بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/04/25

خطوة القط الأسود لناجي الخشناوي


بقلم رشـــــــــــــاء التونسي

جريدة الشروق 24 أفريل 2009

في طبعة أنيقة لدار ورقة للنشر لزميلنا سمير بن علي، ولوحة غلاف جميلة جداً للفوتوغرافي رمزي درويش، صدرت المجموعة القصصية الأولى لناجي الخشناوي

. مقارنات بين متضادات غريبة بحثاً عن استشفاف حركة الواقع، ليس هنا كحوار، بل مونولوج مع الذات، أو حوار إسترجاعي، يروي لنا وله تفاصيل الأحداث، منذ الورقة الأولى يعلن الكاتب مأساة الورقة البيضاء، وألمنا المتشابه نحن رفاق القلم مختبئا حافة الجلباب:

من السهل على الواحد منا نحن السواد الأسود أن يعثر على عتبة حبرية يشغل بها رأس المساحة الورقية المتبرجة بين ناظريه، في فستانها الأبيض، لكن من الصعب عليه أن يجد الوقت الكافي والضروري لفك أزرار الفستان البيضوي والولوج إلى أتون الورقة ومغاورها / ببساطة من السهل على واحد منا أن يمسك بعنوان قصة قصيرة مثلاً وهو يركض خبطاً ولطماً خلف ذيل حافلة صفراء عجوز / من السهل عليه ذلك، لكن من الصعب جداً أن ينجح في الحفاظ على حبات الزمرد والمرجان لعقده اللغوي بمجرد أن يحشر داخل العلبة الصفراء العجوز اللعينة، إذ تتبخر فكرة القصة مع الروائح العطنة وتبتلعها أحداق العيون المتوثبة على الجيوب والحقائب اليدوية لصبايا الطريق، ويداس المتن السردي بأحذية الركاب المعفرة بأوحال الأرصفة، وتثقب الفكرة بكعب حذاء يرزح تحت وطأة مائة كيلو غرام من لحم أنثوي مترهل».
كتابة تحمل تفاصيل على طريقة السينما الواقعية، حكايات بسيطة تفسح الطريق حيث لا تنتهي القصة، يبدأ ناجي الخشناوي حكاياته باستعارات متواترة تحول الوصف إلى شعائر تربط الكاتب بشخصيات قصصه، فتمتزج و لا نعود نميز إحداهما من الأخرى، حكايات اليوم العادي، يمرر فيها حياة النسيج الاجتماعي وبنيته التحتية، معظم القصص تدور في الشارع والبيت والأماكن المرتادة كل يوم، عجينة مطواعة تحاول أن تحمي إنسانيتها عبر الحلم، بسطاء الشباب، أولئك الذين يعيشون على هامش الحياة، يحمل الكاتب أوراقه ويرصد أحلامهم المتعبة ولاجدوى حياتهم، لكنه لا يغلق الباب، يتركه مفتوحاً أمام تلك الفئة الاجتماعية المشتتة بين ثقافة مكتسبة ونكران اجتماعي.

في «خطوة القط الأسود» خمس عشرة قصة في نصوص مبنية على خصوصية التعامل مع اللغة تعاملاً يربط بين الحساسية القصوى ووحشة الرجل الوحيد، وهناك تواصل بين القصص في بنى متراصة ومتسلسلة بتسلسل غير منطقي، بروابط نفسية ووحدة الشعور الذي يعبرعنه الكاتب، يتلاعب ناجي بإدارة لعبة القص، وطريقة السرد، يعطي للغة ألواناً ويصنع من المفردات نجوماً، حيث تتحرك الأشياء الجامدة لتعبر عن إنسانية في شرنقة المدينة والحافلة اللاهثة. تجربة حياة وقراءة الكاتب للحياة، صور يومية متدفقة كالريح، كالحافلة الصفراء اللعينة وروائحها العطنة، ولص المكتبة الحالم برحلة إلى طنجة على خطوات محمد شكري، وذلك الذي تضاءلت مساحة البياض فوق ورقة علبة السجاير الفضية يحسب المصاريف وهو ينتقي أثاث زواج منتظر، ليستلم في النهاية زوجي حذاء تزاوجا دون جهاز إلى الأبد. أو بائع الياسمين راكب الدرجة الأولى خطأ. لكن ذلك لا يمنع الذكريات الجميلة مع حسن وسعيد في حانوت عبودة الحلاق، وفي خضم تلك المفارقات يخترق بصيص الأمل الحياة فيتصل الراوي بملهمته التي يهديها كتابه قلباً وعقلاً، و التي رافقته من الصفحة الأولى على سرير من حنين وورق مردداً مقطعاً من ديوانها الشعري
مستوحدان أنا وظلي / نرسم على الحلم سلالم /لا وفي لنا / نسمي الدفاتر عمراً / العمر خيول تهاوت

والقصة القصيرة من أكثر الفنون استقصاء عن التنظير والتأطير الشكليين، وكل قصة قصيرة هي تجربة جديدة في ما يسمى «التكنيك» وفي خطوة القط الأسود نتعرف على كتابة لها صفات خاصة، ضمن العمق الدلالي واللغوي، الناتج عن أهم العناصر الفنية وهي فلسفة التجربة الحياتية وتألق اللغة الأدبية، ناجي الخشناوي أديب من نوع خاص في أدواته وأسلوبه، يحمل تجربة حياة وقراءة، حياة لا تبدو غامضة ولا مبهمة، حياة ضمن سياقها المألوف، وتجربتها التي تسطر أمامنا دون حوار، تجربة مختزنة ومرتحلة معنا أينما نذهب، تقربنا من الحياتي حيث يكمن الجزء الأعمق، لنجد الملغى والمهمل، ورغم كل هذا فالحياة تيار جار دائماً إلى الأمام والكتابة أيضاً. ففي النهاية يصل بنا الكاتب إلى عالم أبعد ما يكون عن عوالمه السابقة، عالم افتراضي، يبحث فيه لاهثاً كحافلته الصفراء عن عالم فاضل تتحقق فيه إيتوبيا السلم والقيم الأساسية مثل الحرية والمساواة والتضامن والمسؤولية المشتركة واحترام الطبيعة. لكن حتى هناك الفضيلة افتراضية، ويهمس له زميله: «كل شيء يمكننا أن نصيره افتراضياً ماعدا صوت فيروز ووقع أقدام الجنود».
مهنة الكاتب هي أقصر طريق للألم والأمل، ولا وجود للقصة بدون قصة تحكى، أي أن تقنيات القص لا تكفي وحدها بالضرورة لإنتاج فن قصصي، بل إن وجود المادة القصصية هو العامل الاساسي الذي يبدأ معه العمل القصصي، وكما قال الناقد ويت بيرينت «لا أعتقد أنك تستطيع كتابة قصة قصيرة جيدة دون أن يكون في داخلك قصة جيدة، أفضل أن يكون لديك شيء تقوله من غير تقنيات القصة، عن أن تملك التقنيات وليس لديك شيء تقوله».
ناجي الخشناوي كان لديه القصة والتقنيات منذ عمله الأول خطوة القط الأسود.

ramaracha@yahoo.fr