بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/12/22

هدنة الرئيس المؤقت والشعبوية المفرطة

استأثر مصطلح "الهدنة" بالنصيب الأوفر من الخطابين الرسمي والشعبي منذ أن طلب رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي هدنة لمدة ستة أشهر على الأقل في أول لقاء تلفزي له ـ نتمنى أن لا يكون الأخير ـ بعد انتخابه لهذا المنصب من قبل أعضاء المجلس التأسيسي الوطني.
وبغض النظر عن التفسير اللغوي لمصطلح "الهدنة" (الذي يُناقض تماما التفسير الشائع، ذلك أن من بين تفاسير ابن منظور في لسان العرب لهذا المصطلح ما يفيد عدم إيفاء شخص ما بوعد قطعه على نفسه) بغض النظر عن هذا التفسير، وفي سياق الفهم الشائع والمتداول لمفردة "هدنة" في علاقتها بحالتي الحرب والسلم، فإن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه على السيد الرئيس المؤقت هو لمن تتوجهون بطلبكم هذا تحديدا؟ هل تطلبون هدنة ممن يُعلن الحرب منذ عقود ويواصل بطولاته إلى اليوم؟ أم تطلبونها ممن اكتوى بنار الحرب منذ عقود ولا يزال إلى اليوم يتلظى بلهيبها؟.
اعلم أيها الرئيس المؤقت والمثقف والحقوقي أن هذا الشعب الذي بت تُطل عليه من ربوة قرطاج منقسم إلى طبقتين لا يلتقيان أبدا إلا لماما فوق الأوراق بين بعض السطور المرتبكة والمترددة أمام مصطلح "الطبقة" وفي تسمية الأسماء بمسمياتها...
اعلم أيها الرئيس أن هناك طبقة أولى ضئيلة العدد استأثرت بثروة البلد وكسرت عنق قانون البلد وصيرت كل ما فوق أرضه وتحتها قابلا للبيع والشراء، بما في ذلك "المواطن" الذي حولوه إلى سلعة في علب بعقود فاقدة للصلوحية. وهناك طبقة ثانية وفيرة العدد فاقدة لكل سند مشنوقة إلى الأبد بقروض قوانين هذا البلد، فممن تطلب الهدنة يا ابن البلد؟
عمال مسحوقون بهمومهم وموظفون مكبلون بقروضهم ولا شيء موزع بالعدل بينهم سوى وهم السعادة... تراهم بالملايين يتراصون في الحافلات الصفراء ويتدافعون في المستشفيات والمدارس ويتقاسمون غرف النوم الضيقة ورغيف الخبز اليابس، ويتناوبون على مغازلة أحلامهم البسيطة...
وهناك على الضفة المقابلة حيث تنتصب الواجهات البلورية يجلس بضع مئات من هذا الشعب مصابون بتخمة تكديس المليارات يوزعون وقتهم في التنقل بين غرف قصورهم وفي الجلوس على مقاعد الدرجة الأولى من الطائرات المتجهة إلى عواصم العالم هم وأبنائهم متسربلين بأفخم أنواع العطور... ماداموا معفون من دفع كل الأداءات الضريبية للدولة، التي استفردت بالمواطن المستضعف وأشبعته نهبا مقننا لملاليمه المعدودة، وها هي لا تتورع بكل صفاقة في مواصلة إيلامه اليوم بما تطلبه من جيبه المثقوب باسم الوطن والوطنية؟؟؟ فعلى من يجوز طلبك أيها الرئيس المؤقت؟ هل تطلب هدنتك من الموظف والعامل البسيط الذي تقتطعون كل أشكال الضرائب من أجرته الهزيلة غصبا عنه دون أن يتمتع بأدنى شروط المواطنة فوق هذه الأرض؟ أم تطلبون هدنة ممن منحتهم الدولة مفاتيح خزائنها وكدست فوق مكاتب شركاتهم ومصانعهم كل أنواع القوانين الضاربة لأبسط الحقوق وهاهي تواصل غيها مع ملح هذه الأرض ورائحتها وتعلن ولائها التام لرؤوس الأموال؟
أيها الرئيس، كف عن الإفراط في الخطابات والقرارات الشعبوية، وتذكر أن لك رصيدا من الفكر والثقافة والنضال لا يترك لك مجالا إلا لتحترم نفسك وموقعك وبالتالي مواقفك، وفي الآن نفسه أن تحترم ذكاء هذا الشعب...

2011/12/15

الاعتصامات ونصف الكأس الفارغة

عندما انفرط عقد الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي وتناثر جشع الرأسماليين على الملأ، فغرت الأفواه واتسعت العيون التي لم تكن تسمع بفظاعة استغلال العاملات والعمال، أو هي كانت تغض النظر والسمع عما يعانيه العامل التونسي في المعامل والمصانع والحظائر وفي قلب المؤسسات الحكومية التي تنتمي إلى "المنظومة الاقتصادية" وفقا للنظام النوفمبري هذا النموذج المصغر من النظام الرأسمالي المستميت في وحشيته.
ومعلوم أن كل التحركات الاجتماعية التي كانت تُخاض في السابق يقع ضربها من لَدٌنِ السلطة الحاكمة بإعانة الإدارة وطبعا الأعراف من خلال منظمتهم، إلى جانب التعتيم الإعلامي عن كل الاحتجاجات والصرخات المكتومة من الطبقة الشغيلة، إذ لا يسمع المواطن في وسائل الإعلام إلا عن المؤشرات الايجابية للاقتصاد التونسي بفضل حنكة " السياسة الرشيدة لصانع التغيير" وظل المجتمع التونسي لا يرى من وضعه الاقتصادي والاجتماعي إلا النصف المملوءة من الكأس، حتى عصفت الثورة التونسية بالمكتسبات الوهمية والانجازات الخيالية التي وُصفت فيما مضى بالمعجزة الاقتصادية، لنجد أنفسنا وجها لوجه مع الحقيقة المرة والصورة البشعة لدولة بلغت أسوأ الأنظمة الاقتصادية إرضاء لنزعات الأسواق العالمية وصندوق النقد الدولي على حساب الحد الأدنى لمواطنيها.
إذِ اندلق اليوم النصف المملوء بالماء من الكأس ولم يبق منه غير النصف الفارغة، النصف الذي أظهر البؤس الحقيقي لهذا الشعب المسكين الغارق نصفه في سداد القروض الإجبارية والمستميت نصفه الثاني في الفقر المدقع، ومع ذلك وأمام هذه الحقيقة ظلت الحكومة السابقة تتحدث عن الدور التاريخي للإدارة في منح الأجور وفي صمود الاقتصاد التونسي إبان الثورة وبعدها ولم يتجرأ سياسي واحد على الإصداع بهذه الحقيقة رغم أن كل البرامج التلفزية التي اكتشفت مغاور المواطنين ووديان شربهم والمزابل التي كانوا يأكلون منها كانت أبلغ الرسائل للوقوف على بشاعة الحياة فوق أرض من سراب ووهم...
اليوم، تتواصل الحملات المسعورة من قبل السياسيين بإيعاز طبعا من الرأسماليين وشق واسع من وسائل الإعلام لإدانة الاعتصامات العمالية واتهام الطبقة الشغيلة بتعطيل حركة الاقتصاد والتشويش على المسار الديمقراطي والزج بالبلاد في الهاوية (وكأنها كانت في القمة!).
تتواصل إدانة الجوعى والمعطلين عن العمل وكأنهم المسؤولون عن اختلال الخارطة الاجتماعية والاقتصادية، ويُتهمون بإسقاط المؤسسات الاقتصادية وكأنهم هم الذين يكدسون المليارات ويبنون القصور ويركبون أفضل السيارات ويسافرون إلى أصقاع الدنيا للاستجمام؟
هناك صورة بسيطة دائما ما تقفز إلى مخيلتي، تلك التي نرى فيها أكداس الأكل والغلال واللحوم والأسماك يلقيها عمال النزل السياحية كل مساء للكلاب السائبة أمام النزل، وبالمقابل نجد في ذات النزل المراقبين المكلفين بتتبع ورصد أي محاولة لذاك العامل أو تلك المنظفة وهي تقضم تفاحة أو برتقالة من مطعم النزل... فهذه الصورة لم يتغير من تفاصيلها الكثير بعد الثورة...
هذا فيما يخص الاعتصامات الاجتماعية، أما فيما يتعلق بالاعتصامات السياسية فيبدو أن بن علي لم يغادر البلاد يوم 14 جانفي، ذلك أن اليوم طلع علينا من يشبه اعتصام باردو مثلا بريح السموم بل إن نائبا بالمجلس التأسيسي عن "كتلة الأغلبية!" وصف المعتصمين بالحثالة! (لا أجد أي كلمة لتفسير أو قراءة مثل هذه المواقف خاصة إذا علمنا أن من يطلقها هو من كان يرفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير؟) وكعادة النظام القديم تجندت كل وسائل الإعلام لتشويه صورة اعتصام باردو وإخراج المعتصمين في لَبٌوس المارقين أو الشرذمة الضالة التي لا تعمل إلا على تنغيص حياة التونسيين (وأي حياة هي!؟) وهذا طبعا يدخل في باب الشعار الذي التصق بالتونسي أكثر من التصاق جلدته بعظمه ونعني به شعار "يٌنصر من صبح" حتى ولو كان هذا الذي أصبح سيكون أبشع من سابقيه...
لا أظن أني أحرض من خلال هذه الكلمات على الاعتصامات والاضرابات ولكن أريد فقط أن ألفت النظر إلى ضرورة قراءة الأحداث بقليل من الموضوعية وبكثير من الإنسانية على الأقل في جانبها الاجتماعي وبكثير من الديمقراطية في جانبها السياسي.

2011/12/13

النهضة و"الهندي المقشر"


هناك مثل شعبي سيار تتناقله الألسن التونسية يقول نصه "يحب ياكل الهندي المقشر بيد غيرو" وأعتقد أن هذا المثل المثقل بالدلالات ينسحب تماما على حزب/حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا) في علاقته (ها) بطرفي الائتلاف الثلاثي الأغلبي في المجلس التأسيسي واعني بهما حزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
ويكمن وجه الشبه بين حركة النهضة والمثل الشعبي في أن النهم اللامشروط لأكل "الهندي المقشر" هو تلك التخمة التي أصيبت بها الحركة بعد أن استأثرت بالعدد الأكبر من مقاعد المجلس التأسيسي الوطني، ذلك أن ما قُدم لها من حظوظ وافرة لهذا الفوز الساحق، وان كان يعود فيما يعود اليه من دعم أمريكي وخليجي واضح، هو أيضا يعود بالأساس إلى تاريخ غير بعيد من تاريخ النضال السياسي في تونس الحديثة واعني به تحالف 18 أكتوبر من أجل الدفاع عن الحريات العامة (حريّة التعبير والصحافة، حريّة التنظم الحزبيّ والجمعويّ، وتحرير المساجين السياسيين وسنّ قانون العفو العامّ) وقد تزامن تشكل التحالف مع القمة العالمية لمجتمع المعلومات سنة 2005 بين أحزاب وشخصيات يسارية ويمينية، حتى لا نقول علمانية وإسلامية، وهذه المحطة النضالية منحت شقا واسعا من الاتجاه الإسلامي فرصة هامة للتشكل من جديد ة والظهور على الساحة السياسية كطرف فاعل.
طبق الثمار (الهندي المقشر) الذي "غطست" فيه حركة النهضة بدأ يفيض أيضا أثناء الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي من خلال استثمار كل النقاط السلبية للحركة التقدمية في تونس ودحرجة كرة الثلج حتى تكبر بين الناخبات والناخبين من خلال العودة إلى لعبة الكفر والإيمان، حيث علق كل الشوك بالمناضلين والأحزاب التقدمية ولهفت حركة النهضة الثمرة مستعينة في ذلك "بقوتها التعبوية" وتجييش المشاعر لا أكثر ولا أقل من خلال التصريحات الإعلامية وتوظيف الفضاءات الدينية وممارسة الترهيب من قِبَلِ أنصارها المنتمين إلى حزب آخر تتبرأ منه في العلن وتخطط معه في السر...
وليمة "الهندي المقشر" المنصوبة أمام حركة النهضة تتواصل اليوم في إطار التحالف الثلاثي بينها وبين التكتل والمؤتمر، فالمنطق يفترض أن الإرث الديمقراطي والتقدمي من خلال الايدولوجيا والبرامج والممارسة لكل من حزب بن جعفر وحزب المرزوقي والتكتيك السياسي (على الأقل) يقول بأن النهضة هي في حاجة أكيدة إلى الحزبين الآخرين غير أن العكس هو الظاهر للعيان، ولعل في تصريح المرزوقي إبان الحملة الانتخابية عندما طالب الناخبين بالتصويت إما للنهضة أو له أو لحزب العمال الشيوعي خير دليل على هذا التناقض الصارخ، أو هذا الوضع الذي يحلو لي أن أشبهه بطبق "عجة بالشكلاطة"... وهو نفس التناقض الذي يتواصل اليوم، إذ لا نعثر على موقف سياسي واضح من التكتل أو المؤتمر إزاء "الهيجان" السياسي الذي دخلت فيه حركة النهضة بمساندة جميع حلفائها، وهذا يبدو أمرا مبررا خاصة عندما نلاحظ بشكل جلي تحالف اليمين الصاعد مع رأس المال الجشع لضرب كل نفس حقوقي أو نقابي أو تقدمي سيتحرك ضد منظومة الفساد السابقة (القضاء، الأمن، الإعلام...) وضد منظومة الاستبداد الجديدة (مشروع قانون توزيع السلطات العمومية مثلا).
قد يكون هذا الكلام العابر مغرقا في السطحية والبساطة، أو هو شبيه بلوحة كاريكاتورية، ولكن اعتقد أنه الأقرب إلى ذهن المواطن البسيط الذي منح صوته وهو يحلم بشربة من ماء "زمزم" غير أنه ما زال يكرع من ماء البركة و"القلتة" والوادي...
فهل سنواصل تقشير الهندي لصالح من سيؤبد جلباب الشوك والحسك؟
وهل سيأتي اليوم الذي سنخرج فيه من "الطابية" لندخل إلى المدنية؟

2011/12/07

ذاكرة الجماعة/السلطة

الذاكرة ليست ملكا شخصيا محضا. إنها مشترك جماعي بامتياز...
وإن كنا نمتلك القدرة على الاحتفاظ بصُوَر ولغة الذاكرة الشخصية، فإنَّ ذاكرة الجَمَاعَة تفلتُ من عُقَالنَا وتنسحب بلطف وبلين من كل قيد نحاول أن "نعتقل" به الأفكار والصور والأحداث واللغة في داخلنا، فهناك جهاز متماسك يقف بالمرصاد لمخزون ذاكرتنا ويتحكم في رصيدها إن ترسيخا أو إتلافا، هذا الجهاز هو ما قيل أننا اصطلحنا عليه "جميعا" بالدولة أو السلطة وخضعنا أو أُرغمنَا على الخُضوع لآلياته طواعية.
هذا الجهاز المُنتشر كالإله في كل مكان وفي كل زمان، يُتلف مسودَّاتنا القديمة ويمنحنا أوراقا بيضاء جديدة لنعيد الكرّة في كل مرّة، ومع كل مرة نتهم ذاكرتنا الفردية بالخَرَف والتَّرَهُّل ونجدد "ثقتنا" في ذاكرة الجماعة... ذاكرة السلطة.
نرمي في سلة الأيام ما نشاهده بأعيننا وما نلمسه بأيدينا مثلما نلقي الصحون والأكواب البلاستيكية في سلة المهملات... نُتلفُ تفاصيلنا ونجري كالأطفال فرحين بما تزفُّه لنا ذاكرة الجماعة/السلطة من أحداث وأخبار وصور ولغة فنصدقها تماما، ونتبناها دون تردد لأن "الجماعة" شاهدتها في تلفزة السلطة، أو قرأتها في صحف السلطة، أو سمعتها في إذاعة السلطة...
فمن منا يمتلك الجرأة على تكذيب ما يجمع عليه الجماعة؟ ومن منا قادر على تصديق ذاكرته وتكذيب ذاكرة السلطة؟
يَذكُر جاك داريدا في كتابه "حمّى الأرشيف الفرويدي" أن كلمة أرشيف "Arkhe" هي اسم يُفيد معنى البَدء "Commencement" ومعنى الأمر "Commandement" في آن، ومن هذه الإحالة يمكننا التأكد أن "الذات" كلما تَجَاسرت وحاولت "البدء" في تنظيم وترتيب أدراج ذاكرتها الفردية يأتيها "الأمر" من السلطة أن كُفي عن ذلك وامتثلي لذاكرة الجماعة، للذاكرة التي ارسم أنا حدودها واضبط سياستها.
إن السلطة لا تملك المؤسسات والإدارات والمصانع والدبابات والأدوية والطرقات والجسور... مثلما نتوهم ذلك، إنها تملك ذاكرة كل فرد منا، تلك التي تمر بها مختلف سلوكاتنا وقراراتنا المعرفية، النفسية، الاجتماعية أو الحركية... الذاكرة التي تمر بها عملية الإدراك، والتعلم والتفكير والحب وحل المشكلات والتكلم... "مخزننا" الحميمي لأحاسيسنا وانطباعاتنا وتجاربنا الحياتية التي نكتسبها من تفاعلنا مع العالم الخارجي ومع الآخر المختلف.
فمثلا لو حاول أحدنا أن يسترجع بداية تدرُّبَه على المشي لفشلَ في ذلك وستخذله ذاكرته الفردية في استحضار أهم لحظة في حياته، وفي المقابل فان ذاكرة الجماعة/السلطة تمنحنا مباشرة ذكرى أول اصطفاف في المدرسة... مثلما لن تفلح ذاكرتنا الفردية في استحضار حرارة حليب أمهاتنا في الوقت الذي تجعلنا ذاكرة الجماعة/السلطة لا نختلف حول ماركة علبة الحليب التي نشاهدها يوميا في الإشهار...
كذلك ذاكرتنا الفردية قد تكابد لتسترجع بعضا من تفاصيل أول قصة حب مراهقة، في حين تمنحنا ذاكرة الجماعة/السلطة أدق جزئيات علاقتنا الزوجية باعتبارها علاقة رسمية تخضع لنواميس المؤسسة المجتمعية... مثلما لا تتأخر ذاكرة الجماعة/السلطة في تفعيل ذاكرتنا من خلال موعد أخبار الساعة الثامنة وتحرمنا من استعادة أول الأفلام الكرتونية التي شاهدناها في طفولتنا...
ذاكرتنا الفردية غالبا ما تخذلنا عندما نرغب في استحضار فكرة ما من كتاب تعلقنا بتفاصيله، ولكن ذاكرة الجماعة/السلطة لا تبخل علينا بتذكر عناوين الكتب التي "أمرت" بنشرها في واجهات المكتبات وأدرجتها في برامج الدراسة الرسمية... وتفشل ذاكرتنا اليوم في تذكر رسوم "الغرافيتي" الثورية على جدران القصبة وفي شارع الحبيب بورقيبة وعلى جدران الإدارات والمؤسسات، تفشل ذاكرتنا لأن ذاكرة الجماعة/السلطة تدججنا بصور سيدي بوسعيد والملابس التقليدية....
ذاكرتهُ تخشى أن تتذكر أول مرة داعبت فيها شفرة الحلاقة ذقنه تاركة خدوش الارتباك والخوف من افتضاح أمره أمام والده، وذاكرتها تخشى أن تتذكر أول مرة لاعبت أصابعها ضفيرة شعرها المجدولة... ذاكرته تخشى أن تتذكر ذلك لأن ذاكرة الجماعة أطالت لحيتها، وذاكرتها تأبى أن تتذكر ضفيرتها لأن ذاكرة الجماعة ألقت حجابا أسودا بين شعرها والريح...
ذاكرة الجماعة/السلطة، تقدم لنا طقوسا "مقدسة" لموتنا الفردي، وتمنحنا "خيالا" جماعيا مُعدّا سلفا لطريقة دفن جثثنا الهامدة. إنها "تُبدع" في تذكير ذاكرتنا بعذاب القبر وأهواله وتؤلف في ذلك الكتب وتوزعها في الأسواق، وتسجل الأقراص الليزرية وتبيعها للناس، وتنتج برامج تلفزية يقدمها الأوصياء الدائمون على الذاكرة الفردية، الناطقون باسم ذاكرة الجماعة... إنها تفعل كل شيء وكأنها ستموت عوضا عنا وتُقبر مكاننا... أو كأنها تُبدي "تعاطفها" مع مواطنيها الأموات (وهل كانوا أحياء حتى يموتوا!!!)... إنها تستولي على أرضنا باسم سمائها... وتجعل كل فرد منا يردد مع تلميذ نيتشة، جول دي غولتييه، ما قله في كتابه (البوفارية) " الأنا، الأنا الذي ما هو إلا محض عنوان عام، محض تمثل مجرد، كالحاضرة أو الدولة، مأخوذ هنا على انه كائن محبو بوحدة فعلية".
إن ذاكرة الجماعة، أي ذاكرة السلطة، تلوي عنق الذاكرة الفردية وتطويها بإتقان متناه ثم تضعها تحت إبطها لتصنع منها ذاكرة "مُنضبطة"، "مُطيعة"، "وَديعة"، "مُسالمة" و"خَاضعة" بشكل "وَاع"... ذاكرة لا تُدون يومياتها إلا تحت رقابة السلطة، ولا تستحضر تفاصيلها إلا بأمر الجماعة... ذاكرة "Jetable" قابلة للإتلاف والتلف و"التتليف" متى أرادت ذلك ذاكرة الجماعة/السلطة... وهي دائما ما ترغب في ممارسة سلطتها "الناعمة" باسم "الجماعة" أكانت سياسية/اقتصادية أو دينية/أخلاقية.

2011/11/28

مليون خضراء اليوم تعيش



لا أحد‮ ‬ينكر أن سمات الخوف والخضوع والاستكانة كانت من بين ألصق الصفات بالشارع التونسي‮ ‬خاصة طيلة العقدين الأخيرين،‮ ‬بعد أن أحكم النظام النوفمبري‮ ‬قبضته الأمنيّة،‮ ‬وصنع‮ ‬في‮ ‬خيال كلّ‮ ‬مواطنة وكل مواطن شرطيّا‮ ‬يلازم كلّ‮ ‬الحركات والأنفاس ويحصي‮ ‬حتى أحلام النائمين‮...‬
كما لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينكر أحدٌ‮ ‬أنّ‮ ‬هذا النظام الصارم خلق مناضلين ومناضلات أشاوس،‮ ‬تمرّسوا على اعلان مواقفهم الرافضة لسياسة صانع التغيير في‮ ‬الساحات الجامعيّة وفي‮ ‬بطحاء محمد علي‮ ‬وفي‮ ‬مقرّات الأحزاب والمنظمات والجمعيات المدنيّة والحقوقية وكان المواطن البسيط عندما‮ ‬يشاهد أحد المناضلين أو احدى المناضلات تنقد النظام على شاشات التلفزات الأجنبية وفي‮ ‬بعض الصحف الحزبيّة،‮ ‬كان ذاك المواطن البسيط في‮ ‬بيته وأمام تلفازه‮ ‬يخاف على مصير المتكلّم أو المتكلّمة،‮ ‬وهو ما عزّز منسوب الخوف لدى أغلب المواطنين،‮ ‬حتّى أنّ‮ ‬الأولياء لا‮ ‬يتورّعون في‮ ‬مفتتح السنة الجامعيّة عن تنبيه بناتهم وأبنائهم من مغبّة الانتماء إلى اتحاد الطلبة مثلا أو الحديث في‮ ‬السياسة‮!‬
اليوم وبعد ثورة‮ ‬17‮ ‬ديسمبر‮ ‬2010‮ ‬أو‮ ‬14‮ ‬جانفي‮ ‬2011،‮ ‬أطلقت كلّ‮ ‬الحناجر،‮ ‬بما فيها حناجر الأمن،‮ ‬كلمة السّر‮ ‬‭(‬Dégage‭)‬‮ ‬تلك التي‮ ‬أربكت النظام المنهار وصارت مفتاحًا سحريّا لعدّة شعوب أخرى،‮ ‬كنّا نخالها عربيّة فقط ولكنّها تجاوزت المحيطات وبلغت أرض العم سام‮...‬
اليوم صارت كلمة السّر بحوزة مئات الآلاف،‮ ‬بل لنقل دون مبالغة بحوزة ملايين من الشعب التونسي،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يعني‮ ‬أنّ‮ ‬عدد المعارضة سيتضاعف عدّة مرّات ولن تظلّ‮ ‬المعارضة مقصورة على بعض الأسماء أو بعض الأحزاب أو بعض المنظمات الحقوقية والنقابيّة‮. ‬انّها تتوزّع اليوم بين الطرقات والأزقة،‮ ‬في‮ ‬كلّ‮ ‬المدن والقرى،‮ ‬في‮ ‬بيوت الفقراء والأغنياء على حدّ‮ ‬السواء‮...‬
واليوم المعارضة صار لها فضاء اعلامي‮ ‬وطني‮ ‬مفتوح بشكل نسبيّ‮ ‬على كلّ‮ ‬الأصوات وكلّ‮ ‬الآراء،‮ ‬اليوم،‮ ‬وبكلّ‮ ‬تفاؤل‮ ‬يمكنني‮ ‬أن أقول إنّ‮ ‬أغنية البحث الموسيقي‮ »‬لو النّدى‮« ‬تلك التي‮ ‬تقول فيها آمال الحمروني‮ »‬مليون خضراء اليوم تعيش‮ ‬‭/‬‮ ‬تحت السياط ما تنحنيش‮« ‬يمكنني‮ ‬أن أقول بأنّها صارت حقيقة تمشي‮ ‬معنا فوق الأرصفة وتركب معنا الحافلة الصفراء‮ ‬والمترو الأخضر وتنهض مع العمّال والعاملات‮.. ‬وتدخل فصول المدارس ومدارج الجامعات والكليات‮...‬
بل انّها وجدت لها مكانًا في‮ ‬وزارة الداخليّة‮... ‬اليوم،‮ ‬وقد فازت حركة النهضة بنسبة عالية في‮ ‬انتخابات المجلس التأسيسي،‮ ‬ولو فاز مثلا حزب آخر،‮ ‬من اليسار أو القوميين أو الديمقراطيين أو الحداثيين،‮ ‬ولو فاز مثلا المستقلون فإنّ‮ ‬هذا الفوز لا‮ ‬يعني‮ ‬عودة الاستبداد مجدّدًا ولا‮ ‬يعني‮ ‬أيضا أنّ‮ ‬الفائز سيصير هو الحاكم بأمره كما فعل النظام السابق،‮ ‬اليوم كلّ‮ ‬العيون متوثبة وكلّ‮ ‬الأقلام والأصوات مستعدّة لكلمة Dégage‮.‬
ف‮ ‬مليون خضرا اليوم تعيش‮ ‬‭/‬‮ ‬تحت السياط ماتنحنيش‮.. ‬‭/‬‮ ‬واحنا سندها‮‬
‮ ‬لان اليوم،‮ ‬ليس كيوم‮ ‬7‮ ‬نوفمبر عندما وضع بن علي‮ ‬الجميع تحت معطفه باسم الميثاق الوطني‮.. ‬وبقية الحكاية‮ ‬يذكرها التاريخ‮... ‬اليوم هناك شعب كسر حاجز الخوف وطلَّق الصمت‮...‬

2011/11/13

أعلن دينك وسندافع عنك


يستخدم المجتمع المدني عادة كمفهوم وصفي لتقييم التوازن بين سلطة الدولة من جهة، والهيئات والتجمعات الخاصة من جهة أخرى، وهو يتميز عن الدولة بوصفه مجالاً لعمل الجمعيات التطوعية والاتحادات مثل النوادي الرياضية وجمعيات رجال الأعمال جمعيات حقوق الانسان، واتحادات العمال وغيرها...

انه يتكون مما أطلق عليه إدموند بيرك "الأسرة الكبيرة".

ففي المدرسة اليونانية استخدم مفهوم المجتمع المدني كمرادف للمجتمع الجيد أو الرشيد، اذ رأى سقراط أن الحوار الاجتماعي عن طريق الجدل هو حاسم من أجل تأكيد التمدن في المجتمع. في حين ركز كارل ماركس على أن المجتمع المدني يشكل القاعدة التحتية لقوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وهي التي تهيمن عليها الطبقة السائدة اقتصاديا وإيديولوجيا أي الطبقة الرأسمالية. ثم نجد توماس هوبز وجون لوك مثلا، يطرحان نظريات للحكم وإدارة المجتمع انطلاقا من المنطلق الإنساني المجرد من أية تقييدات فكرية أو دينية.

وقد أدخل انطونيو غرامشي قطيعة في المضمون الدلالي لمفهوم المجتمع المدني، باعتباره فضاء للتنافس الإيديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية والإيديولوجية، ووظيفة الهيمنة هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدّعي أنها خاصة.

وبالرغم من الاختلافات، فإن نظرية العقد الاجتماعي بالنسبة لمفكري العصر التنويري ترى أن الدولة والحكم هما نتاج اختيار منطقي من قبل المجتمع لطريقة الحكم، ولا تستمد حكمها أو صلاحياتها من الآلهة أو الأديان أو شيء آخر فوق الإرادة الحرة للبشر.

غير ان هناك فرق شاسع بين النية في بناء مجتمع مدني متماسك، وبين استعمال الجمعيات والمنظمات وسيلة لبناء مجتمع نمطي، وهناك فرق بين أن نطرح شعار المجتمع المدني، تكتيكيّاً، بغية حجز مساحة سياسيّة تؤمّن لنا إمكانية ممارسة طموح معين، وبين أن يكون هذا الشعار غاية وهدفاً وتصوّراً لمرحلة تاريخية مُنتظرة...

إن السرد السابق لتطور مفهوم المجتمع المدني ليس الا مدخلا للوقوف اليوم على ما قد "يتهدد" مجتمعنا المدني التونسي من مد مدروس لعدد غير قليل من بعض الجمعيات والمنظمات التي تقدم نفسها في جبة "المدنية" و"الحقوق الكونية" والدفاع عن "المواطن" مهما كان جنسه أو دينه أو لونه، غير ان نظرة بسيطة لعناوين بعض هذه الجمعيات والمنظمات سنكتشف بكل يسر انها تدور في فلك ضيق وافقها واضح المعالم لا يقبل الاخر المختلف، ذلك اننا نطالع اليوم مثلا لجنة للدفاع عن حجاب المرأة في تونس (لا المرأة التونسية)، وهيئة عالمية لنصرة الإسلام في تونس (كأنه كان مهزوما في السابق)، وجمعية للشباب المسلم (لا الشباب التونسي) وجمعية تونسية لأئمة المساجد ، وجمعية تونسية للعلوم الشرعية، وجمعية للمنبر الإسلامي، وجمعية للخطابة والعلوم الشرعية......

إن هذه المنظمات والجمعيات الدينية، المتسترة بغطاء المدنية تهدد وحدة وتنوع المجتمع التونسي باعتبارها تشتغل بمنطق تمييزي على أساس الدين، إذ يبدو أنها لا تدافع إلا عن من أعلن إسلامه!!! كما أننا لم نسمع بها تحركت ضد غلاء المعيشة مثلا أو الترفيع في الأجور أو أمضت على عرائض تدين انتهاك الحريات العامة...

قد نجد تفسيرا ما أو تبريرا لهذا البزوغ المدني/ الديني، ولكن الأكيد أن السهام المصبوبة اليوم على الأحزاب السياسية الدينية والخوف المتزايد من انقضاضها على الديمقراطية المفترضة قد تصيبها في "مقتل"، ولكن الثابت ان انتشار مثل هذه المنظمات والجمعيات وتغلغلها في المجتمع التونسي ستنسف كل بارقة امل في تفادي الدخول في استبداد جديد... خاصة أنها تشتغل على المدى البعيد...

2011/10/21

يفرقنا الصندوق وتجمعنا تونس


لم ينته الزمن الافتراضي الفايسبوكي، ولكن الزمن الواقعي يبدأ اليوم، 23 أكتوبر 2011.

يتوقف الآن زمن مداعبة الأزرار الباردة لحواسيبنا المحمولة والثابتة ولهواتفنا المتطورة. يتوقف زمن الأزرار لينطلق زمن تحريك الأصابع الحية التي سيرسم بها كل واحدة وكل واحدة علامة القاطع والمقطوع أمام من سيختار أو تختار من الأحزاب أو القوائم المستقلة المترشحة للمجلس التأسيسي الوطني الثاني في تاريخ تونس الحديث.

لا يهم لمن سنمنح صوتنا، ولكن الأهم في هذا اليوم، 23 أكتوبر2011 هو أن لا نفوت على أنفسنا فرصة ممارسة فعل الانتخاب باعتباره عنوانا دالا على مواطنة كل واحد منا...

لا يهم مَن منَ الأحزاب أو المستقلين سيستأثر بالنسبة الأكبر في تمثيلية المجلس التأسيسي، لأن الأهم في تقديري اليوم، 23 أكتوبر 2011، هو أن تكون نسبة التصويت هي الأعلى والأكبر من كل النسب الحزبية أو السياسية، لان نسبة التصويت هي نسبة تونس، وتونس أكبر من كل الأحزاب مجتمعة...

مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.

في مثل هذا اليوم، ستفرقنا الأحزاب داخل الخلوة، ولكن الأكيد أن تونس ستجمعنا، فمن منا سيتخلف عن تونس؟

قد تبدو حركة التصويت حركة عابرة وبسيطة، ولكن الأكيد أنها ممارسة تُنحتُ في تاريخ كل فرد منا الذي هو بالأخير تاريخنا الجماعي، تاريخنا الوطني الذي سيأتي يوم ما ونروي بعضا من تفاصيله لأبنائنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا... سنقول إننا ساهمنا في كتابة تاريخ تونس سنة 2011...

مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.

الذهاب إلى مكتب الاقتراع، والدخول إلى الخلوة واختيار من سيمثلنا يوم 23 أكتوبر 2011 هو الجواب المثالي والحقيقي الذي سيصيّر دم شهدائنا يسري في عروق ارض تونس لتزهر الحدائق فوق جباه أمهاتهم، وهو الجواب الحقيقي والمثالي للدكتاتور، الذي حرمنا من هذا الحق طيلة 23 سنة، وهو أيضا الجواب المثالي والحقيقي للدكتاتوريات العربية الصامدة في بطشها إلى اليوم ضد شعوبها لتدلل على فشل الثورة التونسية وتأبد بذلك استبدادها، وهو كذلك الجواب المثالي والحقيقي لكل الأنظمة الغربية التي مازالت تعتبر العرب شعوبا متخلفة... فهل سنتخلف يوم الاقتراع عن كتابة هذه الأجوبة؟

مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.

إن ما حدث طيلة الأسابيع الفارط من إفراط في العنف وفي المصادمات سواء منها الشعبوية أو السياسوية، وما اقترفته بعض الأيادي العابثة لإرباك النسق الحياتي للشعب التونسي من ترفيع في الأسعار واحتكار لبعض المواد الاستهلاكية، كما أن ما يحدث من عمليات تشويه مُمنهجة لبعض الأحزاب أو المناضلين والمناضلات لا يمكنها إلا أن تكون حافزا ودافعا ايجابيا لكل فرد ليترجم ترفّعهُ عن مثل تلك الممارسات، التي هي بالأخير ظواهر صحية، والأكيد أنها كانت ضرورية.

والثابت أيضا انه بعد إتمام العملية الانتخابية وتشكيل المجلس التأسيسي الثاني في تاريخ تونس الحديث، سيمنح كل منتخب من موقعه البسيط وبصوته، شرعية البناء ورفع سقف بيتنا الوطني بعد أن نكنس منه بقايا الدكتاتورية وذهنية الاستبداد السلطوي...

مهما اختلفت الأفكار تونس ارض الأحرار.

2011/10/15

دَولَتَان بعَلَم واحد


كانوا يُعدون على الأصابع وصاروا اليوم أكثر من شعر الرأس...

كانوا أيضا بعدد رأس الشعر وصاروا اليوم يُعدون كذلك بأصابع اليد الواحدة...

فئتان من الشعب لا يلتقيان إلا في الكلام المنثور هذرا على قارعة الأيام...

فئتان من الشعب جمعتهما دولتان اتفقتا في ألوان العلم ولحن النشيد الرسمي وأخبار الساعة الثامنة وخطب الجمعة والعيدين واختلفتا في الانتماء لأفق مشترك...

بالأمس كان أغلب الشعب "متخلقا" رغم قلة شهائده الأكاديمية، واليوم صار أغلب الشعب مثقلا بالشهائد الجامعية، متخففا من القيم والأخلاق...

مفارقة عجائبية تلك التي رجحت كفة الميزان لصالح دولة المتعلم وألقت بدولة المثقف إلى الدرك الأسفل...

عندما كانت نتائج "السيزيام" تُعلن عبر موجات الإذاعة وتكتب أسماء الفائزين بتلك الشهادة على صفحات الجرائد كان المعلم رسولا... وكان التلميذ مريدا له...

وعندما كان الفائزون بشهادة الباكالوريا يعدون بالعشرات كانت الجامعات والكليات صرحا منيعا لا تينع داخل أسوارها إلا العقول المفكرة والمبدعة...

بالأمس كان الكتاب مقدسا ومهابا... وكانت الأفكار مرجعا ونبراسا لتأثيث الحياة في أدق تفاصيلها...

كان الدخول إلى قاعة السينما موعدا مقدسا... واقتناء ملحق فكري للجريدة متعة لا متناهية... وكذا الجلوس إلى الأصدقاء والرفاق والتسارر معهم... دون أقنعة أو قفازات...

واليوم تصلنا نتائج الاختبارات، التي لم تعد امتحانات، تصلنا عبر الإرساليات الهاتفية القصيرة مختلطة بإرساليات المواعيد السيارة، أو عبر مواقع الانترنت أين يلقي الممتحن نظرة عابرة على نتيجة اختباره ثم يعود ملهوفا إلى حديث افتراضي عابر على احد المواقع الاجتماعية مع شخص أثيري لا رائحة له ولا طعم...

اليوم نجلس إلى معلمنا في المقهى على طاولة "الشكبة" أو "البيلوت"، ونتقاطع مع أساتذتنا في الحانات... نلهث في كل الاتجاهات، لا بحثا عن صديق أو كرسي مريح، بل طمعا في دينار إضافي... نفشل في مصادقة آبائنا، وفي كتابة قصص حب طافحة بالشغف...

نشتري كريم الشعر وبطاقات شحن الهواتف ونلتقط الصور الرقمية مع السيارات الفارهة وننام فوق الأزرار الباردة لحواسيبنا المحمولة... نلبس اخر صيحات الدجينز ونأكل من مختلف المطابخ العالمية... ونتحدث بإطناب عن مفهوم "النسبية"... ومع ذلك... مازلنا نفكر بأن العالم إما غرب أو شرق... وأن البشر إما كفار أو مؤمنون... وان اللغة العربية "ارقى" اللغات... وأننا "خير أمة"... فلا غرابة اليوم اذا ان تصير تونس دولة بصاريتين يابستين لعلمين مختلفين، علم "للكفار" وعلم "للمؤمنين"... وهو التقسيم الجديد/القديم الذي يختلقه اصحاب المعسكرات العقائدية أولائك الذين "بفضل" تفانيهم الايماني صُلب الحلاّج وشُرّد التوحيدي ونُفي ابن رشد وقُتل السهروردي وابن باجة واغتيل مهدي عامل وحسين مروّة وناجي العليّ وغسّان كنفاني وخُصي مظفّر النواب وقتل منور صمادح...

دولتان بعلم واحد متباعدتان، متجافيتان...لا يلتقيان إلا تقاطعا على أرصفة الاختلاف والتنافر...

هكذا تبدو لي تونس اليوم، بعد أن "وَثَبَ" عليها نظامان من الحكم، أول اقترب من الجمهورية وثان نسف كل مقوماتها... ليتركنا اليوم نسأل هل نحن مواطنون في دولة ام رعايا في ولاية من ولايات الخلافة الدينية.

2011/10/03

عروب الفالت ضد الحكومة



* بقلم: نـاجـي الخشنـاوي

يبقى السجن سجنا مثلما يبقى المجرم مجرما مهما كانت صفته، ومهما علا مركزه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الفكري، ولا فرق بين اسكافي فقير ووزير ارستقراطي في العقاب، مادامت أركان الجريمة متوفرة، ومادام كل الناس متساوين في الحقوق كما في الواجبات، غير أن هذه المسلمة يبدو أنها لا تنطبق إلا في السينما أو في الروايات، أما في الواقع فالأمثلة تعد على أصابع اليد الواحدة...

ولعل الذاكرة تسعفنا بفيلم "ضد الحكومة" الذي تنبأ فيه مخرجه عاطف الطيب منذ سنة 1992 بما يدور اليوم في أروقة المحاكم المصرية والتونسية، فهذا الفيلم الذي جسد فيه أحمد زكي شخصية مصطفى خلف المحامي الذي اعتاد التحايل على القانون باستغلال ضحايا حوادث الطرقات، ليحصل من أسرهم على توكيلات تطلب تعويضات يحصل عليها لنفسه محققا بذلك أرباحا طائلة. ومن تشابك تفاصيل الفيلم نصل مع البطل إلى درجة رفع دعاوى ضد وزير التعليم ووزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية يتهمهم فيها بالإهمال، فيساومه لسان دفاع السلطة للعدول عن القضايا التي رفعها ضد الحكومة ثم يزج به في قضية تنظيم إرهابي ليلقى جميع أنواع التعذيب دون أن يتخلى عن موقفه، فأصبحت القضية قضية رأى عام وفي الأخير وافق القاضي على استجواب كبار المسؤولين.

كما يمكن للذاكرة أن تحيلنا على رواية عبد الجبار العش "محاكمة كلب" تلك التي تضعنا "منذ البداية في قاعة المحكمة، وإزاء شخصية ملتبسة وقضية لا تقل عنها التباسا، فالمتهم له مواصفات إنسان ولكنه يحمل في ظاهره ملامح من الكلب وفي باطنه شعورا عميقا بالتكلب" والكلب المتحدث عنه في الرواية "ليس قناعا للشخصية وإنما هو جزء من حقيقتها الاجتماعية والأنطولوجية وحتى الجسدية." وربما لذلك استعصت محاكمة عروب الفالت، بطل الرواية، رغم ترافع عميد المحامين العرب في قضيته والذي قال في ختام الرواية "نحن هنا نظرا لكون المواطن عروب الفالت ليس متهما عاديا في قضية عادية، بل انه في تقديرنا، يمثل بل يختزل نسغ روح هذه الأمة. انه التكثيف المأساوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة... إن محاكمته هي محاكمة تاريخنا، فمن في مقدوره محاكمة التاريخ؟."

ولا يفوت من شاهد الفيلم أو اطلع على الرواية أن يمسك بذاك الخيط الشفيف الرابط بينهما والمتمثل في انزياح الأزمة الوجودية لشخصية "مصطفي خلف" في الفيلم وشخصية "عروب الفالت" في الرواية، وتحولها إلى أزمة اجتماعية بالأساس وسياسية بشكل معلن في الفيلم ومتستر في الرواية...

إن هذين المثالين يرفعان جسرا متينا ينقلنا من المتخيل إلى الواقع، أو من خطاب النص إلى خطاب السلطة على الطريقة الفوكاوية، فها نحن اليوم نبلغ آخر سيناريو فيلم عاطف الطيب وخاتمة رواية عبد الجبار العش، ونكاد نصدق نبوءتهما، وان تباينت، ونحن نتابع تتالي أسماء كبار المسؤولين سابقا يقفون أمام القضاء من أجل تهم الفساد بالخصوص وتورطهم في منظومة مافيوزية نخرت كل إمكانات النهوض بهذا البلد... من رئيس هارب بما ملك جبن مع أفراد من عائلته إلى وزراء ومديرين عامين ورجال أعمال وإداريين... يتم استنطاقهم بشكل يومي... منهم من تحصن بالفرار ومنهم من يقف خلف قضبان "ناعمة" بشكل تحفظي ومنهم من حجر عنه السفر... ملفات مفتوحة وأبحاث جارية أما الأحكام النهائية فمازالت قيد الغيب... الغيب!!! هل يوجد هذا المصطلح في نظام السلطة؟؟؟

يعلمنا ميشال فوكو أن السلطة تتفاني في ترويض أجسادنا دون أن تستعمل وسائل الإكراه والقمع بل "بالنظرة واللغة"، وها نحن نقف اليوم على انصع مثال في الترويض السلطوي من خلال إقامة ندوة دولية حول الفساد والرشوة والدعوة لإقامة هيكل مؤسساتي لمقاومة الفساد والرشوة واستغلال النفوذ!!! فمتى ينتهي موسم فتح الأبواب المفتوحة؟؟؟

هنا تتراص الأجساد المتعبة في زنزانات السجون التونسية (العمومية) ... يتقاسم المسجونون "القميلة"... أم ملتاعة تأتي من أقصى الجنوب لتعود ابنها المسجون في أقصى الشمال وفي يدها قفة بسيطة... كلمات محمومة تدور بينهما داخل "البارلوار" (غرفة الزيارة) تحت أعين الحارس... تقول له كل شيء إلا عن بيعها قطعة الأرض الوحيدة لديهم لتدفع أجرة المحامي...

وهناك يطلع علينا المتهمون في بهو المحاكم بربطات عنق قزحية وبدلات أنيقة وشعر مصفف بعناية... ابتسامات في وجوه القضاة وطوابير لا نهاية لها من المحامين... قنوات تلفزية ترصد المحاكمات وصحف تتابع الأخبار... سيارات فاخرة تزورهم أمام "سجنهم الخاص"...

الأكيد أن للقضاء مبرراته حول التأخير في التصريح بالأحكام حول من ثبتت التهم الموجهة إليهم، والأكيد أيضا أن تأسيس منظومة قضائية مستقلة وعادلة تستوجب وقتا طويلا وإرادة حقيقية... ولكن بالنسبة لي يبدو أن السجن لا يليق بغير الفقراء مادام حكرا عليهم كالأسواق الشعبية والمستشفيات العمومية وحانات الشوارع الخلفية...

سأستعير من الصديق فتحي بالحاج يحي فكرة ساقها في كتابه "الحبس كذاب والحي يروح" تلك التي تحدث فيها عن أغنية المطرب الفكاهي صالح الخميسي "يا بودفة شبحتنا" "تلك الأغنية الشهيرة التي تفاعل معها كل التونسيين وحفظوها عن ظهر قلب، وكأن فيهم توجسا بأنهم زائروه يوما لا محالة."

2011/10/01

ادرسْ‮ ‬لأننا نحتاج إلى ذكائك


في كتابه "دفاتر السجن" كتب الفيلسوف والمناضل الايطالي انطونيو غرامشي: "ادرسْ لأننا سنحتاج إلى ذكائك، حرّض لأننا سنحتاج إلى حماسك ـ نظّم لأننا سنحتاج إلى كل قوتك، فالأمير الحديث لا يستطيع أن يكون فردًا أسطورة إنما هو فقط يمكن أن يكون تنظيمًا".

أستحضر هذه المقولة المشحونة والمتقدة ونحن في مفتتح السنة الجامعيّة، نتابع عودة آلاف الطلبة إلى الجامعات والكليات التونسية، نستحضرها لأن الجامعة ليست فضاء محايدًا أو عابرًا بقدر ما هي نقطة تحوّل جذرية في حياة كل طالبة وطالب، فهي منارة علم وساحة نضال وبوابة نحو عالم أرحب، هو عالم الشغل، وأعتقد أن الجامعة هي التي تنحت الجزء المهم في شخصية الفرد الوافد عليها لما توفّره من علاقات مختلفة ومهمة في آن واحد، ولما تقدمه من زاد معرفي أكاديمي وثقافي، الفضاء الجامعي الذي يختلط فيه ابن العامل وابنة الفلاح بأبناء الطبقة البرجوازيّة، الفضاء الذي تتقاطع فيه خطى الآفاقيّين، أبناء الأرياف والمدن الداخلية بأبناء العاصمة والمدن الساحلية هي التي تؤججّ الشعور الايجابي لدى كل فرد ليقتلع مكانه الطبيعي والشرعي باعتباره طليعة المجتمع.الجامعة هي فضاء الإمكان والمبالغة... الفضاء الذي نٌعلن فيه حالة السعادة الدائمة...

إن الأفكار لا تنبت في السماء ولا تمطرها السحب، وإنما تختمر في العقول وتنعقد عبر الصّلة مع الآخر المختلف، والطالب الذي يراهن على ذكاءه وزاده النضالي وتماسكه الأخلاقي بين مقاعد الجامعة ومدارج الكليات هو الأقدر على تأثيث الجامعة التونسية "الَمحلٌوم بها"، الجامعة التي وهبت هذا الشعب كوادره الفكرية والعلميّة وساهمت، باعتبارها جزءًا من الحركة الشعبيّة، في بناء دولة حديثة وعقلانيّة...

الجامعة اليوم، يخفت بريقها بفعل نظام همّش أفقها وقلّص من دورها وحولها إلى مؤسّسة ميّتة... فشلت حتى في إخراج جيل قادر على المشي باعتداد في الشارع... جيل لم يتخلّص من "فكر" الانسجام واليقين والثّابت... ولم يتجرّأ على فكر الاختلاف الذي يمر حتما بفكر الصراع... جيل توغَّلَ بعيدا في الفراغ المعرفي واليباب الاخلاقي...

اليوم، وفي انتظار تثوير الطاقات الأكاديمية، وأن تلعب النخب الجامعية دورها الحقيقي قد يعود الأمل إلى هذا الفضاء ليرسخ في ذهن كل طالب انه لا وجود لغير الواعي بوجوده، وأن الدرس الحقيقي هو التدرب على فن العيش والتعايش، التعوّد على الصراع والمقاومة لكل أشكال التّشيُّؤِ، وان الدرس الحقيقي هو نزع الأقنعة عن الأساطير الزائفة وإنتاج البدائل المجتمعيّة الأمثل، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل إن الحرية والخبز ينبتان على ساق واحدة...

أعتقد أن الطالبة والطالب اليوم على مرمى إصرار من إعادة الوهج إلى الجامعة التونسية حتى تكون فعلا جامعة شعبية بشروط تعليم ديمقراطي ومَقاييس ثقافة وطنيّة نقديّة، وحتى تصبح الحركة الطلابيّة جزء لا يتجزء من الحركة الشعبيّة الناهضة اليوم من جلباب الدكتاتورية رغم بقاياها الناتئة هنا وهناك...

"ادرسْ لأننا نحتاج إلى ذكائك" هكذا قالها غرامشي الذي كان مثلكم طالبا في الجامعة، ناضل بحماس، درس بنجاح ومات لأجل الحرية...

لا تكن مثل غرامشي أيها الطالب... كن فقط كما أنت، ذكيّا، ومناضلاً تتقد حماسًا وتتنفس حريّة...

وكن مواطنا عنيدا في فكرك، متسلّحا بالتَّحدي وفي تشكك مستمر... ولتزرع القلق أيْنما وليت وجهك في الثقافة المطمئنّة والمستكينة...

2011/09/19

نـعـم سـنقـول‮ ‬لا‮ " ‬‬تَوْ‮ ‬تَوْ‮"


لا يختلف تونسيان في أن التجربة السياسيّة في تونس كانت مشوّهة ومشلولة لأسباب يعلمها القاصي والداني ويمكن أن نُجملها في دكتاتورية الحكم في "جمهورية" ما بعد الاستقلال بنسختيها البورقيبيّة والنوفمبريّة...

والتجربة السياسية موصولة حتمًا بالوعي السياسي، هذا الذي انحسر طيلة نصف قرن فيما يُعرف بالطبقة السياسية في مختلف تلويناتها وخطوطها، بمعارضتها وموالاتها، وهو ما ساهم في غلق قنوات التواصل بين "الطبقة السياسيّة" والقواعد الجماهيرية المعنية بالشأن العام فظلت تلك الجماهير طيلة حكم بورقيبة وبن علي "بضاعة مٌعلَّبة" تُباع وتُشترى زمن "المسرحيات الانتخابية" السابقة...

أمّا اليوم، ورغم عدم التخلّي عن سياسة القطيعة بين ما اصطلح عليه بالنخبة وبين الشعب، ورغم تعدّد المؤشرات السلبيّة والسالبة لمواطنة المواطن، فإنّ التجربة السياسية التي سيُقدم عليها الشعب التونسي من خلال المشاركة في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي الوطني تحمل في عمقها عديد المؤشرات الممكنة للقطع مع سياسة الوصاية والاستحواذ على إدارة الشأن العام... ويكفي اليوم أن يجلس كل مواطن إلى نفسه ويسأل كيف سأختار من يمثلني ولماذا؟ هذا طبعًا بعد ان يكون قد آمن بأن صوتًا واحدًا من شأنه أن يحدّد وجهة هذا المجلس والكف عن الاستخفاف بقيمة الصوت الواحد... وبالتالي بقيمته إنسانا أولا ومواطنا ثانيا.... وهي الدرجة الأولى للدخول في التجربة السياسيّة... بوعي بسيط، ولكنَّه عملي في مرحلتنا الراهنة...

نعم أنا مواطن، نعم أنا مواطنة... نعم من حقنا ومن واجبنا أن نقول "لا"... ولكن لمن سنقول "لا" ولماذا؟

أمّي، أبي، أخي، أختي، جارتنا، بائع الدجاج، سائق التاكسي، عامل البلديّة، الطالب، المعلم، الممرضة، الفلاح، الميكانيكي، الخبّاز... كل الفئات الشعبيّة وكل القطاعات وكل الجهات وكل مواطن تونسي قادرٌ ـ من موقعه ـ أن يُنجح الانتخابات لو فكّر بطريقة عكسيّة، أي قبل أن يقول "نعم" لهذا المرشّح عليه أن يعرف لماذا سيقول "لا" للمترشح الآخر... وأعتقد أن القرائن المعزّزة لقول "لا" ملقاة على قارعة الطريق بفضل ما راكمته السياسة السابقة من غباء مفرط من جهة وبما يأتيه اليوم بعض السياسيين من تكالب وتهافت غبي على السلطة من جهة ثانية ليكونوا بذلك أوفياء للذهنية التجمعية... وهذا ما سيسهل عمليّة الفرز بين القوائم التي قد تبدو كثيرة ـ بعد أن هوَّلَتها وسائل الإعلام والحيوانات السياسيّة المٌصابة بإسهال كلامي لتعسير المهمة على المواطن ...

إذ يكفي مثلاً أنّ "أمّي" لا تعرف حزب العمال الشيوعي التونسي ولا حركة الوطنيين الديمقراطيين ولا حركة التجديد ولا الاتحاد الوطني الحرّ ولا حزب الوطن ولا حزب الوحدة الشعبية ولا حزب التنمية والعدالة ولا الجبهة الشعبية التقدمية ولا الحزب الدستوري الجديد ولا حزب التكتل ولا التحالف الوطني للسلم والنماء ولا حركة النهضة ولا حزب الإصلاح والتنمية...

لا تعرف هذه الأحزاب وغيرها، ولا رؤساء القوائم، ولا المناضلين التاريخيين أو القادمين اليوم على بساط الدولار والأورو... لا تعرفهم رغم المعلقات الاشهارية الضخمة ورغم الومضات اليومية في التلفزات والإذاعات والصحف....

"أمّي" لا تعرف هذه الأحزاب ولا باقي قائمة المائة ولكنها تعرف بالاسم والفعل في مدينتها أن من كان مع "التجمع" سابقًا يحرم الفقراء والمحتاجين من علب الطماطم والزيت والأقلام والكراسات ويأتي اليوم في جبّة جديدة وتحت يافطة حزبيّة مفضوحة ستقول له "لا"... "لا" أيها التجمّعي لن أمنحك صوتي.. ولن أمنحك فرصة جديدة لمواصلة ما جٌبلتَ عليه من زيف وسرقة وكذب وبهتان...

"أمّي" ليست مُتعلّمة ولم تدخل مدارس أو جامعات ولكنها تبكي كل يوم من غلاء أسعار الخضر واللحم والغلال ومواد التنظيف...(وفي لاوعيها تسأل لماذا لا يساعدها والدي في الطبخ والتنظيف)... وبوعيها المحدود تعرف أمي أن حٌفَرَ الطريق أمام دارها تسبب فيها بدرجة أولى المسؤول البلدي التجمعي الذي يعتني بما أمام بيته فقط، وأن فوانيس الشارع الأمامي مٌعطبة بفعله هو... وأن المدينة تفتقر إلى محطة سيارات الأجرة وأن مياه الرَّي لا تٌوَزّعٌ بالعدل بين الفلاحين، وأن الطلبة يٌحرمونَ من المنح الجامعية لأنهم لا ينتمون الى طلبة التجمع؟؟؟ وتعرف أيضا أن المسؤولين السابقين أقاموا "شكلا حجريَّا" في مدخل المدينة بمئات الملايين وقالوا إنّه تمثال وأن المستشفى والمدارس والمعاهد والمؤسسات الثقافية والأراضي والبنية التحتية كلها تخلّفت بفعلهم هم... ولذلك ستقول لكل النسخ التجمعيه "لا" ثم "لا"...

"أمّي" أيضًا تُصلي وتصوم وتقيم فرائضها الدينية وتتمنّى ان تزور البيت الحرام ومع ذلك لم تُلزم أختي يومًا ما بارتداء الحجاب عنوة وهي لذلك ستقول "لا" لأصحاب المشاريع الظلاميّة المتسترين بواجهة بلوريّة سيهشمونها بعد قليل... ستقول "لا" وهي التي لا تستطيع أن تلفظ تركيب "مشروع ظلامي".. ولكنها تعرف ان ابنتها من حقها أن تشتغل ولا تبقى في البيت تنتظر رجلاً... وتعرف أنها هي وحدها المسؤولة عن اختيار الحجاب من رفضه...

"أمّي" سَتٌكَوّنٌ وعيّا سياسيًّا بسيطًا يشبهها، وستساهم من موقعها في انتخابات المجلس التأسيسي وسأساعدها على فرز صوت الحداثة والعقلانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطيّة... وهي التي لا تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، ولا تدري ما معنى الانتقال الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروات بين الجهات والقطاعات... وسأقنعها بأنّه حتّى لو لم يُثمر صوتها وصوتي ما نحلم به فإنه تكفينا المساهمة الإيجابية أولاً من موقعنا البسيط وسأقنعها أيضًا، وهي تعرف ذلك، أننا كثرٌ جدًا في البلاد... وأن ما ستفعله هي ستقوم به امرأة أيضا من بنزرت وأخرى من جربة وثالثة من بن عروس لأنهن يلتقين في الألم والفقر.. وفي الحلم...

وأمي أيضا لا تعرف أن مدينتها وكل المدن التونسية والوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في وطننا لن يتَحَسَّن "تَوْ تَوْ" على الطريقة "الرَّيَاحيَّة"، تعرف ذلك وهي التي سألتني لماذا كل تلك الاشهارات لحزب "تَوْ تَوْ"المرسومة على اللوحات الكبيرة وعلى الحافلات وفي التلفزات؟ سألتني لماذا لمْ يَشْتَرِ هذا الحزب مثلا حاويات فضلات ويوزعها على الأحياء والشوارع في المدن ويكتب عليها شعاره الانتخابي، وقالت لي بالحرف الواحد "على الأقل نربحوا حويجة مفيدة"...

نعم سَنَقٌولَ "لا" أنا وأمي وأختي وزوجتي وأخي... للمشروع الاستبدادي القادم من بقايا التجمّع وللمشروع الاستبدادي المتسترّ بكلام اللّه زورًا وبهتانًا... لأن "تشبيك الأصوات الانتخابية" ممكن ومتاح لكل مواطن بسيط يعلم أن انتخاب المجلس التأسيسي ليست عملية إيديولوجية بقدر ما هي عملية سياسية تخضع للمعادلات الحسابية المضبوطة...

سنقول "نعم" يوم 23 أكتوبر للقائمة التي تٌشبهٌنَا والتي لن تتردَّدَ في كتابة دستور مَدَني سيضمن حتما لأمي أن تؤدي فريضة الحج دون أن يسرقها صاحب وكالة أسفار حفر على جبينه علامة الصلاة وهي براء منه ومن أفعاله... دستور يؤكّد أن الإسلام جزء من الهوية التونسية وليس كلها، وأن السرقة جريمة في حق الوطن قبل أن تكون في حق مواطنة بسيطة مثل أمي "فضيلة"...

2011/09/16

رؤوف كوكة يهزم عبد الفتاح مورو





هل يمكن أن نجري مقارنة بين مخرج محترف يجيد ملاعبة الكاميرا والوقوف خلف عدستها باعتداد وتوثب، وبين منشط تلفزي يقدم برنامجا تلقينيا يقف أمام عدسة الكاميرا وينتظر توجيهات المخرج لحركاته وسكناته؟
هل تجوز مقارنة المخرج رؤوف كوكة بالمحامي عبد الفتاح مورو الذي نشط برنامجا تلفزيا؟
قد تجوز مقارنة من هذا القبيل بعد أن انتهت أيام رمضان وانتهت معها العادات التي يتدثر بها التونسيات والتونسيون في هذا الشهر دون سواه لتعود ألسنتهم إلى ما التصق بها من سقط الكلام وأياديهم إلى ما استطاعت إليه سبيلا من الحركات المشبوهة، وبالمثل تعود أرجلهم إلى سالف أمكنتها وفضاءاتها بعد أن أنهوا واجبا لا مفر منه...
المقارنة تبدو ممكنة بعد أن انتهت البرامج التلفزية التي تتكدس في هذا الشهر دون سواه، ورغم البعد السياسي الذي ميز برمجة هذا "الموسم الرمضاني" فان مآل البرامج التلفزية، كالعادة، منذور إلى النسيان وفي أقصى الحالات إلى "تيمة" إعادة البث بعد شهر أو شهرين...
ومن بين برامج هذه السنة التي "منت" بها الثورة على المشاهد التونسي، برنامج "الكاميرا الانتقالية" الذي قدمه رؤوف كوكة وبرنامج مستحدث على قناة حنبعل بعنوان "صحة شريبتكم" لعبد الفتاح مورو، وان جازت المقارنة بينهما فان النتيجة التي يمكن أن نظفر بها هي هزيمة مورو أمام كاميرا كوكة، والهزيمة هنا رمزية من جهة التنافس الطبيعي بين القنوات التلفزية على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين خاصة أن البرنامجان يبثان في نفس التوقيت تقريبا، وهو ما يفترض "صراعا" خفيا بين القناتين على نسبة المشاهدة وبالتالي قيمة الاستشهار التلفزي.
هزيمة رؤوف كوكة لمورو يمكن أن نقرأها من عدة مداخل، مشهدية وسيميولوجية وايتيقية، وحتى السياسية، فبرنامج الكاميرا الانتقالية اعتمد على الحركة والتنوع وتعدد الفضاءات في حين ظل برنامج صحة شريبتكم ساكنا يدور في نفس السياق اللغوي وفي ذات الفضاء والديكور الفاخر جدا كملابس مقدمه... وكان البرنامج الأول ذا طبيعة تفاعلية تشاركية لعب فيه المواطن دور "البطل" (ولو لدقائق) في حين أن البرنامج الثاني كانت فيه العلاقة بين الباث والمتقبل علاقة عمودية فوقية اعتمدت الأسلوب التلقيني الوعظي التي تحول معها المشاهد إلى تلميذ منضبط لتعاليم المدرس في الفصل... يستمع ولا يناقش...
هزيمة كوكة لعبد الفتاح مورو تتجلى أيضا من خلال ردود أفعال المواطنين الواقعين في كمائن مخرج الكاميرا الانتقالية، فهذا المواطن الذي التصقت به شتى النعوت والصفات السلبية باعتباره إفرازا من افرازات المجتمعات المعلبة "المابعد عولمية" برهن بطريقة عفوية وتلقائية عن طينة أخرى للمواطن الايجابي فعلا من خلال تصرفات وسلوكات اتسمت مجملها، إن لم نقل كلها، فيما تعرفه فلسفة حقوق الانسان بالأخلاق المواطنية، في حين أن البرنامج الإرشادي لعبد الفتاح مورو ظل متعاليا في برج التنظير الفضفاض حيث اللغة تعلو أكثر إلى سماء أخرى تنأى عن أوجاع هذه الأرض السفلية...
إن النتيجة التي يمكن أن نخرج بها هي أن برنامج رؤوف كوكة قدم لنا صورة عن المواطن الموجود بالفعل في ثنايا الأزقة والشوارع والمؤسسات الإدارية في تونس، في حين ظل البرنامج الثاني يرسم صورة "منتظرة" أو محلوم بها للمواطن الموجود بالقوة من خلال تكريس خطاب الأخلاق أو ما يُعرف بخطاب "ما يجب أن يكون"...