بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/20

موت العائلة التونسية



لست أدري هل طالت حمّى الإماتة مفهوم العائلة، بعد أن شملت موت الايديولوجيا والمثقف والفلسفة والكاتب في إطار فلسفة الإماتة المجانية التي تصلنا مُعلّبة مغلّفة ملوّنة بين طيات الكتب والدوريات الوافدة علينا من هناك وتقفز الى أبصارنا وبصيرتنا داخل بيوتنا من خلال الفضائيات التي تتحفنا مليون مرة في اليوم الواحد بتحاليل المفكر العظيم أو المنظر الفذ أو المثقف الشمولي... إلى غير ذلك من نعوت المذيعين البهلوانية...
لست أدري إن كان مفهوم العائلة قد انضم الى عائلة المفاهيم الميتة هناك ولكنّي بتّ على يقين ثابت أنها (العائلة) مفهوما ووجودا، سائرة نحو الموت والفناء هنا، في عقر دارنا، في تونس الملايين المعدودة والمساحات الشاسعة، هذا إن لم تكن قد ماتت فعلا، فيكفي أن نطّلع على مشروع شركة النهوض بالمساكن الاجتماعية (سبرولس) لسنة 2007 لنعرف حجم الموت الذي سيلحق بمفهوم العائلة التونسية المفترضة، فهذه الشركة وفي إطار برامجها السكنية ستوفّر هذه السنة لطالبي المنازل وحدات سكنية «نموذجية» بولايات بنعروس ومنوبة وسوسة والقيروان وقابس من صنفين، أوّل متكون من غرفة واحدة وقاعة استقبال وثان بغرفتين وقاعة استقبال، سعر الأولى 23 مليونا وسعر الثانية 71 مليونا.. وبغض النظر عن الفارق اللامنطقي بين الوحدتين والذي نستشف منه ان ثمن غرفة واحدة (4 حيوط) يناهز 38 مليونا بالتمام والكمال أو هو يفوق ثمن الوحدة الاولى بما قيمته 15 مليونا بالتمام والكمال ايضا... فإن الاسئلة التي يمكن ان تقفز الى ذهن الواحد منا لا يمكن لها إلاّ ان تحوم في مدار العائلة وفي سياق التواصل والاتصالية... ولنا في هذه الاستنتاجات او الخلاصات ان نقف على عين التفتت وعلى موت العائلة مفهوما وكيانا، فالعيش داخل علبة اسمنتية تتكون من غرفة يتيمة وبيت استقبال يعني تخصيص الغرفة للنوم وبيت الاستقبال للضيوف وهذا يترتّب عنه عدم انجاب الاطفال لعدم توفّر غرفة لهم، وعدم التناسل يعني ضرورة موت العائلة بيولوجيا، اما في حالة الانجاب فإن ضرورة الاستغناء عن استقبال الضيوف سيصير حتمية لا مفرّ منها وهذا ما سيؤدي الى موت العائلة اخلاقيا، ذلك ان فعل التزاور والتواصل كفيل بتأمين نصيب وافر من تماسك الاسر التونسية اما اذا انجبت العائلة أطفالا واستقبلت ضيوفها في غرفة استقبالها طبعا حيث تنتصب التلفزة شامخة أبيّة مستحوذة على الابصار والعقول مريحة حتى فكرة ترصيف بعض الكتب بجانبها او فوقها أو تحتها، وحيث تنتشر أرائك بيت الصالة على كامل مساحة غُريْفة الاستقبال فلا تترك مساحة لا للمكتب للمراجعة ولا أي مكان للحاسوب الشعبي مثلا... وبهذه الفرضيّة الثالثة تموت العائلة فكريا ومعرفيا الا من «ثقافة» و»معرفة» الشاشة العظيمة مُلهمة الجميع وشانقة الجفون... وما أضيق غرف سبرولس لولا فسحة اللغة...

مسمار في الريح...


من التراكيب اللغوية السيّارة على ألسن كل التونسيين والتونسيات تركيب «مسمار في حيط» دلالة على التأمين الدائم على الحياة بمجرّد انتداب الواحد الى الوظيفة العمومية وحصوله على كافة حقوقه في اطار قانون الشغل المعمول به بدءا من التمتع بأجر كامل وصولا الى أبسط حق يمكن ان يطالب به الموظّف لدى الحكومة طبعا الى جانب التأمين على المرض والتقاعد...
وثبات ذاك المسمار الشخصي في قلب الحائط الوطني لايختلف حول حقيقته عاقلان، فكل من يشتغل أو له أن يشتغل في القطاع العمومي يعرف ذلك جيدا ولكن اعتقد اننا يجب ان نُعود ألسنتنا على تركيب لغويّ جديد يتناسب مع وضعيات الشغل الجديدة في سوقنا الوطنية والتي تشمل تحديدا فئة الشباب وبالخصوص حاملو الشهادات العليا، واعتقد أن «مسمار في الريح» هو التركيب الاسلم والاقرب لتشخيص حياة ما يقارب 46 (حسب إحصائيات الاستشارة الشبابية) من الشباب المقبلين على عالم الشغل أو هم يخوضون غماره في مؤسسات القطاع الخاص، مقابل 45.5 للقطاع العام (حسب نفس الاحصائية من مرصد الشباب)، ولئن تذهب بعض القراءات البسيطة والساذجة أحيانا إلى أن توازي نسبتي المطالبة بحق الشغل في كلا القطاعين هو مؤشّر إيجابي على قطع الشباب مع ذهنيّة «مسمار في حيط»، فإنّي شخصيا لا ألمس أيّة إيجابية في ذلك بل بالعكس إنّي أرى ذلك مؤشرا خطيرا جدا جدا اولا على هيبة القطاع العمومي الذي بات يتآكل بفعل زحف الخوصصة على كل ما كان ثابتا قبل عقود قليلة من الزمن خاصة في مجال التعليم والصحة والنقل والطاقة... وغيرها من القطاعات الحيوية، هذا فضلا عن انسداد الآفاق المهنية في تمتع مستحقي الشغل واصحابه فعلا بوظائف في القطاع العمومي مما جعلهم «يرضخون» او «يكرهون» على التوجّه الى القطاع الخاص... الى قطاع الحقوق الجزئية... الى قطاع العقود اللاّ إنسانية... وإلى الحياة عن طريق المناولة.. أليست هذه هيّ حياة المسمار «الثابت» وتدا من الأوهام فيّ قلب الريح حيث لا أمر ثابت ولا حياة مؤمّنة إلاّ لمن رضي بأن يكون «قشّة» تتطاير بها رياح الشركات والعقود أنّى طارت رغبة الاعراف...وحده «القش» اليابس تزداد نسبته في الخريف وكذلك العواصف الهوجاء تزداد سرعتها كلّما ازداد زفير الريح وقوّته...