا بوقفته الشجاعة أيام الاضراب الاداري الذي حرمه من التمديد في فترة تقاعده في الجامعة التونسية ومع ذلك تحمّل تلك المظلمة بشموخِ وأنفةِ وعزةِ نفس ونظَم فيها قصيدة تمّ نشْرهَا في العدد 14 من نشريّة الجامعي وكان عنوانها «حبر الستين»، مذكرا بإصرارهِ رغم المرض، على انهاء تأطيره للطلبة الذين يُشرف على رسائل بحثهم... كانت الدموع تملأ عيني الأخ سامي العوادي وهو يقول «مَا أقْسى هَذِهِ اللحظة علينا، ما أقسَاهَا على بنْتَيْك.... وداعًا... وداعًا... وإلَى اللّقاء».
عربة الأحرار
الكاتِب والصديق الحبيب الحمدوني ذكّر في كلمتِه بإسم رابطة الكتّاب الأحرَار، بمواقف الطاهر الهمّامي من الكتابات الجامدة غير المتحرّرة والتزامه الواعي بطريق الحرية والتحرّر في كتابة الشّعر والنقد ليعِيدَ النّظر في الرؤى والمفاهيم ويخرج الشعر من عليائِهِ وسياجهِ النخبوي وفتحه على المتداول من الكلام ووشَّحهِ بنسيج العامة فنزلَ به الى باعة الروبافيكيا والشيّاتين والمعطّلين والمهمّشين والواقعين تحت سطوة الفاقة والفقر....
الطاهر الهمامي، مثلما جاء في كلمة الكاتب الحبيب الحمدوني، فصل في دنياه بين عربتين، أولى للمُناضلين والأحرار وكل التواقين للانعتاق والتحرّر وثانية وصفها الطاهر بنفسِهِ كانت «للسواقط والساقطين والسُّقاط ومن سقطُوا أو اسّاقطوا وألفوا السقوط والانحطاط» وكان الطاهر قائدًا للعربة الأُولى ونارًا لا ترحم على من اختارُوا العربة الثانية... مذكّرا بكلمته عن رابطة الكُتّابِ الاحرار وموقفه منها إذ قال «حيث ما تكون الحرية أكون».
قفة الشعب...
تتالت كلمات التأبين لكل من الاستاذ رشيد خشانة الذي ذكّر بصداقته مع الفقيد ولقاءاته به عندما كان يحمل لرفاقه في سجن برج الرومي «القفة» مُدجّجة بجريدة «الرأي» وجريدة «الشعب» وكيف كان يُعامل والدهُ في منزلهُ بجهة صلامبُو بكلّ حب وحنوّ، كما أبَّنُه الاستاذ نورالدين البوثوري والاستاذ توفيق الحوجي والمناضل عمّآر عمروسيّة والاستاذة المحاميةراضية النصراوي التي ذكّرت بدفاع الطاهر الهمامي عن المرأة المضْطَهِدة في مؤسسةِ الزّواج وكأني بها تقول مع باقي الحاضرات في موكب الجنازة مع الاستاذات الجامعيات والمحاميات والقاضيات والطالبات والعاملات، ها نحن هنا معك يا صديقنا ويا رفيقنا ويا استاذنا نُهدّم الأسوار واحدا تلو الآخر، فنُزغردُ لرحيلك ونُؤبنك في المقبرة... فلا تخشى ظلمة القبْر وأنت من ساهم بكل ما ملك مع كل أحرار العالم في زرع وردة يانعة أينما حللت وفي كل ما كتبت...
كانت صلاة الجنازة خاشعة، وكان مَوْكِب تقبّل التعازي مهيبًا بعد أن ووُريَ جثمان الطاهر الثرى، فازدادت شقائق النعمان حُمرة، وتَسامقت سنابل القمحِ في خُضرتها ونضجت الشّمْسُ كما تَنْضج الخبزة بنار الفرْن وعرق الخبّازِ...
القرمادي والهمامي ...
مثل طريق التّشييعِ كانت طريقُ العودة من مدينة بوعرادَة مشحونة أسًى على فقداننا قامة بمثل قامَة الطاهر الهمامي في الشعر والنّقد والنّضال والمواقف الانسانيّة، وحممًا على هذا المارد المتجبّر عليْنا وهوَ يستلّ من بُستان أحبتنا ورموزِنا كلّ لحظة اسمًا وعلمًا...
كنتُ وحدي في السيارة ودروس الطاهر تحضرني خاصة سنة 1999 لما كنت طالبا عنده بقسم العربية بكليّة الآداب والعلوم الانسانية بمنوبة وكيف كان يُهاتفني ليلاً ليحدّثني عن مقال ما كتبتهُ أو قصّة نشرتها أو حوارًا أدبيا أجريْتُهُ.
آخرُ مرّة جلست إلى الطاهر الهمامي، أستاذي وصديقي، كان قبل وفاته بثلاثة أسابيع تقريبا عندما دعانِي أنا ورئيس التحرير الأخ محمد العروسي بن صالح لإحتساء قهوة وعلى نخبها أهدانا نسختين من كتابه الجديد والأخير «بعْلٌ ولو بغلٌ»... وكانت جلسة قصيرة رغمَ طولها في الزّمن، فعلى مدى ساعتين تقريبا لم يكف الشّاعر الطاهر الهمامي عن الضّحك والمرح في تحديّه المعهود للآلام والأسقام...
هل ماتَ الطاهر فعلاً؟ نعم لقد مات ورحلَ ولن نراه ثانية أو نكلّمَهُ أو نسْمعهُ ؟ ولكنّ هَلْ سيموت فعلاً لو تُطلق كلية الآداب والعلوم الانسانيّة بمنوبة اسمَ الطاهر الهمامي علىَ أحد قاعات الدرس التي صال وجال فيها كثيرًا وطويلاً... مثلما فعلت كلية 9 أفريل مع صالح القرمادي صاحب «اللحمة الحيّة»...
حتمَا لن يموت الطاهر مثلما هو القرمادي وستظلّ أنفاسُهُ تجوُب الكليّة وكلماته تُرْقص مشكاة الأنوار، ولا أخال أن هذا بعزيز على رجل وهب حياته لأجل طلبته ومؤسسة جامعية...أنشد لها الضياء والنور...

2009/05/17

Anti - vierge أو مسودة حياة


مثل لبؤة منطلقة في أفق لانهائي دحرجت الكاتبة التونسية مريم البوسالمي جملها وصورها وأفكارها في حقل من الألغام اللامرئية واللامعلنة دون كبير ارتباك أو تردد أو خوف...

دفعته لنا نحن القراء، بكل إمكانات الانفجارات المحتملة مع كل صفحة ندخلها، لتتركنا نحاول عبثا بطرق "هوا مائية" تفادي احتمالات شلل عضوي قد يصيبنا به لغم في مرورنا بالصفحات أو شلل فكري قد يقض سكينتنا الموهومة لألفتنا القديمة بتلك الكتب التي تشبه البيوت بعتباتها الثابتة وأبوابها المستطيلة وجدرانها الملساء... ندخلها كما نتصفحها فلا نمسك غير الحَسَك...

"مسودة حياة" ليس بيتا باردا ولا ثابت العتبات أو أملس الجدران... لا باب ندخل منه لكتاب مريم البوسالمي ولا منفذ فيه لننجو من ألغامه...

هذا الكتاب يشبهكَ ويشبهني ويشبهنا جميعا لأنه يحتفل بكل طفل ينتصب للحياة، ولأن كاتبته لم تذهب إلى أي سوبر ماركت لتتزود بواق ذكري في الأدب والكتابة درءا للإسهال الحبري الذي قد يجرف نصها الطفولي بترسانة المعاول القديمة، معاول الرفض المحنطة والجامدة...

مريم البوسالمي في كتابها "مسودة حياة" أثبتت أنها سليلة العصافير، تمقت القيود والأقفاص، وتنعم بالحياة في انتظار اكتمال مشروع موتها، وربما لذلك تكتنز إغماءات الكاتبة بتلك الايروسية التي تشطرنا إلى شطرين مثل تفاحة آدم: شطر للشبق وثان للألم... فنرتبك، مثل بطل الإغماءة الثانية، أينظف يديه أم المسامير العريضة؟

فعبر صور هذا النص وأسلوبه المباغت، ومثلما تُفتض البكارة افتراضا عبر الــsms أو الــchat أو عبر مكالمة هاتفية، يفض كتاب مريم بكارتنا الإسمنتية وحصانتنا الموهومة من أي خط مربك يهتك انضباط السرب الأدبي المطمئن، ويجعلنا نتذكر أن البكارة تنتصب فوقا ولا ترقد في الأسفل، وأن لا فرق بين عقدة الدم وحدود الحبر الأحمر، لأن ختم الصلوحية جاهز لرسم صلوحيات الجودة والخدمة وللتأشير على عبور هذا الجسد أو ذاك إلى مربع الحياة، وعبور هذا النص أو ذاك إلى مربع الانضباط الأدبي وخانة المقبول، فلا فكاك لنا من هذه الورطة إلا متى رسمنا وشما نعلن فيه أننا "Anti - vierge" من الفوق ومن الأسفل، وساعتها يمكننا أن نردم تلك المسافة الفاصلة بيينا وبيننا، أقصد مسافة السبعة أميال وخمسين قدما وحفنة السهول والجبال...

فمسودة حياة مريم البوسالمي يبدو في ظاهره نص موبوء بأنثويته المفرطة في تاء التأنيث، غير أن هتك حجبه البرانية سيمنح قارئه لذة مضاعفة لتحطيم الأوثان الجندرية والأصنام الجنساوية ليرى ذاك الجسد الإنساني الشفاف الذي رسمته الكاتبة بتأن...

يتكثف الزمان في المكان... تختلط هواجس الأبطال بصرير القلم، وتتناثر الأفكار كالبثور على كامل جسد الكتاب لتثبت الكاتبة أن متنها هو فعلا مسودة حياة، وأن كل نص من مجمل المنجز ه عملية جراحية لتغيير الجنس: جنس الطبيعة وجنس الكتابة، فالكتاب ليس رواية ولا هو قصة أو أقصوصة أو مقامة أو سيناريو أو نص مفتوح بقدر ما هو كل هذه الفسيفساء الأجناسية تتبرج على بياض الصفحات ولا تخيطها إلا نقاط الاستفهام المنتصبة صورا وجملا، إذ لم تترك الكاتبة لنفسها منفذا واحدا لتتخلص من شعار حياتها :"بقدر ما سأكشف عن ثورتي...ثورتي ستكتشفني" وهي تخط منجزها الحبري الأول وتعلم أن العثرات إما أن تأتي دفعة واحدة أو لا تأتي أبدا...

وهي بما لهذه الحدية بالذات قررت أن تقوم بعملية "Formatage" لذاكرتها لتدفع لنا بنص آبق ومختلف متنا وشكلا يرفض العيش بصيغة شرطية، ذلك أن كاتبته تعلن في الرسم الماثل في الصفحة (81) بأنها "ستتوقف عن صف الحروف مثلما يستدعي ذلك الاتفاق... فربما تصبح لها معنى" وهذا الميثاق دفع الكاتبة إلى دمج البصري مع النص المكتوب فأعلن الكتاب عن انتحار التصنيفات الأدبية الكلاسيكية، وقد يكون الشاهد الأول على ولادة "الكتاب الكراس" لطبيعته التفاعلية وحرية مساحات التعبير المفتوحة بين الكاتبة الأصلية مريم البوسالمي وشريكتاها اللاحقتان الفلسطينية باسمة التكروري والتونسية حسناء المناعي...

لكل هذا وغيره استحقت مريم البوسالمي أن تحوز لقب "Best Seller" العرب لسنة 2007 بعد أن اجتازت تمرين الكتابة المختلفة وأدخلت قارئها في تمرين قراءة طويل من خلال كتابها "مسودة حياة" الذي أصدرته مؤخرا دار الجنوب للنشر.

2009/05/08

"خطوة القط الأسود" لناجي الخشناوي

خطوة السرد الأولى.. باتجاه أدب خالص

كمال الهلالي (جريدة الصحافة)


عن دار ورقة للنشر، صدر أخيرا الكتاب الأول لناجي الخشناوي على امتداد 104 من الصفحات، ويضمّ الكتاب خمس عشرة قصة قصيرة.

ناجي الخشناوي، من مواليد سبيبة بالوسط التونسي سنة 1975 ومتحصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وينتمي إلى الجيل الجديد الذي قدم الى الأدب، من باب الشغف ومن باب البحث عن حاضن نبيل لهواجسهم ومشاغلهم، وهو جيل يعول عليه، ببساطة لأنه يكتب بشكل جيد.

القصة الأولى من الكتاب «لا الوقت لنا.. ولا الكتابة أيضا».. وهي في الأصل عمود صحفي، تصلح بمثابة بيان، بقدر ما يعترف باستعصاء الكتابة بفعل التفاصيل اليومية ومناخات العصر، بقدر ما يخلص إلى انه ليس هناك خيار ومنفذ سواها، فهي «العتبة الحبرية» التي تخلص الكاتب من هلاميته باعتباره واحدا من السواد الأعظم، لتجعل منه فردا له اسم واضح، وليكن مثلا ناجي الخشناوي وله نفس واضح وجديد، تماما...

يقظة الحواس

في قصة «تراتيل بحرية»، تتحول ليلة حب مفاجئة رتبتها «مفارقات عجيبة، مخاتلة ومباغتة، لا تترك لك فرصة لاستيعاب ما سيحل بك ولو بعد دقيقة واحدة من الزمن اللاممسك، الى خرافة، «أصلها هاتف شوق»، لا تحتفي الا بالحواس، التي تتيقظ كلها، في جمر الشهوة:

رجل وامرأة يلتقيان في بهو نزل فاخر: «لم يضمر اي شيء في ذهنه. ولا هي، كان هو مشتتا بين الزجاجات التي تركها فوق المنضدة ببهو النزل حذو مضيفه، وبين الرجل الذي يقاسمه غرفته رقم 1710 ، وبين الفسحة البحرية التي تواعد عليها معها قبل ساعة اما هي فكانت سعيدة، لتخلصها من دعوة صديق لها لشرب قهوة خارج النزل بضاحية سيدي بوسعيد، متعللة بالارهاق والتعب.

كانا هكذا، هو مشتت وهي سعيدة، الى ان ألفيا نفسيهما داخل غرفة مرتبة بعناية فائقة، غرفة بابها مغلق على النزلاء، ونافذتها مفتوحة على الأفق البحري الممتد الى آخر البصر..».
الفراغ من الحبّ يقول الى المزيد من يقظة الحواس، لا من نعاسها وبشكل عفوي يتبدى ان الرجل والمرأة قطعتين حيتين من الوجود: «ظلّا ساكنين ينظران الى البحر طويلا.. طويلا حتى تبدت لهما خيوط الشمس مارقة عن الأفق البعيد خيطا خيطا، وتشرع في امتصاص ضوء القمر الفضي ومحو ظلمة السماء المرقطة بحفنة نجوم لا تزال منثورة هنا وهناك وكأنّها تزاحم في كبرياء موهوم اشعة الشمس".

درجات التعبير عن الواقع

كيف يتعاطى الأدب مع الواقع؟ وكيف سيتعاطى كاتب شاب من الشمال الافريقي يكتب في العام 2009 مع ما يدور من حوله؟ كيف يحفظ حرارة الواقع، سيلانه، كثافته، ونتوءاته دون ان يفقد الأدب، كتعبيرة ممكنة عن هذا الواقع، مذاقه المميز ونكهته الغامضة واللذيذة؟
هي أسئلة، من صميم اشكاليات الكتابة وفي فخاخها انزلقت الكثير من النصوص التي توهمت انها تعبر عن «مشاغل العصر وصوت الجماهير»، ناجي الخشناوي فلت من هذه المزالق، بخطوة رشيقة، لعلها خطوة القط الاسود، وحمل في يد واحدة بطختين: «الادب والواقع» معا، دون ان يتسرب اليه شيء من تشاؤل المعلم ايميل حبيبي.

في قصة «درجة اولى»، بائع الفل والياسمين يجمع ويرتب «زهرات الفل والياسمين ويلفها بالخيط الابيض الرفيع، بحركات بهلوانية سريعة ودقيقة. في عربة درجة اولى، يشغلها ثلاثة ركاب اخرين: «سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وازرار الة التصوير الرقمية تداعبها تارة امام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر، وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء، وشاب يلاحق ايقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه، وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية»...
«
انزلق باب العربة على المقاعد، كانت من الجلد الخالص، وسليمة من آثار التخريب او التمزيق، وفي طرف كل مقعد ثبتت مطفأة سجائر، اذن التدخين مسموح به في هذه العربة».
يطمئن بائع الفل والياسمين الى عدم وجود محظورات وحين ينهمك في نظم باقاته يفاجأ بمراقب التذاكر الذي يطلب منه الاستظهار بتذكرته، وعلى هذا النحو يتفطن البائع الى أنه ارتكب محظورا هو الركوب في عربة الدرجة الاولى في حين ان تذكرته تجيز له فقط الركوب في عربة الدرجة الثانية.

القصة تفلت بامتياز من فخاخ القراءة الطبقية لهذه الواقعة البسيطة وترقى بها الى مستوى اعلى قليلا، هو مستوى الفن، اذ قد نتوهم مثلا ان ليس هناك خطر ما يتهددنا ونحتاط للامر، كأن لا ندخن الا في مكان نتوهم انه يجيز لنا هذا الفعل.. ولكننا نقع في خطر اخر غفلنا عنه، ويتعلق الأمر هنا بأخطار الحياة الصغيرة، التي تحدث كل يوم للسواد الأعظم، الغائبة أطيافهم في "الضجيج المتعالي".

خطوة السرد الاولى

المجموعة الأولى لناجي الخشناوي«خطوة القط الأسود»، بها نفس جديد ومخلص... وعلينا أن ننتظر هذا الكاتب في كتابه الثاني أو الثالث. فهذه ليست سوى خطوة السرد الأولى .. لكاتب من جيل جديد جعل من الأدب ملاذا وحاضنا كبيرا لمشاغلهم وهواجسهم.. وهي مشاغل وهواجس ليس بها اي ادعاء (كادعاء تغيير العالم.).

المشغلة والهاجس هي الحياة فقط!

2009/05/06

سيدة الأزرق


يحدث أن نهوي إلى الدرك الأعلى من السعادة عندما نكون في حضرة الألوان المشتهاة، أو عندما نقع تحت سطوة الألوان المباغتة لذاك السكون الذي يسكننا ويجعلنا نتوهم أننا نحيا في سكينة...

يحدث ذلك ونحن نقف أمام تلك "الزفرات" الإنسانية المتبرجة في الأشكال والخطوط والدوائر والألوان والمساحات المهملة تزخر بها القماشة البيضاء، تلك التي كانت بيضاء، فنحاول عبثا أن نستعرض كل الأدوات الممكنة للشرح والتفسير والتحليل والتأويل لنفك ما استطعنا إليه بصرا شفرات هذه اللوحة أو تلك، ومع ذلك، وفي الغالب الأعم لا نفلح إلا في التشبث بدفقات السعادة أو البهجة التي تسري في أجسادنا الواقفة أمام ولائم الألوان وبذخ الأشكال...

تسقط أدواتنا أمام سطوة الألوان وتظل هي شامخة في تموجاتها وانحناءاتها... أين يشمخ الأزرق سيدا في أعمالها، يحتضنك أنى وليت بصرك ولا يأبه بدهشتك أو حيرتك وهو يلقيك في قلب الصفاء، في عمق اللامتناهي... في الذي نهواه ونخشاه... يلقي مرجل جمجمتك وفورة جسدك في "تخميرة" فلا تتبين الغموض من الوضوح، ولا تعرف حدودك من حدود المملكة الزرقاء التي تُدخلك إياها الرسامة التونسية سعاد الشهيبي لتحفيزك على إيجاد صلات ووشائج مع لوحاتها المتحررة من الإطارات الخشبية التي تسور عادة تخوم القماشة... وكأنها تأمر الأزرق أن يتمرد في شعرية مفرطة على الحدود والحواجز، كما هو فعلا في العالم، فمن منا مثلا يستطيع أن يرسم حدا نهائيا لزرقة السماء أو من منا قادر على معرفة حدود الأزرق الملتبس بمياه البحار... أو من منا قادر على معرفة خطوط الفقر النهائية لعمال العالم الذين لبسوا الأزرق لونا وما لبسهم لونا... من يقدر على ذلك حتما سيصدق أن الأرض زرقاء مثل برتقالة...

سعاد الشهيبي، الرسامة التونسية، في معرضها الأخير الموسوم بـ:"تخميرة في الأزرق" لا تطلب من زوارها ومريديها مثلا أن يتسمروا أمام لوحة "مجرات" ليكتشفوا أن الأزرق يحيل على الهدوء، أو أن يقفوا أمام لوحة "رؤيا" ليعلموا أن الأزرق يعني اللامتناهي، أو أن ينظر أحدهم مليا إلى لوحة "تموجات" ليصرخ كمن اكتشف سر الكون، ويقول أن الأزرق يعني الأصالة والرحابة، أو يطيل النظر في لوحة "جمرات" ليعرف أن الأزرق لون التأمل والصبر أيضا، وقد يقف شخص آخر أمام لوحة "ميتافيزيقيا" ليقول أن اللون الأزرق يدل على الخجل وطلب العيش في سلام...

سنتأول اللوحات ونفسر طغيان الأزرق ونشرح سقوط الحواجز الخشبية ونرمي باللغة في كل الاتجاهات لنسور انتشار الأزرق في مملكة البصر ونستجديه أن لا يغرقنا في بحره أو يشردنا في سمائه وسنكف عن الاتكاء على أحدث نظريات النقد الفني وعن الرجوع إلى أمهات الكتب لتفسير امتداد اللون وإحالاته وطرق مزجه بهذا اللون أو ذاك...

سنكف عن كل ذلك ونتجرد من شوائبنا الاستيتيقية وزوائدنا "الثقافوية" لنغوص في عمق الأزرق ونطير بلا أجنحة في سماء هذا اللون الذي استأثر بالرسامة سعاد الشهيبي فأدخلها في منامة أفاضت بهجتها، وطوح بها في آفاق أرحب وأوسع من الفكرة... فجعلتها سيدة للأزرق، حيث لا تكاليف ولا بهرج سوى ما ارتعشت له أصابع هذه المنفلتة من عقال الألوان والمنطلقة نحو زرقة فاتنة في تخميرتها...