بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/12/31

نواقيس قديمة لسنة جديدة

عمتم مساء أيها المدعوون إلى حفلات رأس السنة الميلادية الجديدة... عمتم صباحا، أنتم أيها السكارى المنثورين فوق إسفلت المدن/الملاهي وأرصفتها... مرحى لكم جميعا وأنتم تصلون ليلكم بنهاركم وسنتكم بلاحقتها... بالشمع المعطر والخمر المعتق... بنكات السنة الماضية وقبل السنة القادمة... مرحى لكم وأنتم تخيطون النصف بالنصف بحكايات حذاء سندريلا ونواقيس الملاعق الفضية... مرحي لكم أيها السكارى الساهرون داخل مخيمات الورد... أيها الآمنون بحسن الأمن... مرحى لأصدقائي القدامى وهم يلفون قطع المرطبات بين أوراق صحيفة وشحت صفحتها الأخيرة بمقاطع من قصيد "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة" لمظفر النواب... مرحى لأصدقائي القدامى وهم يتدافعون أمام بائع البطاقات البريدية يرسلونها مضمونة الوصول إلى نيويورك... أو إلى نيو أصدقائهم... مرحى لهم وهم يفعلون كل هذا ويتذكرون _ فقط يتذكرون _ مقطعا شريدا من أغنية "بنت الباي" للأزهر الضاوي : "... لا وسكي في الري فيون ..." مرحى لكم بالوسكي الأمريكي... عمتم صباحا مساء وكل رأس سنة جديدة أيها العروبيون، الوطنيون، التقدميون، الأبيقوريون حد الموت... الموت... صباح الموتى... مساء الموتى... كل عام وأنتم موتى... عمتم مساء أيها الساقطون في اللهب... عمتم صباحا أيها الصاعدون من اللهب... كل سنة وأنتم ناهضون من اللهب... قادمون من اللهب... سائرون باللهب إلى الأمام... أعلى من اللهب... عمتم مساء أيها الفلسطينيون المشردون في مخيمات الريح... عمتم صباحا أيها العراقيون المذبوحون بين المشانق والزنابق... كل عام وأنتم مقاومون... صامدون... عائدون... محتفلون بالقوارير والشمع شظايا في وجه الأمريكيين... الإسرائيليين... العروبيين... الوطنيين... التقدميين... الأبيقوريين حد الموت... صباح المجازر... مساء الجَنَائز... كل عام وأنتم ناهضون من المَجَازر... كل عام وأنتم عائدون من الجنائز... كل عام وأنتم مُقاومون أيها الفلسطينيون... كل عام وأنتم مقَاومُون أيها العراقيون... كل عام وأنتم مُقاومون أيها السوريون... كل عام وأنتم صَامتُون أيها العروبيون... مَرحَى لكم أيها الفلسطينيون بالقذائف، بالمدافع، بالحرائق، بالمعتقلات، بالمذابح والمجازر... مَرحَى لكم بالسنابل والكرمل والبرتقال... مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة بالحجر... مَرحَى لكم أيها العراقيون بحزن النخيل، بسجن أبو غريب، بقبضة الطوائف، بالعرق العراقي، بالحفل الأممي الذي دُعي له النفط ولم يدعَ له العراق... مَرحَى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة جديدة بالمتفجرات... كل عام وأنت وطن أيا عراق... كل عام وأنت وطن أيا فلسطين... كل عام وأنت وطن أيا سوريا... كل عام وأنت مستعمرة أيا جغرافيا المنافي... كل عام والفلسطيني لا يخطئ عد السنوات :1948... 1948... 1948... 1948... 1948.. كل عام والعراقي لا ينسى عد السنوات :9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... كل عام والعروبي يتقن عد السنوات:...2003...2004...2005...2006...2459... كل عام وأنا أكتب بالحبر الأسود... كل عام وأنت تقرأ بالنظارة السوداء...

2012/12/27

المأتم السياسي

تعرف الانتخابات في ظل الأنظمة الدكتاتورية حالة من التوتر والتشنج تصل حد العنف والقتل، وتغذي هذه الحالة النزعة القبلية والعصبية المتشددة التي تشرع كل أنواع التعدي على المرشحين والمنتخبين على حد السواء، ويتغلب منطق القوة و"الفتوة" و"الرشوة السياسية" على قانون الانتخابات وعلى البرامج الانتخابية، ويبدو أننا في تونس سنعيش الانتخابات القادمة، إن حصلت، تحت مظلة الدكتاتورية الناشئة خاصة أن عديد المؤشرات بدأت تطفو بشكل علني منذ مدة لعل أبرزها غموض القرار السياسي من قبل الحكومة المؤقتة في علاقة بتفعيل الهيئة المستقلة للانتخابات وهي الهيئة التي من شأنها أن تضمن حدا أدنى من الشفافية ونزاهة العملية الانتخابية، إلى جانب التراخي المفضوح في كتابة الدستور والتعجيل بالانتهاء منه في ظرف سنة مثلما تم الاتفاق على ذلك قبل الانتخابات الفارطة، هذا فضلا عن حرب النيابات الخصوصية بالبلديات وتغليب المصلحة الحزبية على حساب الكفاءة والمصلحة الوطنية في تسيير دواليب الدولة وهياكلها التنظيمية باستعمال النفوذ السلطوي، إلى جانب استعراض القوة في أكثر من مرة... والإصرار على الإقصاء الجماعي تحت مسمى قانون "التحصين السياسي للثورة" والسعي إلى فرضه دون حوار، وطبعا المحاولات المتكررة للسيطرة على وسائل الإعلام وتوجيهها للطرف الماسك بالسلطة الآن خاصة بعد تعليق أعمال الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام... هذه المؤشرات وغيرها التي لا تخدم المسار الديمقراطي والعملية الانتقالية من مرحلة الديكتاتورية والانتخابات المزيفة إلى مرحلة الشفافية والديمقراطية، تضاف إليها اليوم أساليب موغلة في الهمجية والاستهتار بحلم هذا الشعب في حياة ديمقراطية، أساليب بدأت تطفو على المشهد السياسي منذ أن سقط رأس الديكتاتورية، حيث أصبحت جل الأحزاب المدنية تحديدا مُستهدفة بشكل مباشر سواء في قياداتها أو في قواعدها ومقراتها، وفي كل مرة تتحول التظاهرات العامّة، إلى ما يُشبه "المأتم"، خاصة بعد أن بلغ الأمر إلى حد القتل العمد، كما أن اغلب الاعتداءات المتكررة على أهل الفكر والثقافة والفن وعلى النقابيين والحقوقيين كانت كلها في خدمة السياق السياسي العام المراد إقراره بالقوة، وهو نسف لكل إمكانات الانتقال الديمقراطي السلمي. العنف السياسي بلغ ذروته يوم 4 سبتمبر عندما استبيحت بطحاء محمد علي، وما شهدته سيدي بوزيد كذلك من اعتداء بمناسبة احياء الذكرى الثانية لانطلاق ثورة الحرية والكرامة، وكانت الاعتداءات في جربة يوم 22 ديسمبر 2012 الجاري أخر حلقاتها، ودون الإحالة على القيادات النقابية والسياسية والوطنية المستهدفة والأطراف التي تمارس التحريض السري والعلني والتي باتت معلومة، فان "المبررات" المطروحة من قبيل "الثغرات" الأمنية داخل الجهاز الأمني وتساهله في أكثر من حادثة، وتسريب السلاح من ليبيا أو الجزائر، وكذلك إطلاق سراح عديد المساجين جميعها وغيرها كان يمكن تداركها وإيجاد الحلول المناسبة لها حتى لا نصل إلى نقطة اللاعودة بعد أن صارت تونس في القائمة السوداء للدول، غير أن الإرادة السياسية غائبة ولم نشهد إلى حد اليوم سوى الاستهتار الكامل والمخجل من قبل من يمسك بدواليب الحكم أمام هذا العنف الذي يتواتر بشكل يومي ومُمنهج يضرب في العمق منسوب الثقة بين الفاعلين السياسيين، ويستنزف بالدرجة الأولى "الطاقة الثورية" التي من المفترض أن تغذي المسار الانتقالي الديمقراطي، ويكرس قناعة مفادها ان العنف تحول إلى أسلوب إدارة الفشل لا غيره.

حكومة "المايباخ" وثورة "التكتك"

سيُحشر الشعب التونسي في علب "التكتك" ليتنقل بها بين الحفر والطرقات المهترئة، مجازاة له على دمائه التي سالت على الطرقات نفسها، وسينعم بعضهم بسيارة "المايباخ" ليتنقلوا بها من قصورهم الفخمة إلى المطارات، ليتمتعوا بنعم الثورة التي لم يشاركوا فيها أبدا... فبين سرعة أفخم سيارة على وجه الأرض "المايباخ"، (300 كلم في الساعة) والتي أهدى واحدة منها القذافي لبن علي، تلك المعروضة الآن بمعرض كليوبترا بضاحية قمرت، وبين سرعة "التكتك" (لا تتجاوز 50 كلم في الساعة) وسيلة النقل المزمع توريد 21 ألف واحدة منها إلى الطرقات التونسية، بين السرعتين يمكننا أن نقف على الهوة العميقة بين مطالب الثورة الشعبية وبين "الحلول" التي تطرحها الحكومة الحالية... ويمكن أن نتبين الصورة الكاريكاتورية التي نحن بصددها... أما سيارة "المايباخ" تلك المركونة تحت أضواء معرض قمرت، إلى جانب عشرات السيارات المماثلة فخامة وغلاء، في انتظار من سيظفر بها ويدفع سعرها الذي قد يفوق الثلاثة مليارات من مليماتنا، فضلا عن الإضافة الرمزية لسيارة "الطاغيتين"، وهو مبلغ يمكن أن يفتح أكثر من شركة قد تضمن أكثر من مائتي موطن شغل، ويمكن للمبلغ عينه وأكثر أن تضمنه الدولة لو جعلت من معرض كليوبترا بقمرت معرضا سياحيا مفتوحا دائما للزوار مثل المعرض الملكي بالأردن الذي يدر أرباحا محترمة للدولة من خلال عائدات الزيارات اليومية له... خاصة أن معرض الأملاك المصادرة شهدت زيارة 451 زائرا في اليوم الأول و385 زائرا في اليوم الثاني وهذا الرقم يوفر 11 مليونا و550 دينارا باعتبار أن تذكرة الدخول 30 دينارا للزائر. ويمكن أيضا استغلال آلاف القطع والتحف والوثائق التاريخية والنادرة للفترة البورقيبية، تلك المنذورة للتلف والغبار والنسيان داخل القصر الرئاسي، وعرضها في فضاء آخر يمكن أن يكون هو أيضا موردا من موارد الدولة وفضاء يشغل أكثر من شخص... غير أن فن إتلاف الذاكرة ونسف التاريخ يبدو انه الفن الأكثر امتهانا لدى الحكومات المتعاقبة، فمثلما "مسح" نظام بن علي سجن 9 أفريل من فوق الأرض، هاهي الحكومة الحالية "تبيع" التاريخ في المزاد العلني تحت الأضواء الكاشفة والابتسامات المجانية... إن مثل هذه الأشكال لا تساهم إلا في تعميق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين ملايين الشعب المفقرة والمسحوقة من جهة وبضع مئات من "الرأسماليين" الذين يمتصون عرق العمال ليقتنون سيارة بأكثر من مليار ونصف المليار... وأما "سيارة التكتك" التي أعلن رئيس الحكومة المؤقتة أنه سيتم توريد قرابة العشرين ألف وحدة منها بداية من السنة القادمة في إطار "مشروع نموذجي"، فهو مشروع مثلما انتقده سواق التاكسي يهدد أكثر من 60 ألف موطن شغل، هذا فضلا عن كون المدن التونسية تعيش حالة اختناق كبيرة، ولا يمكن أن تكون هذه السيارات مواطن رزق دائمة وحقيقية... ومن المفارقات المضحكة أن يتزامن رواج خبر توريد واستغلال حوالي 21 ألف عربة تكتك، مع تدشين الصين لأطول خط للقطارات فائقة السرعة في العالم يربط بين بكين في الشمال وكانتون في الجنوب في رحلة طولها 2300 كلم وتستغرق ثماني ساعات، ثلث المدة التي يستغرقها القطار العادي...

2012/12/24

التحوير الوزاري والمحاصصة الحزبية

لم يعد خافيا على أحد أن "تنصيب" و"تعيين" الوزراء لم يعد خاضعا لمبدأ المسؤولية بقدر ما ارتبط بالمحاصصة الحزبية وبتوزيع الحقائب حسب الولاءات، والتعامل مع هذه المسؤولية بمنطق الغنيمة، كما أن عملية التحوير الوزاري باتت تشبه البالونة الفارغة ما أن تحدث أزمة في البلاد إلا وتطفو من جديد معلومات تفيد بأن تحويرا وزاريا مرتقبا سيتم الإعلان عنه وهو ما يحدث هذه الأيام... ولئن طالبت عديد الأحزاب والشخصيات السياسية ومنظمات من المجتمع المدني بضرورة تقليص العدد الكبير للوزراء والمستشارين، إلا أن دعواتهم ذهبت أدراج الريح، غير أن الخطاب الأخير للرئيس المؤقت عقب أحداث سليانة الأليمة، الذي دعا فيه إلى تقليص عدد الوزراء أثار جملة من الردود التي انسجمت تقريبا كلها حول ضرورة تقليص العدد واختيار الكفاءات وتحييد وزارات السيادة، وظلت حركة النهضة بمفردها "مستنفرة" من خطاب رئيس الجمهورية، هذا فضلا عن أن رئيس الحركة لا يتوانى في كل مرة على التصريح لوسائل الإعلام بموعد "افتراضي" لتحوير وزاري مرتقب... ولكن قبل هذا التحوير الوزاري الذي لم يحصل بعد، انتظر جزء كبير من الشعب في أكثر من مرة أن يُعلن وزير ما عن استقالته مثلما يحدث في الأنظمة الديمقراطية، أو تتم إقالة وزير ما "تخاذل" في أداء واجبه الوزاري مثلما تقتضي ذلك أيضا الشروط الدنيا للديمقراطية، غير أن مثل هذه القرارات لم تكن واردة بالمرة في التوجه العام لهذه الحكومة رغم أن ما حصل مثلا في سليانة كان يستوجب فعلا إقالة أكثر من وزير، هذا فضلا عما يحدث من ارتباك وتعثر واضحين في سياق الانتقال الديمقراطي وفي منظومة العدالة، وتراجع واضح في مستوى الديبلوماسية التونسية، وضبابية التوجه الاجتماعي والاقتصادي وجمود الحركة الثقافية... وهي كلها سياقات مرتبطة بالأداء الوزاري... إن عملية التحوير الوزاري تفترض قاعدة أساسية ترتبط أساسا بكيفية الأداء الوزاري لا بمن يمسك حقيبة الوزارة، لكن يبدو أن هذه القاعدة معطلة اليوم باعتبار أن ما يتوارد علينا من أخبار وتسريبات تدور كلها في فلك الأسماء والانتماءات الحزبية، وضمن سياق تقسيم الأدوار وفقا لقاعدة "الأغلبية" النيابية داخل الترويكا، ليتم اختزال "البديل" السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الأسماء والأشخاص والأحزاب... بديلا لا نرى مؤشرا واحدا لنقطة نهايته. إن الحوكمة الرشيدة تقتضي وجوبا قلب القاعدة العمودية للتسيير والإدارة، لأنها تنبني أساسا على قاعدة المشاركة في اخذ القرار وتفعيله وفي رسم الخطط الكبرى والتوجهات العامة، كما أن هذه الحوكمة المنشودة اليوم في تونس تقتضي وجوبا أن يكون الأداء الوزاري "ثوريا" بأتم معنى الكلمة حتى ينسجم مع الشعار الذي وحد كل التونسيات والتونسيين: "شغل، حرية، كرامة وطنية".

2012/12/10

ديمقراطية الهراوات تدفعنا الى الاضراب العام

في الوقت الذي انتظرنا فيه أن يحمل الناس باقات الزهور لرجل ضحى بدمه من أجل تونس اسمه فرحات حشاد، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه احتفالا رسميا وشعبيا بذكرى استشهاد زعيم وطني ونقابي أهدى لتونس وللوطن العربي عموما أول منظمة نقابية ساهمت في دحر المستعمر عن ارض تونس، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه أن تقدم وسائل الإعلام برامج تعرف بمسيرة وتاريخ هذا العلم التونسي... لم يجد النقابيون والنقابيات سوى الهراوات والعصي والجحود والنكران من ناس احترفوا العنف لغة وفعلا... وشهدت بطحاء محمد علي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر فصلا جديدا من فصول الديكتاتورية الناشئة... والالتفاف على الثورة... حشاد مفخرة تونس... والعالم إن الذين تسلحوا بالهراوات والعصي والآلات الحادة واقتحموا بطحاء محمد علي للتهجم على الاتحاد العام التونسي للشغل في يوم احتفاله بذكرى اغتيال فرحات حشاد يمكن تصنيفهم إلى صنفين، الأول يُعادي العمل النقابي تماما لأنه في نظره بدعة وحرام ومرجعهم في ذلك الأنظمة الديكتاتورية الخليجية، والجزء الثاني هم المُغرر بهم، أولائك البسطاء من الشباب الذين تحولوا إلى أداة ووسيلة لا تتقن سوى ممارسة العنف في كل مناسبة وطنية ولعل أحداث 9 أفريل الأخيرة خير دليل على هذا المسار الغريب عن شعب توحد ضد النظام السابق، غير أن المصالح الحزبية الضيقة ضربت هذه الوحدة باسم الدين ثم اختلقت "هيكلا" لتشريع العنف اسمه "رابطات حماية الثورة" وراهنت فيه على منطق القوة والفتوة من المصابين بتصحر ثقافي وفكري لتدفعهم في وجه النقابيين والحقوقيين والمدنيين العزل الا من مطالبتهم بالعدالة الاجتماعية... ولأن الوجوه التي شاهدناها تتهجم على بطحاء محمد علي لا تعرف من هو فرحات حشاد فإننا نذكرهم بأن هذا الرجل مثل شوكة حقيقية في حلق المستعمر الفرنسي الذي بدأ بالتفكير في عدة خطط لإزاحته من الطريق منها وضعه في السجن أو تحديد إقامته في منزله أو حتى قتله، وقد أنشأت فرنسا آنذاك منظمة كاملة مهمتها الوحيدة اغتيال فرحات حشاد فكانت المنشورات الموقعة من منظمة اليد الحمراء التي كانت تعمل إلى جانب المستعمر الفرنسي مع المخابرات الألمانية إلى جانب عمليات التخريب والتهديد ضد منزل فرحات حشاد وأسرته والأصوات المطالبة برأسه مدخلا ممنهجا لاغتياله صبيحة اليوم الخامس من ديسمبر 1952 وعندما أعلن نبأ اغتياله في الإذاعات اجتاحت المظاهرات مدن العالم من كازابلانكا إلى القاهرة ودمشق وبيروت وكراتشي وجاكارتا مرورا بميلانو وبروكسال وستوكهولم... وغيرها من العواصم الأوروبية. انتفض العالم بأسره من أجل دم فرحات حشاد الذي كرس حياته إلى جانب أحرار تونس لرفع ظلم المستعمر عن الشعب التونسي وبناء دولة مستقلة ديمقراطية نبراسها العدالة الاجتماعية، وظلت كل المنظمات النقابية تحتفل بذكرى فرحات حشاد وتفتخر بتاريخه المجيد، إلى أن عشنا احتفالات الستينية بطعم مر سيظل وصمة عار في تاريخ تونس ما بعد الثورة... الثورة التي أجج سعيرها الاتحاد العام التونسي للشغل... الاتحاد: تونس قبل السلطة ما يحصل اليوم من طرف حركة النهضة تحديدا، يعيدنا بالذاكرة إلى الأيام الأولى للاستقلال لنتبين مدى ترفع الاتحاد العام التونسي للشغل عن "الاستئثار" بالسلطة يوم كانت بيده، فالتاريخ يذكر أن مؤشرات الخلاف بين الحركة النقابية والحبيب بورقيبة بدأت شرارتها بعيد إبرام اتفاقيات الاستقلال الداخلي، فبعد الزج بالزعيم النقابي فالحبيب عاشور في السجون والمنافي إلا أن القيادة النقابية آنذاك كانت مؤهلة لإدارة دواليب الحكم والاضطلاع بالدور الرئيسي في قيادة معركة الشعب التونسي للقضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق النهضة والتقدم خاصة أن التناقض الرئيسي في ظل معطيات تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة هو التناقض بين الطبقة العاملة وسائر الفئات الشعبية من جهة، وبين الطبقة الإقطاعية والبورجوازية التقليدية من جهة أخرى، غير أن الحزب الدستوري آنذاك سعى بكل جهده إلى التحريض على الاتحاد وتشويهه واتهامه بالتحريض على التطاحن الطبقي وبالعمل على تفريق وحدة الأمة، فما كان من القيادات النقابية إلا أن تقوم بتعديل خطابها وإعلاء المصالح المشتركة في عهد الاستقلال لكنها أبدت تشككها في إمكانية ذلك وأكدت على ضرورة أن تتحول الوحدة القومية إلى وحدة شعبية أما بعد "انقلاب" 7 نوفمبر 1987 فالتاريخ يذكر جيدا كيف رفض الطيب البكوش الأمين العام آنذاك للاتحاد، رفض الانخراط في الحلّ المقترح من السلطة الجديدة لأزمة الإتحاد العام التونسي للشغل (المكتب الشرعي والمكتب الانقلابي الذي عرف بتسمية الشرفاء في أواخر حكومة مزالي)، ومع ذلك حاول بن علي أكثر من مرة مغازلة الطيب البكوش واحتوائه وإغرائه بمنصب وزاري فلم يتزحزح عن موقفه، ويذكر التاريخ أيضا أنه بمناسبة الاستفتاء على الدستور في 26 ماي 2002 صرّح الطيب البكّوش بأن "على رئيس الدولة ألا يتجاوز العشر سنوات في الحكم" وهو ذات الموقف الذي نادى به في إتحاد الشغل منذ ثلاثين عاما، لتنطلق المضايقات والملاحقات للنقابيات والنقابيين، وحتى التزكية التي يتشدق بها اليوم عديد "الوجوه السياسية" من حزب حركة النهضة تحديدا، فالكل يعلم أن أغلب أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة في شهر جويلية سنة 2009 رفضت ترشيح بن علي لرئاسية رابعة وكانت بطحاء محمد علي تعج بالقواعد والقيادات النقابية الرافضة لتزكية بن علي... النهضة: الحزب قبل تونس... بعد الثورة، تجند أعداء العمل النقابي منذ مؤتمر طبرقة للاتحاد العام التونسي للشغل، حيث سعت حركة النهضة جاهدة لا للتموقع داخل المكتب التنفيذي بل ذهب بها الطموح إلى حد الاستحواذ على كامل المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل، وبعد أن فشلت في ذلك فشلا تاريخيا انتهجت طريق السابقين، فتتالت حملات التشويه لقيادات نقابية وتم تعنيف أكثر من نقابية ونقابي وتم إلقاء الفضلات أمام المقر المركزي للاتحاد وسعت بعض الأطراف إلى حرق المقرات الجهوية والمحلية لاتحادات الشغل، إلى أن أبانت حركة النهضة عن عدائها للاتحاد بعد أن رفضت المشاركة في مبادرة الحوار الوطني من أجل التوافق الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل بغاية تحقيق أهداف الثورة واستحقاقاتها، وانسجمت مواقف قياديي حركة النهضة حول حصر دور الاتحاد في مربع المطالب المهنية، بل بلغ الأمر إلى أن دعت الحركات السلفية إلى إنشاء نقابات إسلامية... إن الهجوم المدروس على الاتحاد العام التونسي للشغل من طرف حزب حركة النهضة، والى جانب طابعها الديني، فأنه يندرج ضمن سياق خدمة البورجوازية والرأسمال اللاوطني وخدمة الشركات الأجنبية والقوى الاستعمارية الامبريالية التي تسعى لسرقة خيرات بلادنا والتي تقدم لهم النهضة كل التسهيلات وتبيع لها أرض تونس وسمائها... كما أن حركة النهضة، التي تستأثر بحكومة الترويكا، ساهمت بشكل كبير في احتقان الشعب التونسي بسبب تراخيها في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بالأساس، هذا فضلا عن ازدواجية خطابها وممارستها تجاه التجمعيين، إلى جانب الالتفاف على عدة وزارات لعل أهمها وزارة العدل، وكذلك تعثر مسار العدالة الانتقالية وتحديدا قضية شهداء وجرحى الثورة، وتلاعبها بالهيئة المستقلة للانتخابات والهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام... هذا فضلا عن التحامل المجاني على منظمات المجتمع المدني وتحديدا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات... وطبعا محاولاتها الدؤوبة لتدجين وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة... ولم يعد خافيا أن هذه المعطيات باتت بمثابة الحقائق خاصة بعد أن بدأ حزبا المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل العمل والحريات في التعبير عن قلقهما إزاء سياسة الهيمنة داخل الترويكا من قبل حركة النهضة، وهو ما تجلى بشكل واضح بعد الخطاب الاخير لمنصف المرزوقي الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية... النهضة وديمقراطية الهراوات... لم تتنصل حركة النهضة من إطارها الحقيقي والتاريخي الذي انطلقت منه عندما كان اسمها "حركة الاتجاه الإسلامي"، وبدأ الوجه الحقيقي لهذا الحزب ينكشف بشكل تدريجي، فانطلقت الحركة في ضرب الأسس المدنية والجمهورية للدولة التونسية ومحاولة تنميط وقولبة الشعب التونسي، ضاربة عرض الحائط الخصوصيات الثقافية والفكرية والحضارية المتعددة والمتنوعة لتونس، ولم يسلم من هذا المخطط لا الفنانون ولا المبدعون ولا الطلبة ولا الحقوقيون ولا النقابيون ولا الإعلاميون، وجندت حركة النهضة كل ما في وسعها لترسم شرخا عميقا بين المواطنين باسم الدين، بتصنيفها البدائي بين العلمانيين والإسلاميين، ولئن بدأت هذا التقسيم قبل انتخابات 23 أكتوبر في شكل أقاويل وخطب في المساجد وفي المنابر الإعلامية وحملات على المواقع الاجتماعية ـ بلغ مداها بتلك الصفحات التي تحرض على صنع "المولوتوف"ـ فإن الأمر أخذ منعرج العنف والصدام بعد أن اعتلت الحركة سدة الحكم، ولم يعد احترام قانون التعايش المشترك موجودا في عرف قياديي الحركة وأنصارها، بل بات منهج التهديد والتعنيف حد القتل والسحل والدفاع عن ما يسمى "رابطات حماية الثورة" هو المنهج السائد بغاية تأسيس ديكتاتورية جديدة... مواصفات حكومة النهضة... في الأشهر القليلة الماضية غيرت حركة النهضة من خطابها المتعنت، وصرح عدد من قيادييها بأن "السلطة أغرتهم"، وبأن وجودهم في مواقع التسيير والحكم لم يَخلُ من بعض الارتباك والهنات، غير أنهم لم يعتذروا مطلقا، بل عادت سياسة المكابرة والمعاندة خاصة بعد أحداث سليانة، حيث قرن رئيس الحكومة إقالة الوالي باستقالته هو، كما تجند كل قياديي النهضة وقواعدها لاتهام الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة وكل من شكري بالعيد وحمة الهمامي عن الجبهة الشعبية وكذلك حركة نداء تونس بالوقوف خلف أحداث سليانة المأساوية، وبلغ التعنت بحركة النهضة أن صرح نجيب الغربي المسؤول عن الإعلام بالحركة من أن النقابيين اعتدوا على أنفسهم في بطحاء محمد علي يوم الثلاثاء الفارط في الوقت الذي أكد فيه الصحبي عتيق رئيس كتلة النهضة في المجلس التأسيسي أن العديد من القيادات المحلية والجهوية لحركة النهضة قد تنقلوا "للاحتفال بذكرى فرحات حشاد"... وفي نفس التوجه لم يخجل وزير الفلاحة محمد بن سالم من محاولة استبلاه التونسيين وتأليبهم على الاتحاد العام التونسي للشغل عندما قال في احد المنابر التلفزية أن الزيادات في الأجور هي التي ساهمت في تعطيل مشاريع التشغيل... هكذا إذا "تفوز" حركة النهضة بأهم مواصفات الحكومات الفاشلة تلك التي تعتمد في إدارة الشأن العام على افتعال واختلاق الأزمات وإلقاء التهم الجزاف على غير المسؤولين... واعتماد سياسة الهروب إلى الأمام... غير أن هذه السياسة تعجل بنهاية سياسة حركة النهضة، فشماعة "السلفيين" تم استعمالها وانكشفت، وهاهي شماعة رابطات حماية الثورة تُسقط ورقة التوت عن الحركة في انتظار أن تكون الشماعة الثالثة والأخيرة حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات، لتجد حركة النهضة نفسها في مواجهة مصيرها وهو المواجهة المسلحة مع الشعب التونسي الأعزل لفرض الديكتاتورية من جديد...

2012/11/29

مَا لَم يَقُلهُ شيبُوب في حوَاره مَعَ المَحبُوب

في حوار إنشائي، بقدر ما خلا من المعلومات الدقيقة بقدر ما توفر على كل مكونات العمل المسرحي، لعل أهمها ديكور الاختفاء والتخفي بتلك الستائر التي تغطي المكان، تماما مثلما غطى المُحَاوَرُ كل الحقائق، "رتب" أول الفارين من النظام السابق، سليم شيبوب، حوارا تلفزيا، كان اقرب إلى جلسة "عتاب ومصالحة" بين صديقين لم يلتقيا منذ مدة... الأول أبدى فائضا كبيرا من التكلف والتصنع والثاني أرخى له جناح اللغة ليتفادى الحُفر والمزالق... ويسير في طريق معبدة نحو براءته المشتهاة... حوار استنفرت له أجهزة "الدولة" قبل أن تشرأب نحوه أعناق "الشعب" منذ أن تم الإعلان عن موعد بثه، فبعد القرار القضائي المانع لبث حلقة الحوار وما رافقها من جدل انتظرنا "وليمة إخبارية" عن أطوار العائلة الغريبة وعن جزء من تاريخ الاستبداد في فترة الحكم النوفمبري... وانتظرنا أن يعتذر صهر بن علي من عائلات الشهداء ومن الشعب التونسي... فلم نظفر سوى بتداعيات موهومة لشخصية صدقت أنها ضحية ولم تكن رأسا من رؤوس الفساد... ولم نظفر سوى بمحاولات بائسة لشراء الذمم من خلال الإيهام بإرجاع الأموال إلى الشعب... لكأن شيبوب لم يفهم شعار "شغل حرية كرامة وطنية" الذي رفعه المفقرون والمهمشون والمعطلون عن العمل، وتلبست به فكرة "الرجولية" فلم يجد في "الفرار" خير شكل للتعبير عن مدى "رجوليته"! وكأن الأموال التي نهبها من جيوبنا ومن عرقنا باتت "منة" سيمنحنا إياها شيبوب وليست حقا استشهد من اجله عشرات التونسيات والتونسيين! (يا للوقاحة) سليم شيبوب الذي أوردت بعض الصحف رسالته الخطية لبن علي يوم 12 جانفي 2010 تلك التي يكتب فيها " أصبح من المؤكد اليوم أن المؤامرة من أجل التغيير توضحت بعد التصريح الأخير لحمّة الهمامي على قناة فرانس 24 وأصبح من المحتم اليوم أن نستخدم هذا التصريح ضدّه وضد هذه المؤامرة الخفية التي تستهدف نظامنا. بالإضافة إلى ضرورة عكس الهجوم عبر حملة إعلامية على قنواتنا المحلية والقنوات الفضائية من خلال شخصيات ذات مصداقية من المجتمع المدني، حملة اعتقد أنها مهمة جدا ويجب أن تنال موافقتكم، كما اقترح أن يقوم القذافي بتصريح في هذا الاتجاه وشجب تصريحات ( الفوضوي) حمّة الهمامي التي تهدد استقرار المنطقة بأسرها، عبر عمليات نهب لممتلكات المواطنين وترويعهم من خلال استغلال قلة وعي الشباب...". هذه الرسالة، التي لم يتم تكذيبها في إبانها، وهو ما يمنحها الهامش الأكبر من المصداقية، كافية لمعرفة حقيقة الرجل و"وطنيته" المزعومة، فالحملة الإعلامية التي اقترحها على صهره آنذاك قامت بها نفس الشركة التي قامت بالحوار اليوم مع شيبوب، ونعني بها شركة "كاكتوس" من خلال الحوار الذي نشطه سامي الفهري ومعز بن غربية ليلة 13 جانفي 2010 خير دليل على ذلك، أما القذافي فلا أخال تونسيا واحدا ينسى كيف قال في حوار تلفزي تحت خيمته لقناة "نسمة" مع سفيان بن حميدة "انه لو كان تونسيا لانتخب بن علي مدى الحياة" وقد سبق أن صرحت زوجة شيبوب بتطور علاقة زوجها بالقذافي وأكدت سفره إلى ليبيا بعد الخطاب الثاني لوالدها، ثم لا ننسى التدخلات "العبقرية" في القنوات التلفزية الأجنبية لكل من برهان بسيس وبوبكر الصغير وسمير العبيدي والبشير التكاري... دفاعا عن "نظامنا" كما ذكر سليم شيبوب في الرسالة التي لم يسأله عنها معز بن غربية في حواره الأخير معه... أما عمليات النهب والسرقة لقصور العائلة المالكة، فمقاطع الفيديو المنشورة على المواقع الالكترونية كافية للتأكد من "خطة" سليم، ونداءات الاستغاثة الوهمية على إحدى القنوات التلفزية خير دليل على ما جاء في رسالة شيبوب، في حين يعلم التونسيون أن الشابات والشبان الذين ينتمون إلى حزب العمال الشيوعي آنذاك (باعتبار أن زعيمه حمة الهمامي مذكور في الرسالة) والى كل القوى الحية فقد كانوا في الصفوف الأمامية للمظاهرات والمسيرات وكانوا محركها الأساسي في أغلب جهات الوطن... إن ما يحز في النفس حقيقة ليس الحوار في حد ذاته، بل الحكومة المؤقتة الحالية والقضاء التونسي الذي لا يفعل سوى فتح التحقيق تلو التحقيق دون البت النهائي في القضايا، وها هو يُسقط قرارا تنفيذيا من خلال مشروع أمر يحمل اسم "مجلة الأخلاقيات القضائية"، فلولا تخاذل وصمت الحكومة والقضاء لما تجرأ سليم شيبوب على إخراج هذه المسرحية المهزلة، وربما كان من الأجدى بالصحافي الذي أجرى الحوار أن يعود مثلا إلى الخطوط التونسية للطيران والى شركة تونس للاتصالات والشركة الوطنية للكهرباء والغاز والشركة الوطنية للملاحة والى الشركة التونسية لصناعة الحليب والى وزارة أملاك الدولة ووزارة التجهيز للتأكد من حقيقة العمولات التي أخذها شيبوب بعد توسطه في صفقات مالية خيالية لعل أهمها صفقة بناء المدينة الأولمبية برادس... كان من الأجدى مثلا بمعز بن غربية أن يعود إلى إحدى الحوارات التي أُجريت مع طارق ذياب، قبل أن يصير وزيرا، (19 جانفي 2011) تلك التي يقول فيها حرفيا عن سليم شيبوب:" هو الذي يسيطر على كل شيء و أفسد الرياضة في تونس وساعده بعض العملاء وتواطأ معه عدد من رجال الأمن ورؤساء الجامعات والترجي الرياضي التونسي والوزراء، لقد كان المفسد الأول للرياضة ووراء العنف في الملاعب طوال 17 سنة ..." (فخار يكسر بعضو)... معز بن غربية، الذي يعيش في تونس، ويعرف آخر تطوراتها وأحداثها، كان بإمكانه أن يسأل محاوره عن دور رجل الأعمال كمال اللطيف أو شفيق جراية في النظام السابق، خاصة أنهما يمثلان لغزا محيرا للشارع التونسي في المدة الأخيرة، غير أن الصحافي اكتفى بإجابة شيبوب عن رجل الأعمال المُتُوًفى حديثا عزيز ميلاد، وهي إجابة مدحية لم تضف جديدا في عالم المال والفساد... أما إذا عدنا إلى نسخة جواز سفر شيبوب التي تم نشرها "فجأة"، بعد حواره، فسنتأكد أن هذه الوثيقة سارية المفعول وتُمكن صاحبها من العودة إلى تونس، وبغض النظر عن مهنته المنصوص عليها بجواز سفره (صهر رئيس الجمهورية) فان السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم تنشر الجهة التي نشرت هذه الوثيقة منذ مدة، وهي وثيقة من جملة آلاف الوثائق التي يتم نشرها في إبانها وكلما اقتضت "المصلحة" ذلك... ولعل خير مثال على ذلك أيضا ما صرح به مؤخرا مدير ديوان رئيس الجمهورية المؤقت حول العثور على ملفات فساد داخل رئاسة الجمهورية! هكذا بعد سنتين كاملتين! ومن المضحكات المبكيات في إطار العدالة الانتقالية الموهومة، أن يتحدث سفير تونس بالإمارات، السيد طارق بالطيب، عن اتصال سليم شيبوب بالسفارة التونسية بغية تعريف بالإمضاء على وثيقة من المصالح القنصلية بأبو ظبي، والتلفظ بالكلام البذيء تجاه احد العاملين بالسفارة! وكأن هذا السيد غير مطلوب للقضاء التونسي، وكأن السفارة غير معنية بإلقاء القبض على هارب من العدالة التونسية ومتهم في أكثر من قضية... بل إن السفير يتحدث عن تجاهل معز بن غربية لطلبه بالتدخل المباشر في ذات الحصة لتوضيح وجهة نظر "الدولة" في خصوص إمكانية إعادة سليم شيبوب إلى الأراضي التونسي خاصة أن وزارة الخارجية قامت بالتنسيق مع قناة "التونسية" في الغرض!!! وبالمقابل مثلا لم نسمع أو نطالع تكذيبا أو تصحيحا من سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية لما أورده شيبوب في الحوار حول مراسلته للوزير! إن هذا الحوار التلفزي، الذي يشبه "جلسة عتاب حميمية" بقدر ما كشف عن عديد المحاولات "الجادة" من بقايا النظام السابق للتموقع من جديد والظهور في مظهر الضحية، فقد مثل إفرازا مرضيا وكشف بشكل ساطع مدى تخاذل وتساهل "الحكومة الشرعية" في مسار العدالة الانتقالية وتباطؤها، إن لم نقل خوفها، من اتخاذ الإجراءات الحازمة واللازمة لجلب المتهمين وإعادة ما نهبوه من الشعب، حتى نطوي هذه الصفحة السوداء التي طالت أكثر من اللزوم... بل إن مثل هذه الحوارات التلفزية هي نتيجة حتمية لفشل الحكومة الحالية في إدارة ملفات الفساد والفاسدين، ومنحهم الفرصة للعودة من جديد ولعل ظهور برهان بسيس في قناة "حنبعل" وفي "التونسية" وبعده ظهور عبير موسى محامية التجمع سابقا في إحدى القنوات بمظهر "الحقوقية" مثل بداية مسار النكوص والالتفاف على أهم مطالب الثورة... وهاهي ليلى المكي، المتمعشة من نظام بن علي حد التخمة، تمدح منذ أيام قليلة سيدها وسيدتها في برنامج حواري بالإذاعة الوطنية على المباشر! إن ظهور شيبوب في حوار تلفزي إلا تأكيد على أن مشروع إقصاء التجمعيين الذي اقترحته حركة النهضة ما هو إلا صياغة بالقوة لا بالفعل، لمشروع حزبي انتخابي بالأساس، ولا علاقة له بهدف "تحصين الثورة"، بل هو تحصين لحظوظ الفوز في الانتخابات... والاستئثار بدواليب الحكم والتسيير بأدوات قديمة ومهترئة...

2012/11/22

قناة "الزيتونة" في قلب الحدث!

رغم أن قناة "الزيتونة" التلفزينوية التي مازلنا نجهل "باعثها" الأصلي، أهو أسامة بن سالم ابن وزير التعليم العالي المنصف بن سالم، أم لطفي زيتون المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة المؤقتة، رغم أنها مازلت في مرحلة البث التجريبي، إلا أن آفاق انتشارها الإعلامي باتت تتعزز يوما بعد يوم، ولكن بطرق تثير أكثر من نقطة استفهام واستغراب، فرغم أن مادتها الإعلامية من أخبار وحوارات وتغطيات وبرامج دينية وترفيهية واقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية وبرامج أطفال ... لم تحقق بعد تميزا نوعيا وإضافة مختلفة قد يجعل من هذه القناة محط أنظار المشاهدين، باعتبار مادتها لم تخرج عن سياق الفضائيات الدينية التي تنطلق في البداية "محافظة" لتنتهي إلى "التحريض" من خلال الفتاوي... قناة "الزيتونة" وما "التبس" بها من بعض "الحركات" يثير حولها أكثر من "شبهة" حول طريقة تموقعها في المشهد الإعلامي التونسي بالأساس، ومحاولة افتكاك أكبر عدد من المشاهدين، فالكل يتذكر جيدا كيف أثارت هذه القناة ضجة بعد أن "انفردت" أو (تم إفرادها) بحوار حصري مع البغدادي المحمودي في سجنه، ومن بين التعاليق التي أطلقت آنذاك على هذا "السكوب" التلفزي أن "تحقيق مثل هذا السكوب في أرض وعرة مثل ليبيا، وهو ما عجزت عنه أقوى المحطات الفضائية الإخبارية، يؤكد منطق التنسيق والأجندة السياسية الكامنة وراء هذا الحوار عبر اختيار قناة الزيتونة لتكذيب من يروج لوفاة المحمودي وتعذيبه ." كما أن هذه المقابلة وصفها السيد كمال العبيدي رئيس الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال بأنها شبيهة بالاستنطاق البوليسي وتفتقد لأدنى شروط الحرفية والمهنية الصحفية. وفي "حركة" ثانية أصدر عدد من المشائخ المنتمين إلى التيار السلفي بيانا إلى الرأي العام وإلى أنصارهم في التيار السلفي اثر ما عُرف بأحداث دوار هيشر، ومما جاء في هذا البيان "...ولا يفوتنا أن نشكر الصّحفيّين الصّالحين الذين يقدّمون المعلومة الصّحيحة والدّقيقة، وهم بحقّ شرّفوا الإعلام النّزيه الصّادق ونخصّ بالذّكر منهم قناة الزّيتونة"، وهذه الجملة سبقتها ترسانة من التهم لباقي وسائل الإعلام الوطنية ومنها تحديدا التلفزة الوطنية الأولى، من قبيل " الإعلام الكاذب والفاحش والفاجر الموجه والفاسد المحرض على الفتنة..." أما آخر "الحركات" التي أتتها قناة "الزيتونة" فتعلقت بزيارة الوفد الرسمي إلى قطاع غزة بعد العدوان عليها، حيث ظهر أسامة بن سالم وراء وزير الخارجية المؤقت إبان اجتماع وزراء الخارجية في جلستهم الطارئة لجامعة الدول العربية، وقد أثار هذا الظهور الاعتباطي ضجة كبيرة حول "هيبة" الديبلوماسية التونسية، ولئن "اعتذر" أسامة بن سالم عن ظهوره بتلك الطريقة وأبدى استعداده للمساءلة فان شيئا لم يحدث... بل إن في تصريحه تناقض صارخ لما أعلنه في السابق باعتبار انه لن يكون إعلاميا بقدر ما سيكون مسؤولا فقط عن إدارة مؤسسة إعلامية، حيث قال في "تبريره" لطريقة ظهوره في غزة أن تواجده هناك باعتباره إعلاميا يسعى إلى سبق صحفي! بعد هذه الحركات الثلاثة، يبدو أن كل الأقنعة ستسقط عن قناة الزيتونة لتجعل أي متابع بسيط يكتشف طبيعة مهمة هذه القناة التي نجدها دائما في قلب الحدث بفضل الحكومة المؤقتة، وتضرب في نفس الوقت كل إمكانات قيام إعلام وطني محايد ومستقل بذات الأدواتـ فمن يدعم قناة الزيتونة لتكون بوق دعاية له هو ذاته الذي يسعى للسيطرة على القنوات الوطنية ليعيدها إلى السراط المستقيم وهو نفسه الذي يلعب لعبة القط والفأر مع القنوات الخاصة مرة بالترهيب ومرة بالتركيع... وللأسف بعض القنوات انساقت في هذه اللعبة... لعبة التبعية...

2012/11/15

متى ستعلنون ممتلكاتكم؟

في إحدى خطب المنصف المرزوقي قال "إن العمل على استرجاع ما نهبته أنظمة الاستبداد من خيرات وأموال طوال عقود يمثل تحديا بالغ الأهمية بالنسبة إلى الأنظمة الديمقراطية التي ترث حالة الخراب التي تتركها أنظمة الاستبداد"... وفي ذات الخطاب قال أيضا "... هذه الكارثة الأخلاقية هي التي نريد تصحيحها كي تكون الرسالة أن الفاسدين لن ينعموا لا هم ولا ورثتهم بسرقاتهم وأن القول الفصل في الأخير سيبقى للقانون الذي خرقوه وللقيم التي خانوها". ومنذ أكثر من سنة ونصف أعلنت اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة أن اللجنة تلقت أكثر من 4239 قضية فساد ورشوة تعلقت خصوصا بالرئيس السابق وزوجته وبعائلتيهما وبالمسؤولين المقربين منهما وبأصدقائهما بصورة عامة، هذا فضلا عن ملفات الفساد التي تطالعنا بها بعض الصحف والمجلات، المعززة بالوثائق والمستندات... الثابت أننا بصدد تفكيك منظومة متكاملة للفساد والرشوة أخلت بسير مؤسسات الدولة لسنوات ونخرت جوانب مهمة من المجتمع التونسي وهذه العملية تتطلب حدا أدنى من القيم والمبادئ منها بالأساس الشفافية والمشاركة والمسؤولية، وهي عملية تستهدف بالأساس النظام السابق والمنظومة السابقة، وهي من أهم مطالب "الثورة" التي قام بها المهمشون والمفقرون والمعطلون عن العمل، ولكن، يبدو أن "حرفة" الفساد والإفساد لم تعد تقتصر على السابقين من النظام السابق، فالأخبار المتتالية منذ سنتين تقيم الدليل على أن الفساد يأخذ شكله الجديد مع "نظام" ما بعد الثورة، ومع "المنتخبين" من الشعب لحماية ممتلكاته وإرجاع ما نُهب منه... وهذا الفساد والنهب "الثوري" لا يختلف كثيرا عن الفساد والنهب المافيوزي للسابقين، فــ"إمبراطورية" بن علي والطرابلسية والماطري ومن لف لفهم بدأت بالإشاعات في البداية ثم صارت حكاياتهم يتجاذبها الناس خلسة بعيدا عن عيون وآذان الرقيب، وكانت لبعض الصحف الجرأة على فتح بعض من ملفات السرقة والنهب... إلى أن اكتشف الشعب التونسي حجم ما نُهب منه يوم سقط الدكتاتور وبدأت تتهاوى معه الجوقة المحيطة به، ويبدو أن نفس السيناريو يُعاد من جديد، إذ أن تقارير وتحقيقات وأخبار الفساد الجديد والمفسدين الجدد لا تخلو منها صحيفة، يومية أو أسبوعية، إلى جانب إيراد معلومات دقيقة عن الممتلكات الجديدة لهذا الوزير أو ذاك، أو لرئيس هذا الحزب أو ذاك، هذا فضلا عن الصفقات العمومية التي يتم إبرامها باسم الشعب في حين أن العمولات الضخمة تعود إلى جيوب من ابرم تلك الصفقات وهي كثيرة... بل هي أكثر من فقر وألم هذا الشعب الذي نُهب سابقا ويُنهب اليوم ... وفي المقابل لا نسمع بتكذيب لهذا الخبر أو لتلك المعلومة، بل صرنا لا نسمع إلا بإطلاق سراح وزراء العهد الفاسد وترقية مسؤولي ومديري العهد الفاسد، وتشجيع رجال الأعمال في العهد الفاسد... وهو ما يجعل باب التصديق مفتوحا على مصراعيه، في انتظار أن تُحكم وزارة الداخلية أمرها وتُرتب بيتها من الداخل لتُطلق عصاها من جديد فيعود الشعب المسكين إلى الحديث عن العصابة الجديدة خلسة بعيدا عن عيون الرقيب...

2012/11/13

معرض قندهار للكتاب بالكرم

غربتنا "مكتسبات الحداثة"، ونأت بنا "الثورة التكنولوجية" عن كنه الحياة وسرها، فأدمنت أصابعنا الأزرار الباردة، وتعلقت أبصارنا بالشاشات المسطحة، وصرنا رهائن العلب الالكترونية نعاشرها آناء الليل وأطراف النهار... حتى صارت تفاصيلنا اليومية مضغوطة كالأقراص الليزرية، مهددة بالعدم والإتلاف بمجرد خدش بسيط... أو قل هي هويتنا وكينونتنا الإنسانية تلك التي باتت منذ زمن بعيد منذورة كل لحظة لأن تٌنخر بفيروسات الحداثة وما بعدها والصناعة وما بعدها والتكنولوجيا وما بعدها... انغمسنا كل في اللهث والركض الأرعن خلف آخر انتاجات التقنية، فزدنا على عبوديتنا عبودية جديدة للهواتف المحمولة، ولاقمات الأقراص (VCD/DVD/DVX/MP3/MP4/MP5) والهوائيات الرقمية والحواسيب الشعبية... وكل ما يٌشغل بآلة تحكم عن بعد... حتى صارت البيوت التونسية لا تختلف كثيرا عن المغازات الصغرى، تتوفر على كل "الأواني" والعلب الحديدية والبلاستيكية، وتفتقد حتى لاضمامة كتب لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة... المكتبة المنزلية، لم تعد من مشاغل التأثيث المنزلي لدى أغلب التونسيين والتونسيات، ولا أعني بالتأثيث، التوظيف الديكوري والتزويقي للمكتبة للتباهي بها، وإنما أقصد تأثيث العقل التونسي القادم بتوفير مسوغات العقلانية وتوفير الأرضية المعرفية... فالطفل الذي يكبر بين الكتب والمجلدات والمجلات والصحف، سيكون لا محالة محصنا من تلك الفيروسات الالكترونية، وسيكتسب تلك المناعة الدائمة من أي غزو أو اختراق من شأنه أن يهز كيانه ووجوده... طبعا أنا لست ضد استثمار مكتسبات الحداثة، ولست ضد التمتع بمزاياها المتطورة والناجعة رغم علاتها، ورغم فيروساتها الإيديولوجية بالأساس (أغلب الإحالات أو الإشارات المرسومة على التقنيات الحديثة، إما باللغة الأنقليزية أو باللغة العبرية)، قلت أني لست ضد التوظيف العقلاني والمتزن لمثل هذه الأدوات - بل إنني لا أرى الجنة اليوم إلا بستانا لا متناهيا من الكتب التي أتلفها الطاغوت أو أحرقها اللاهوت أو تلك التي استأثر بسحرها التاريخ لنفسه... وأراها أيضا رفوفا مؤلفة من الأقراص الليزرية المكتنزة بسحر اللغة، وإنما أنا أعلن عدائي الفطري للعبودية التكنولوجية، والتكلس الذهني والتنميط الميكانيكي والسقوط في براثن الحياة الآلية التي تنفي الفكر والفاعلية وتكرس التبلد الذهني والوجود السلبي والشخصية المنفعلة والمفعول بها... إن توفير أو تجهيز مكتبة منزلية لا يساوي الكثير ولا يتطلب قروضا أو صكوكا بنكية ولا ديونا متخلدة بالذمة، كما لا يكلف الزوجين تشنجا أو خصاما عائليا مثلما يحدث عادة بسبب اقتناء آلة الالكترونية. المكتبة المنزلية، تنمو كما ينمو العشب ليباغتنا ببرعم ذات صباح سيبني عليه الطير أيكه. إنها ممكنة ومستحيلة. ممكنة لأنها لا تكلف المواطن التونسي الكثير من الأموال، ومستحيلة لأنها ذهنية كاملة، وممارسة يومية تنبني على المراكمة المتواصلة... للمعرفة العقلانية والتنويرية التي باتت اليوم مهددة بشكل علني بعد الغزو الورقي في الدورة الاخير لمعرض تونس الدولي للكتاب حيث انهالت علينا دور النشر بما تعتبرها "كتبا"، تلك التي لا ترسخ الا الثقافة الانهزاميّة الانكسارية وتقدس مبرّرات السقوط والتراجع وفي أحسن الحالات الثبات والجمود، "كتب" مازالت أسيرة للفتنة الكبرى وصفين وكربلاء و ما يزال جزء كبير يناقش عقلانيّة ابن رشد وشكيّة المعري و"إلحاد" التوحيدي وابن الراوندي... "كتب" الفتاوي البائسة والموغلة في الغباء والاستغباء، القادمة تحت العباءات الخليجية وعلى أجنحة الدولار الأمريكي... ليعترضها الشباب بتهافت استعراضي موهوم... شباب يداعب أزرار ذات الحاسوب الذي غربه عن العقل والعقلانية بحثا عن "كتب" الفتاوي الساذجة و"كتب" الأصوات المطلة من خلف زجاج القنوات التلفزية الخليجية لتبث سمومها بعد ان أمنت أرصدتها البنكية...

2012/11/01

امارة دوار هيشر؟!

تعتبر مناطق حي التضامن ودوار هيشر وحي خالد ابن الوليد بمثابة مثلث برمودا، فهذه المناطق الثلاثة من ولاية منوبة غرب العاصمة تعتبر المناطق الأكثر فقرا وتهميشا، ولذلك تكثر فيها الجريمة وتنتظم فيها العصابات الإجرامية، وتعيش هذه المناطق طوقا أمنيا منذ زمن بن علي، حيث لم تتعامل الدولة مع أهالي المناطق الثلاثة كمواطنين لهم الحق في الحياة الكريمة بكل شروطها، بل ظلت محرومة من المرافق الأساسية ومن البنى التحتية التي تجعل من المناطق الأكثر كثافة سكانية في تونس، مناطق آمنة "يحلو" العيش فيها، وكانت بمثابة السجن الكبير، ولذلك لا نستغرب اليوم ما يحدث فيها من عنف منظم ومن عصيان وتمرد على الحكومة الحالية التي تواصل سياسة التهميش واللامبالاة لأكثر من مليون ونصف المليون ساكن بهذه المناطق... إن الصراع المحتدم اليوم بهذه المناطق وخاصة بمنطقة دوار هيشر بين الحركات السلفية من جهة ورجال الأمن وقوات الجيش من جهة ثانية، إنما هو وليد السياسة المتبعة من طرف الحكومة الحالية، فهي من جهة تجاهلت تماما المطالب الأساسية لهذه المناطق والمطالبة أساسا بحقها في التنمية والشغل، وأيضا للتعامل الانتهازي مع الحركات السلفية واعتمادهم كورقة ضغط على كل من خالفهم الرأي وهو ما جعل من هذه الحركات تتحول إلى قوة ضغط حقيقية وتشرع لنفسها ممارسة "قانونها الشرعي" بدلا من القانون المدني لمؤسسات الدولة... وهذا "الدور" الجديد لا يبدو غريبا خاصة أمام الإصرار على تقسيم المجتمع التونسي إلى جزء علماني وجزء كافر، وهو ما يغذي نزعة الانتقام والعزل "للأقوى" وبالتالي تشريع قانون الغاب الذي ينسف كل مقومات العيش المدني الآمن... فما يحدث منذ أيام في دوار هيشر من عمليات كر وفر بين باعة الخمر خلسة من جهة والسلفيين من جهة ثانية لا يدخل إلا في باب "السكوت" على الإجرام، فباعة الخمر خلسة مارقون عن القانون وبالمثل السلفيون مارقون عن القانون، غير أن ما يجعل من كرة النار تكبر لتحرق المواطن العادي الباحث عن أمنه واستقراره هو التعامل الهش للدولة مع الفئتين، فهي تتعامل مع باعة الخمر، كما كان يفعل بن علي، بشكل سري لتقصي الأخبار وجمع المعلومات وبالمثل تدعو إلى التحاور مع السلفيين وتتقاسم معهم الفضاءات الدينية، بل إنها لا تكتفي بهذا الدور وإنما تُمعن في إفقاد الدولة هيبتها عندما تُلقي التهم على الأطراف السياسية المعارضة لها ببث الفتنة ودعم المجموعات الإجرامية لبث الفوضى... وكذلك تحميل وسائل الإعلام تضخيم الأحداث!!! هذه الحكومة بنفس الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام السابق بل وأكثر، تلك التي كانت قادرة ذات يوم على تتبع شخصين التقيا للتخطيط لجريمة حق عام في مقهى شعبي أو حمام عمومي أو مسكن مغلق النوافذ والأبواب، غير قادرة، بنفس تلك الأجهزة اليوم، على التدخل لإيقاف المجموعات التي تتدرب على فنون تقطيع الأصابع وتشويه الوجوه وبث الرعب في النفوس الساكنة... والتي طالت اليوم رجال الأمن ذاتهم!!! وباتت تقوم "بدوريات تمشيط" بحثا عن باعة الخمور و"السافرات" والمفطرين... والمبدعين لتأديبهم حسب الشرع!!! إن المؤسسة الأمنية، ورغم ما تقترفه يوميا في حق المواطن من انتهاك لحرياته وقمع وتنكيل به، فهي تبقى المؤسسة الأولى التي تسهر على حماية المواطن وفرض القانون، وقد بدأت عديد المؤشرات الايجابية "تكتسح" بعض الأمنيين بعد "الثورة"، غير أن التوجه العام لسلطة الإشراف يجعل من وزارة الداخلية مرفقا حزبيا بالأساس (مثلما صرح بذلك الناطق الرسمي باسم النقابة الأساسية لسلك الحرس الوطني) كما أن المجلس الوطني التأسيسي تجاهل الرسالة المفتوحة التي تم توجيهها من طرف الجمعية التونسية من أجل شرطة وطنية التي طالبت فيها بوضع إطار قانوني للمؤسسة الأمنية يساير متطلبات مرحلة ما بعد الثورة وهذا التجاهل والإصرار على تسييس المؤسسة الأمنية (وباقي مؤسسات الدولة) من شأنه أن ينسف إمكانية تأسيس أمن جمهوري محايد... وبالتالي نسف أهم مقوم من مقومات حقوق الانسان والحريات العامة والفردية، وقد يقوض كل إمكانات الاستقرار الدولي خاصة أمام الخطة "الذئبية" للولايات المتحدة الأمريكية لتطويق الجزائر واستحلاب نفطها بتعلة مقاومة الإرهابيين في مالي... بعد زيارة هيلاري كلينتون لعبد العزيز بوتفليقة... وبعد افتضاح سيناريو مقتل السفير الأمريكي ببنغازي... على يد الأمريكان أنفسهم...

2012/10/24

لا اكراه في الاحتفال

وجوه أكل الفقر والبؤس كل محياها... خطوات متعثرة... أياد مرتعشة... وهتافات مكتومة لبضع عشرات من التلاميذ الذين انتشروا هنا وهناك للاحتفال بيوم 23 أكتوبر وسط شارع الحبيب بورقيبة... عشرات التلاميذ تركوا مقاعد الدرس والعلم والمعرفة ليلتحقوا بدعوات الاحتفال بمرور سنة على انتخاب الحكومة المؤقتة التي وعدتهم بأن تكتب دستور البلاد في ظرف سنة وتضمن جميع ممهدات الانتقال الديمقراطي السلمي من هيئات ومؤسسات ستسهر على تحقيق أهداف «الثّورة»... عشرات من الكادحين الذين تشققت أياديهم من العمل لفظتهم الحافلات العمومية ليخرجوا من منافذ شارع الحبيب... جيوبهم مثقوبة وأحلام البعض منهم مكسورة لعجزهم عن اقتناء خروف العيد... وبهم «اختلطت» بعض «الشابات» يرفعن لافتات الولاء وما تيسر من لافتات شتم وثلب من خالفهنّ الرأي... عشرات اخر من نفس الشريحة، شريحة المفقرين والمهمشين الذين سحقتهم سياسة بن علي، استقلوا الحافلات العمومية واتجهوا نحو قبة المجلس الوطني التأسيسي للتعبير عن ولائهم المطلق لحكومة مؤقتة دخلت بفضل أصواتهم إلى قبة المجلس التأسيسي بباردو وقصر قرطاج وقصر الحكومة بالقصبة وتوزع أبناء وبنات الحكومة على رؤوس الإدارات والمؤسسات الوطنية... من مدراء ومستشارين وولاة ومعتمدين... وبالمثل انتشر العشرات في هذه المدينة أو تلك الولاية تعبيرا منهم لولائهم المطلق للحزب قبل الوطن... متجاهلين «الحالة الثورية» التي اكتسحت العقل والقلب التونسي منذ أن سقط جدار الخوف، ضاربين عرض الحائط آلام عائلات شهداء نظام بن علي وشهداء الترويكا المؤقتة... متجاهلين تفاقم البطالة وغلاء المعيشة عشرات وعشرات وعشرات... ركنوا الوطن في زاوية مظلمة، وحولوا انتماءاتهم الحزبية «مقدسا» جديدا ينضاف إلى مقدّسات كنا نجتمع حولها منذ آلاف السنين فاختلفنا إلى حد التناحر والقتل حول ذات «المقدسات»... احتفل العشرات والمئات... والآلاف... بحزب طغى... وبأحزاب زكت الطغيان الجديد... احتفلوا في مأتم جنائزي بداخل كل فرد يستنكف من الاصداح بمرارة ما حلُم به ليلة هروب الطاغية بن علي... غير أن الخنوع المستتر والكامن في الأحشاء الضعيفة لم يعرف طريقه لرفض الطغيان... ولو كان مأتاه... الأب... السلطة... مهما كان مأتاه... احتفلوا وفي أذهانهم أنهم صاروا حكاما جددا سيستولون من جديد على ثروتنا وفكرنا وعقلنا وأحلامنا... وتناسوا أنهم يلوكون ذات الحكاية... حكاية “الشيطنة”... ورواية أنهم “ضحايا”... ولكنهم تناسوا أيضا أن زمن “تضحياتهم” (من اجل مشروعهم الضيق، لا مشروع تونس) كانوا يستجيرون بالاتحاد العام التونسي للشغل وبالمنظمات الوطنية المناضلة كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وبالأحزاب التي صاروا ينعتونها “بالعلمانية”... الاتحاد والرابطة وعشرات الصحافيات والصحافيين النزهاء و”أحزاب الصفر فاصل” هي التي كنست الدكتاتور يوم 14 جانفي ومهدت لهروبه منذ انتفاضة الحوض المنجمي... وهي التي أمنت لكم الطائرات لتعودوا على متنها من هناك... وهي أيضا التي أصرت على المرور السلمي إلى الديمقراطية عبر انتخاب المجلس الوطني التأسيسي... ولم تتجرأ على الاستهزاء بهذا الشعب و”افتكاك” السلطة يوم كانت بيدها... لم يكن “الاحتفال” يوم 23 أكتوبر وطنيا، ولم يكن فرصة للتقييم وطرح ممكنات التجاوز بقدر ما كان محاولة يائسة للاستعراض الفلكلوري غير أن الاستعراض كان باهتا شاحبا في شارع الحبيب بورقيبة... وكان استعراضا صامتا في القصبة... أما تحت قبة المجلس، وأمام الكراسي الخضراء الفارغة فكان الاستعراض الخطابي منسجما مع المثل القائل “الطير يغني وجناحو يرد عليه”... غير أن جناح الحرات والأحرار كان مدويا أمام المجلس... وفي الشوارع الخلفية للمدن التونسية المثخنة بخيبة الأمل من ترسانة الوعود المبددة في المنابر الحزبية والتلفزية... إننا نعيش الاحتفال تلو الاحتفال منذ أن آمنا بالحرية... وآمنا بأن القدر لا يستجيب إلا لإرادة الشعب... الشعب التونسي... إننا في احتفال دائم بحريتنا وبإنسانيتنا وبحلمنا... ولا حاجة لنا بحافلات عمومية ولافاتات زرقاء... وقوارير ماء... ومليشيات تلتحف الذل... إننا في احتفال دائم رغم أنهم يُكرهُوننا على الاحتفال... على احتفال الجاهلية الأولى...

2012/10/17

حوار مع حسين العباسي الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل

حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في أول حوار لجريدة الشعب الاطراف التي ستلتقي حول مبادرة الاتحاد لن تعوض لا المجلس الوطني التأسيسي ولا الحكومة المؤقتة أجرى الحوار ناجي الخشناوي وعبد الجبار الذهبي/تصوير منتصر العكرمي لأول مرة منذ انتخابه أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل بعد مؤتمر طبرقة يدلي الأخ حسين العباسي بحديث شامل إلى جريدة الشعب ويأتي هدا الحديث في مرحلة دقيقة جدا حيث يتحرك الأمين العام على عدة واجهات منها ما يتعلق بمتابعة الشأن النقابي وخاصة على مستوى دفع المفاوضات الاجتماعية في القطاعين العام والخاص ومنها ما يتعلق باللقاءات والمشاورات مع الفرقاء السياسيين ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية لتفعيل مبادرة الاتحاد وانجاح مـؤتمر الحوار الوطني حولها المقرر ليوم 16 من هذا الشهر... رغم هذا الحراك الدائرة رحاه دون توقف فان الاخ حسين العباسي لم يبخل على جريدتنا بهذا الحور الذي قدم له بتقييم شامل لطبيعة المرحلة قبل 14 جانفي الى الآن حيث أكد أنه رغم الاستقرار النسبي المشهود بالبلاد بدت هناك مسائل اشتدت حولها الخلافات والتجاذبات جعلت الاتحاد يفكر في اطلاق مبادرة عساها تكون محل توافق بين كل الفرقاء السياسيين للخروج بالبلاد من الوضع الذي تردت إليه. وفي هذا الحديث ايضا أجاب الاخ الامين بكر نزاهة وصراحة عما تم انجازه نقابيا منذ مؤتمر طبرقة مبرزا بالخصوص جانب المفاوضات الاجتماعية وسن مشروع العقد الاجتماعي واعداد مشروع دستور يتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال واعداد تصور جديد لإعادة هيكلة الاتحاد. كما تطرق الحوار الى مسائل تتعلق بالقرار النقابي داخل الهياكل وتأثيرات التعددية النقابية وبعض ظواهر الانفلاتات وعلاقات الاتحاد الدولية ودورها في دفع عجلة الاستثمار الوطني في وقت تراجعت فيه ثقة بعض الدول ببلادنا... • الأخ الأمين العام، كيف تقيّمون طبيعة المرحلة الراهنة وتأثيراتها على الأداء النقابي؟ ـ لابد من الرجوع الى الوراء قليلا قبل 14 جانفي لمعرفة طبيعة المرحلة فالجميع كان يعرف ان الاتحاد يناضل في بلاد فيها تصحر سياسي وديمقراطية محدودة وحقوق الانسان مقموعة ونظام حكم متسلط يحاصر الاحزاب وايضا مكونات المجتمع المدني مقابل تفريخ آلاف الجمعيات الصورية كان يفاخر بها في الخارج. غير ان الحقيقة لو أحصيت عدد الجمعيات الفعلية لوجدت أنها لا تتجاوز أصابع اليد مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وعمادة المحامين وجمعية الصحافيين وجمعية النساء الديمقراطيات وهي جمعيات قليلة لكنها لم تكن بمنأى عن اطار «المصيدة» فكانت هناك دوما محاولات لإرباكها عبر افتعال مشاكل وهمية وكل من يخرج عن دائرة السيطرة تحاك ضده التهم والمكائد مثلما تم اختلاق أزمة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وعمادة المحامين عندما أرادوا التعبير عن رأيهم وكذلك جمعية القضاة التي تعرضت الى عديد المشاكل. بعد 14 جانفي يمكن ان نقول ان المرحلة طبعت بعدة ميزات لعل اهمها زوال عامل الخوف، وبدأت الكلمة الحرة تجد الطريق الى العلن وهامش الحرية اصبح متسعا الى درجة الفوضى وكل واحد يتكلم من فهمه للحرية ودعني أقول بصراحة ان «البكوش نطق» بعد الثورة وهذا ما جعل الظرف يتغير في فترة قصيرة. هذا كان ايجابيا لانتعاشة الكلمة الحرة وتحرير الاعلام وخلق التجاذبات السياسية. لكن ايضا تميزت الفترة الاولى بعد الثورة بفراغ دستوري عمّ البلاد فكل المؤسسات انهارت وكان على بعض الاطراف لم شتات الفرقاء في اطار عملية توافقية وهذا الدور قام به الاتحاد العام التونسي للشغل لكن الحقيقة ليس وحده فهناك عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان... وتجمع الفرقاء في ما سمي بمجلس حماية الثورة وأحدثت اللجنة العليا للانتخابات، لكن ايضا لا يمكن ان نغفل القول إن هذه الفترة تميزت بظواهر اخرى فهناك اطراف أخذت تحاسب اطرافا اخرى بموجب ودون موجب وكل واحد ركب جواد الثورة وكل واحد حسب أنه لاعب رئيسيّ في الثورة ليس من باب الحلم بمناب من الثورة لكن لمحاسبة اشخاص آخرين، الاتحاد عاش هذه الفترة وهو يقترب من موعد مؤتمر طبرقة ويستعد لتوديع فترة نيابية ويستقبل اخرى، في ذلك الوقت لم يكن الاتحاد يعمل فقط على ادارة المرحلة مع بقية الشركاء لكن كان ايضا يتفاوض حول الزيادة في الاجور وفي نفس الوقت يعد الى المؤتمر الوطني لذلك نؤكد القول ان الاتحاد كان يناضل على عدة جبهات واستطاع رغم دقة الظرف أن يظل متماسكا في وقت انهارت فيه عدة منظمات مثل ما عاشه اتحاد الصناعة والتجارة أو ما حدث لاتحاد الفلاحين. وباعتبار الاتحاد منظمةً تمارس فيها الديمقراطية رغم الحصار المضروب بشكل عام على الحريات والديمقراطية ولم يخضع الى التدجين عبر تاريخه واستطاع ان يتماسك وان يلعب كل هذه الادوار المتعددة وكانت بصماته واضحة سواء في حماية الثورة او في مساعدة اعمال اللجنة العليا للانتخابات أو في تجميع شتات الفرقاء رغم الصعوبات والعراقيل حتى وصلت البلاد الى موعد 23 اكتوبر كل ذلك دون التأثير على أداء الاتحاد الاجتماعي. مؤتمرنا انعقد بعد موعد 23 اكتوبر وبطبيعة الحال وجدنا المجلس التأسيسي يشتغل وتشكلت حكومة الترويكا... وانتقلنا من مرحلة التوافق الى مرحلة الشرعية وعلى اساس ذلك أطقلنا أيادينا للتعامل مع الحكومة المنتخبة المؤقتة غير ان الفترة شهدت بعض المشاكل مع الترويكا وكلنا يعرف المرحلة الصعبة التي مر بها عمال البلديات وانعكاساتها، لكن الاتحاد عرف بفضل تماسك هياكله والتفاف قواعده وعراقة علاقاته مع أجزاء كبيرة من المجتمع المدني كيف يدير المرحلة ويخرج منها منتصرا. وبعد ذلك مباشرة دخلنا في المفاوضات الاجتماعية والكل يعلم الصعوبات التي اعترضتنا فهناك من دعا الى سنة بيضاء وهناك من دخل في موجة من التصعيد ووقعت تجاذبات لكن الاتحاد ذهب مباشرة للتمسك بحق منظوريه والدفاع عن مطالبهم في فترة شهدت تطورا مفزعا للأسعار وتدهورا كبيرا للمقدرة الشرائية للشغالين والبلاد تمر بمرحلة اقتصادية صعبة لكن بفضل تحلينا بروح الحوار والتفاوض والاقناع استطعنا اقناع الاطراف الاجتماعية الاخرى بأحقيتنا في الزيادة في الاجور وهو ما تم في الوظيفة العمومية ونأمل ان يكون كذلك في القطاع العام والقطاع الخاص. وتساويا مع هذا العمل الاجتماعي بدأنا رغم الاستقرار النسبي المشهود بالبلاد نتساءل الى اين نسير خاصة بعد أن ظهرت بوادر عدم توافق حول عدة مسائل اشتدت حولها الخلافات لذلك فكرنا في الاتحاد منذ شهر جوان الماضي في بحث الوضع واستنتجنا ان هناك بعض القضايا لابد ان يحصل حولها توافق واستقرءنا الواقع وكانت لنا نظرة استشرافية وفهمنا ماذا نفعل ولذلك بوبنا ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو اقتصادي وارتأينا ضرورة تجميع التونسيين من اجل التوافق على اهم المسائل المطروحة لإيماننا بأن ما يحدث له انعكاسات على الوضع العام الذي اتسم بالعنف وبعض مظاهر الارهاب والتراجع في الديمقراطية وتأكدنا ان الامر أخذ يستفحل والسكوت عنه قد يدفع الى سرقة الثورة او الالتفاف عليها او يقع انحباس في أهدافها. هذه قراءتنا للوضع وما سيترتب عنه خاصة في ظل اعداد دستور للبلاد، الاتحاد لم يغفل هذا الجانب فقدم مشروع دستور ورأى أنه يجب ان يجد الطريق الى النفاذ الى دستور البلاد خاصة في الابواب المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال ويلعب الاتحاد دوره حتى يوجد لمشروع دستوره اثرا في دستور البلاد القادم. بالمقابل لا يمكن ان ننسى انه بعد الانتهاء من الدستور والذهاب الى الانتخابات سيجد الاتحاد نفسه امام عدة ملفات أخرى منها مراجعة قوانين الشغل ومراجعة واقع الصناديق الاجتماعية ومراجعة نظام التأمين على المرض الذي بدأت تظهر عليه بوادر العجز ولنا في كل هذه الملفات دراسات لكنها تحتاج الى تحيين ولنا ايضا دراسات حسب الجهات تحتاج كذلك الى بلورة منوال تنمية نابع من اهداف الثورة وكل هذا لا يمكن ان يحجب عنا الواقع القطاعي مثل التشغيل والجباية والصحة والتعليم. •تظهر احتجاجات نقابيّة واعتصامات من حين إلى آخر ومعظمها يتم خارج مؤسسات الإنتاج، وهناك من ينسبها الى الاتحاد، فماهو موقفكم من مثل هذه الاشكالية، خاصة ان بعض النقابيين في عدة جهات يدفعون ضريبة هذه التحركات، سجونا وملاحقات واعتداءات بالعنف؟ مع العلم ان بعض التحركات المنفلتة عن السيطرة النقابية تأتي من بعض الهياكل جهوية او قطاعية؟ ـ أولاً ظاهرة الانفلات بدأت في التكاثر اسبوعا فقط بعد الثورة وهناك احتجاجات واعتصامات وعدة مظاهر هي خارجة عن نطاق الاتحاد مثل قطع الطرق او الاحتجاج على مظاهر البطالة أو من أجل الماء أو الكهرباء... هي مظاهر يتضرر منها الاتحاد لكن جانب الكبت خاصة في القطاع الخاص والخوف الذي كان سائدا والذي تفجر بعد الثورة دفع بالمئات للانخراط في الاتحاد وبدأت تظهر ملامح انفلات عن المنظمة نفسها فتشن اضرابات واعتصامات في هذه المؤسسة او تلك دون ان يكون للهياكل النقابية المسؤولة علم بذلك، ولا ننكر ان هذه الظواهر مازالت موجودة لكنها اخذت تنتفي شيئا فشيئا. وفي الواقع اقول ان هذه المظاهر قد تعود إلى عوامل أخرى منها تفجر حالة الكبت والحرية لدى كل الناس من جانب، ومن جانب آخر هناك من يدفع في هذا الاتجاه لتشويه الاتحاد والنقابيين على خلفية ان الاتحاد قوة يعمل على عدم استقرار البلاد ويُريد عرقلة المسار ويريد الفوضى وغير ذلك من الاوصاف المعروفة والتي أدت حتى إلى إلصاق تهم ببعض النقابيين عرضوا من أجلها على المحاكم غير ان الثابت والاكيد ان هؤلاء لم يفلحوا في مسعاهم وعرف الاتحاد كيف يجاري الوضع ويتحمل مسؤوليته ويقنع الاطراف الأخرى بان من يأتي مثل هذه الافعال لا يمكن ان يكون من الاتحاد او من قواعده. • هناك من يصرّ على التهجم علي الاتحاد وممارسة العنف المجاني ضد النقابيين ومقرات الاتحاد ولعل ما حصل يوم الاربعاء دليل قاطع على استهداف الاتحاد العام التونسي للشغل، فكيف تردون على هذه الممارسات؟ الانفلات قائم ويمكن أن نجد له مبررات لكن ما لا نجد له مبرّرا اطلاقا هو العنف، بمختلف انواعه المادي واللفظي، والكلام البذيء الذي يدل على مستوى قائليه! وان يصل الأمر الى اتلاف ممتلكات الاتحاد وتحطيم بعض السيارات وقذف المكاتب المركزية بالحجارة والزجاجات الحارقة فهذا أمر غير مقبول وغير منطقي، وكان بامكان الامن الذي رأى كل شيء ان يحمي مقر الاتحاد غير انّ هذا لم يقع ولم نلاحظه. وبطبيعة الحال عندما يكون العنف والقذف بالحجارة والزجاجات الحارقة لا يقبل انسان ان يبقى مكتوف الأيدي، لو مرّت خمس دقائق أخرى لتمّ اقتحام مقراتنا وحرق ممتلكاتنا واتلافها لكن للاتحاد رجال ونقابيون يحمونه ويحمون مقراته ومن هنا فصاعدًا سندافع عن أنفسنا بأنفسنا. • يرى بعض المراقبين والملاحظين للشأن النقابي أن المكتب التفيذي الوطني يتفرد بالمواقف ويغيُّب سلطات القرار داخله وخاصة الهيئة الإدارية الوطنية، فما مدى صحّة هذا الرأي؟ ـ أولاً أريد التساؤل حول مصادر هذا الكلام ثم أعود بك إلى هيكلة الاتحاد لأقول لك ان المكتب التنفيذي ليس سلطة قرار والقرارات لها هياكل منظمة هي التي لها صلاحيات اتخاذها ولم يحدث ان اجتمعنا في المكتب التنفيذي واتخذنا قرارا بالاضراب في مؤسسة او جهة أو قطاع ومن يدعي مثل هذا الكلام عليه ان يحيلنا على قرار واحد اتخذه المكتب التنفيذي عوضا عن الهياكل المسؤولة، لو عدنا إلى القانون الاساسي للاتحاد ونظامه الداخلي سنجد ان الهيئة الادارية الوطنية اجتمعت في اكثر من مناسبة على خلاف ما يحدده القانون ولنا في المفاوضات الاجتماعية خير مثال حيث كنا نعود دوما الى الهيئة الادارية ونأخذ رأيها ثم نلتزم بما تقرره وحتى في حال الوصول الى اتفاق مع الاطراف لا نمضي على أي شيء الا بعد العودة الى الهيئة الادارية وأخذ رأيها. إذن أؤكد انه لم يحدث ان اتخذ المكتب التنفيذي قرارا بمفرده وحتى المبادرة التي اطلقناها عرضنا تفاصيلها على الهيئة الادارية وهي التي قامت بالتعديلات والتنقيحات ثم صادقت عليها وكلفت المكتب التنفيذي بالسهر على تنفيذها. وعليه فإن المكتب التنفيذي لم يتغول اطلاقا على سلطات القرار داخل الاتحاد وربما من يروج لهذا يكنّ أمرا في نفسه لابراز ان المكتب التنفيذي هو من يبحث عن الزيادة في الاجور وهو من يريد كذا وكذا دون مراجعة هياكله وسلطات القرار بالاتحاد. • أصوات من داخل الهياكل النقابية ترى في اهتمام الاتحاد بالشأن السياسي العام رغم حتمية دوره الوطني، مغالاة قد أضرت بحقوق الشغالين ومطالبهم فهل يعني ذلك الدفع باتجاه تحجيم دور الاتحاد؟ ـ الاتحاد يُمانع من اجل كلمة الحق ومن أجل فعل ايجابي ولا يمانع لمجرد الظهور بمظهر المعاند والممانع، والاتحاد إذا مانع في بعض الامور فهو يدرك لماذا يمانع وله من الدلالات والحجج ما يكفي لتأكيد مواقفه. ما يقال لم أسمعه من كثير من النقابيين ولكن هذا أسمعه من أطراف سياسية، لهذه الاطراف السياسية أقول ان الاتحاد منذ تأسيسه وهو يلعب دوره الاجتماعي والسياسي وحشاد عندما انسلخ من الـ س ج ت وأسس الاتحاد العام التونسي للشغل لانه رأى في الـ س ج ت عدم مقاومة للاستعمار رغم دفاعها عن حقوق العمال ورأى حشاد في تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل فضاء يمكن له ان يمزج فيه النضال بين ماهو اجتماعي واقتصادي وبين ما هو سياسي لذلك فان اغتياله لم يتم من أجل مطالب اجتماعية بل لانه كان يلعب دورا متميزا في الحركة الوطنية في غياب الحزب وغياب السياسيين وحتى بعد اغتياله فان رفاقه واصلوا على نفس الدرب ناهيك أنه عندما بدأت تونس تجهز للاستقلال والقيادات الحزبية والسياسية في المنافي كان الاتحاد يعمل ويتوفر على برنامج اقتصادي واجتماعي تم استغلاله من قبل الحبيب بورقيبة عندما استقلت البلاد واصبح هو رئيسا وبعد ان احكم بورقيبة استغلال هذا التقرير تنكر للاتحاد وجاء بأحمد بن صالح وكما يقال ـ علمته الرماية ولما اشتد ساعده رماني - ولا انكر ان الاتحاد مر بفترات صعبة وأخذ الضعف منه لكن هناك خطّا ممانعًا لا يسكت ولا يرضخ ولا يهادن ويدافع عن المطالب والاستقلالية وفي بعض الاحيان يُصعّد إلى درجة التعجيز من أجل خلق حراك بالبلاد وكلنا يذكر استماتة احمد التليلي في الدفاع عن الديمقراطية ويذكر استماتة الحبيب عاشور في الدفاع عن الاستقلالية وحتى أزمة 1978 كانت أزمة دفاع عن الاستقلالية لكن بعد رجوع الاتحاد وجد البلاد قد انخرطت بشكل واضح في النظام الليبرالي وبدأت تقبل بالانصياع الى املاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بتعلة اصلاح الاقتصاد التونسي وغير ذلك ولكن في ذلك الوقت كان النقابيون منشغلين بالاعداد لمؤتمر سنة 1984 وشكل ذلك مناسبة لأن يُعدّ الاتحاد تقريره الاقتصادي والاجتماعي الشهير ودخل في مفاوضات مع الحكومة التي كانت تراها شكلية لكن الاتحاد عاد الى الممانعة وكانت الحكومة انذاك قد شعرت بان المؤسسات قابلة بالوضع وأن المجتمع قابل بما يدور ولم يبق الا الاتحاد على خط الممانعة فافتعلت له ازمة 1985 وجاؤوا بقيادة منصبة ثم جاءت مرحلة ما بعد 1987 وتم مؤتمر سوسة وكان اسماعيل السحباني لاعبا رئيسا في ملعب السلطة اذ هو الذي تم في عهده تحوير مجلة الشغل وبعض تشاريع العمل التي تمت مراجعتها في 74 و77 وبدأت تتلاشى وتغيب في فترات وتبعا لذلك أطلت مظاهر العمل الهش والمرونة وغيرها والتي مازال العمال الى الان يعانون نتائجها السلبية، وخلال سنة 1988 وعند رجوع الاتحاد كانت البلاد في ذلك الوقت قد قطعت اشواطا كبيرة في الانخراط في الاقتصاد العالمي وتم التفويت في أغلب مؤسسات القطاع العام وكان يفترض في قيادة الاتحاد التي انبثقت عن مؤتمر سوسة ان تعجل ببعض الاصلاحات وايقاف نزيف بيع مؤسسات الدولة لكن للاسف قبلت القيادة في ذلك بالكثير من الواقع وقبلت بالكثير من الخنوع للسلطة لكن هذا لم يحجب الخط الممانع داخل المنظمة والذي نجده قائما دوما وبدأ العمل شيئا فشيئا حتى تمت ازاحة السحباني وفعل هذا الخط من داخل الاتحاد وخارجه فعله في مؤتمر جربة وفي تحييد المنظمة عن الدخول الى مجلس المستشارين رغم عدد البقاع التي عرضت عليها. اردت ان أذكر بهذا لأقول ان الاتحاد ليست له أطماع عندما يهتم بالشأن السياسي، والنقابي الذي لا يفهم في الشأن السياسي ويفعل فعله فيه لا يمكن ان يكون نقابيا ناجحا ولذلك لا يمكن للنقابي ان يظل يترقب التجاذبات السياسية حتى يداهمه خطر انعكاسها على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بل يجب عليه الذهاب إلى مربع السياسة وميزة الاتحاد انه يذهب الى هذا المربع بما يغيض بعض السياسيين الذين يرون فيه منظمة مهنية حرفية فقط، ويذهب البعض منهم، الآن إلى حدّ التساؤل عمّا قام به الاتحاد في عهد بن علي الشيء الذي يدفعني إلى التأكيد بأنّ الاتحاد دافع على الأقل عن الديمقراطية وأطر انتفاضة الحوض المنجمي ولم يسكت عندما وقع إرباك الرابطة والمحامين والصحافيين والقضاة... فالاتحاد كان دائم الحضور في هذه المحطّات ليس بالنسب المأمولة لكن أيضا لم تكن قيادته كلّها مهادنة فهناك نفس داخله دائم التحرك ويدفع دوما باتجاه الايجابي والدليل على ذلك احتضانه لشباب الثورة وتأطيره لتنطلق الثورة من مقرّات الاتحاد ولا يمكن أن نجحد علىقيادة الاتحاد مواكبتها لانطلاقة الثورة ذلك أنّ ثلاثة من أعضاء المكتب التنفيذي رابطوا أيّام الثورة بسيدي بوزيد والڤصرين والأمثلة كثيرة على ذلك رغم استمرار حكم بن علي وكان الاتحاد أحسّ بأنّ محرّك الثورة لا يدور بشكل مجدي وسريع في ذلك الوقت فأعلن الاضرابات القطاعية والجهوية ثمّ الاضراب العام والذي توّج باندلاع ثورة 14 جانفي وسقوط نظام بن علي لكن وبعد كلّ الأدوار التي قام بها في ظلّ الثورة بدأنا نسمع أشياء غريبة ومحاولات لتحديد دور الاتحاد فقلنا على رؤوس الملإ أن لا أحد داخل السلطة أو خارجها بإمكانه تحديد المربع الذي يتحرك فيه الاتحاد ونحن قمنا ومازلنا نقوم بدورنا التاريخي دون أن ننسى تذكير الأحزاب والسياسيين بأنّنا لسنا منافسين لهم ولسنا طلاّب حكم أو سلطة ونقف من الكل على نفس المسافة في استقلالية تامة... واستطعنا أن نقنع كل الناس بدورنا هذا وهو ما أكّدته الأيّام حتى أنّ كل المجتمع أصبح يرى في الاتحاد الأمل الذي يمكن أن يخرج البلاد ممّا تردّت فيه. • في أكثر من مرّة وقع الحديث عن تقارب بين الأطراف الاجتماعية سواء مع الحكومة أو مع منظمة الأعراف، وهو تقارب رأى فيه بعض المراقبين مزايدة على واقع العمّال والبلاد، فما هي النتائج الفعليّة لهذا التقارب إلى حدّ الآن؟ ـ من المهم هنا أن نفرّق بين المسائل... لم أر إلى حدّ الآن أي تقارب لكن قد يحدث هذا التقارب بما يعني أنّه في بعض الأحيان يطفو ملف ما ويكون محلّ حوار مع هذا الطرف أو ذاك فيحصل اتفاق حوله ألا نرى في هذا تقاربا وفي بعض الأحيان لا يحصل الاتفاق فنلتجئ إلى النضال ثمّ تأتي النتائج ايجابية هذا أيضا نسمّيه تقاربا وان تمّ التعثّر فلا نناصب أحدا العداء بل نواصل النضال ويمكن الفصل بين مصلحة العمّال والبلاد، ومنذ مؤتمر جربة تحديدا لم يعد بالإمكان الفصل بين ماهو اجتماعي وبين ماهو اقتصادي لذلك أخذنا بعين الاعتبار وضع المؤسسة التي تمرّ بصعوبات ولم يعد بالامكان الحديث عن وضع العامل دون الحديث عن المؤسسة وهو ما نعتبره تقاربا لكن ليس التقارب الذي نغفل فيه الجانب الاجتماعي للأجراء وفي نفس الوقت أيضا ليس بأي كلفة كانت حتى ولو انهارت المؤسسة لأنهّ عند انهيار المؤسسة نفقد الشغل ونفقد الأجر ولهذا يجب أن يقتنع أرباب العمل أنّنا في نفس المركب وأن لا يأخذوا منطق التقارب على حساب حقوق العمل والعمل نفسه ولا أيضا على حساب الحق النقابي... نحن نتمنّى أن يدرك أصحاب العمل هذا الفعل على غرار ماهو موجود في نقابات أوروبية وبلدان متقدّمة ومن هنا يأتي حرصنا على التفاوض في العقد الاجتماعي... وفي النهاية أقول أنّه ليس هناك تقارب بالمعنى المشترك إنّما فقط هناك معرفة بدقة المرحلة... • حصل مؤخرا الاتفاق في الوظيفة العمومية لكن المفاوضات تتعثّر في القطاع العام وتتردّى إلى نقطة الصفر في القطاع الخاص، فما السبيل إلى تجاوز هذا الوضع خاصة في ظلّ استمرار ارتفاع الأسعار وتدنّي القدرة الشرائية للشغالين؟ ـ بالنسبة إلى الوظيفة العمومية أنهينا التفاوض وبالنسبة إلى القطاع العام المفاوضات سائرة أمّا في القطاع الخاص فتمّ التراجع من قبل الأعراف ونحن في الاتحاد متمسكون بما صرّح به أحد ممثلي اتحاد الصناعة والتجارة وطالبنا من اتحاد الصناعة والتجارة مراجعة موقفهم والالتزام بما جاء على لسان ممثلهم وبالمناسبة كنت اليوم (الثلاثاء) في حديث مع رئيسة اتحاد الصناعة والتجارة وقلت لها إنّنا نترّقب الامضاء على الاتفاق قبل أن نلتجئ إلى اللجنة العليا للتفاوض وإذا لم يحصل الاتفاق فإنّ قطاعاتنا على استعداد للنضال. • في ظل ارتفاع الأسعار وبعد الزيادة في المحروقات وفي معلوم الكهرباء والماء وفي ظل الانفلات الموجود في السوق عموما كلها أثرت بشكل سلبي على نسق المفاوضات في الوظيفة العمومية وعلى نسبتها، فما هو موقف الاتحاد من هذه الوضعية؟ ربما ارتفاع الأسعار هو الذي يجعلنا نناقش وندافع بقوة لتحقيق المزيد في نسبة الزيادة في الأجور، ولكن ما يحدث أن ما نتحصل عليه باليسرى يُفتك باليمنى، والخوف كل الخوف أن تتدهور المقدرة الشرائية إلى وضع أكثر كارثية. سعر الطاقة يؤثر على المقدرة الشرائية للمواطن العادي لكن أيضا يؤثر بدرجة اكبر على المؤسسة والمشكل هنا يتضاعف فطبيعي أن المؤسسة التي تعاني مشاكل وفي ظل التنافس، ستضطر إلى الزيادة في سعر المنتوج وبالتالي الزيادة في سعر استهلاكه، وهو ما يضر بعملية الترويج الداخلي وكذلك بعملية التصدير إلى الخارج، كما أن مثل هذه الزيادات ستأثر على العلاقات الشغلية بين الأطراف وقد تؤدي مثل هذه الزيادات لغلق المؤسسات وبالتالي تسريح العمال وهو ما يمثل لنا كارثة حقيقية. •هل توصّل الاتحاد في هذه الفترة الزمنيّة القصيرة منذ مؤتمر طبرقة إلى تجسيم البعض من توصيات وقرارات المؤتمر خاصة المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ ـ التزمنا أمام المؤتمرين بالعمل على أربعة ملفات هي: 1 ـ في ظلّ الحكومة الانتقالية المؤقتة سنعمل وسندافع عن مشروع دستورنا حتى يلقى أثره في دستور البلاد. ونحن بصدد القيام بهذا العمل. 2 ـ سنعمل مع الدولة ومع اتحاد الصناعة والتجارة على انجاز عقد اجتماعي يربط بين جميع الأطراف وقد شرعنا في هذا العمل وخطونا فيه خطوات بالتعاون مع منظمة العمل الدولية وتمّت الى حدّ الآن عديد الجلسات هنا وهناك والحاصل أنّ هناك اتفاقا على أن ننهي هذا العقد قبل 14 جانفي القادم. 3 ـ اخترنا أن تدور المفاوضات الاجتماعية على سنة واحدة باعتبار أنّ هذه الحكومة مؤقتة وفعلا أنهينا جزءًا من هذه المفاوضات ونعمل على إتمام ما تبقّى. 4 ـ المؤتمر شرّع لنا أحقيّة اعداد تصوّر لهيكلة جديدة للاتحاد وقد انجزنا ذلك وسنعرض مشروعنا أوّلا على هياكلنا الجهوية لإبداء رأيها قبل أن يتمّ عرضها على المجلس الوطني ليس للنظر فيها فقط وإنّما لإنجاز هذا الحلم لأنّ منظمتنا منذ مؤتمر جربة قائمة على نفس القوانين في حين تطورت العلاقات الشغلية وتطورت القوانين والتقنيات تغيّرت وبرزت علاقات عمل لم تكن مألوفة وهناك مهن جديدة برزت وأخرى اندثرت وهناك تصنيفات مهنية جديدة في قطاعات محدثة جديدة... كل هذا يحدث وهيكلة منظمتنا مازالت جامدة. هذه هي النقاط الأربعة التي وعدنا بانجازها هذه السنة ونتمنى أن لا تنتهي السنة حتى نكون أوفينا بما تعهدنا به ومع هذا وعدنا بأنّنا سنفتح كل الملفات العالقة مع الحكومة القادمة التي ستكون حكومة استقرار وقد شرعنا من الآن في اعداد ملفاتنا (الصناديق الاجتماعية واقع التشغيل ـ بوادر إفلاس الصندوق الوطني للتأمين على المرض إلى غير ذلك) ونتمنّى أن نبدأ بالعمل الفعلي على هذه الملفات في الأشهر الأولى من السنة القادمة. •يرى البعض ان التعددية النقابية باتت أمرا واقعا، فما هي انعكاساتها على نسبة الانخراط بالاتحاد العام التونسي للشغل، وهل يفكر الاتحاد في آليات لتحصين النقابيين من محاولات الاغراء وشراء الضمائر؟ هذا الوضع يملي علينا اليوم أن نستأنس بتجارب عديد المنظمات التي لها أقدمية في فهم هذه المسائل واليوم نقوم بتعاون في هذا المجال مع نقابة س.ف.د.ت وأقول إن تحصين هياكلنا ليس من الاغراء فقط وإنّما من كلّ المواقع التي تصادف فيها النقابي اخلالات وفي حديثنا مع عدّة نقابات ذات التجارب أكّدوا لنا أن أصعب الفترات التي مرّوا بها هي الفترات الانتقالية من هيكلة إلى أخرى، وكل نقابي حرّ يعرف كيف يحصّن نفسه من الاغراءات. • الاتحاد بصدد اعداد مشروع العقد الاجتماعي، والذي سيعرض على وزارة الشؤون الاجتماعية وعلى منظمة الأعراف، فهل «سيفرض» الاتحاد مشروعه الاجتماعي والحقوقي على الأطراف التي عُرفت تاريخيا بـ «عدائها» للعدالة الاجتماعية والعمل النقابي عموما ؟ ـ انطلقنا في اعداد المشروع في حدود شهر فيفري بعد ان نضجت الفكرة ووجدنا المموّل وبعد ان عبرت كل الاطراف المعنية عن استعداداتها علما وان من وفر التمويل هو المكتب الدولي للشغل B I T وفي مرحلة أولى تم التعاطي حول الموضوع مع B I T كل طرف على حدة ثم وقعت دعوتنا (الاطراف الثلاثة للانتاج). وحصل اتفاق ان ننهي هذا العمل قبل 14 جانفي وعندما نتوصل الى التوقيع على هذا الاتفاق تصبح كل الاطراف ملزمة به ويقع الرجوع اليه في كل اختلاف. ان بلادنا تحتاج ايضا الى عقد مجتمعي وربما هذا العقد الاجتماعي هو الذي سيمهد الى وجود عقد مجتمعي ببلادنا. • إلى أي مدى يمكن للاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتوفر على علاقات دولية تاريخية مشعة التـأثير في القرارات الدولية بشـأن تونس سواء على المستوى الاقتصادي (الاستثمار) أو السياسي في مرحلة توحي بالتحفظ من عدة جهات خاصة منها الأوروبية؟ ـ للحقيقة ان كل الاخوة الذين مروا من قسم العلاقات الدولية بالاتحاد العام التونسي للشغل كانوا دوما نقطة قوة وتركوا إرثا ايجابيا نحن الآن نبني عليه ودائما نحن في حاجة الى مشورتهم فلنا كوادر بعدة منظمات جديرة بالاحترام والتقدير ولا نتردد في الاخذ برأيها على غرار الاخ محمد الطرابلسي. نحن في العلاقات الدولية نتعامل بالاساس مع النقابات وخاصة الاوروبية لانها مستقلة ولا تتأثر بمواقف حكوماتها على خلاف النقابات في بعض الدول العربية. هذا ما يعني ان العلاقات بين بلدنا واحدى البلدان الاخرى اذ كانت تشهد خلافات فلا يعني ان النقابات تتأثر بهذه الخلافات. غير ان الجدير بالتذكير في هذا المجال اننا اذا شعرنا كنقابات بأن الخلافات السياسية ستنعكس على الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي هنا يتنزل دورنا ونقوم بما يجب القيام به للحد من الانعكاسات وهذا ما تم بعد الثورة حيث ينظر العالم كله الى بلدنا نظرة اعجاب لان ثورة تونس أثبتت للعالم فشل منوال التنمية الذي كان متبعا في تونس وما قام به الاتحاد من دور على هذا المستوى تنظر اليه النقابات الاوروبية بإكبار واعجاب لأنه كشف زيف النمط التنموي الذي كان متبعا في تونس. وأعطى حجة لهذه النقابات من اجل الدفاع عن حقوق الشعوب الأخرى التي تعاني من نفس نمط هذا المنوال التنموي. وعموما نريد التأكيد على ان اختلافاتنا بالداخل لا يمكن ان تحجب عنا الدفاع عن مصلحة البلاد العليا في الخارج فنحن ندعو للاستثمار في بلادنا وهناك من يرى في النقابات صمام أمان لبعث المشاريع والاستثمار لذلك ستكون لنا مشاريع تعاون مع عدة منظمات نقابية ويمكن ان تصل الى المشاركة بوفود من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وأذكر في هذا السياق برنامج عمل سيتم مع منظمة القوى العمالية بفرنسا. وأقول صراحة اننا مازلنا مقصرين نسبيا في جانب العلاقات الدولية نظرا للضغط الداخلي وكثرة الاعمال والالتزامات التي جعلتنا لا نقوم بهذا الدور كما يجب ونأمل ان نعود الى هذا الدور بعد انهاء العمل على بعض الملفات العاجلة. •هناك من يعتبر بروز مبادرة الاتحاد مجددا يستند الى ثلاثة مستجدات وطنية وهي ظهور نداء تونس كقوة سياسية وجدل انتهاء الشرعية الانتخابية وتداعيات أحداث سفارة أمريكا، ما مدى صحة هذه المقاربة؟ ـ المبادرة أطلقناها منذ شهر جوان الماضي عندما شعرنا بأن هناك بداية لتجاذبات وصراعات سياسية كبيرة وشعرنا ان بلادنا تحتاج الى من يجمع الناس ويدعوهم الى التوافق حول بعض المسائل المطروحة وعندما أطلقنا المبادرة وجدت ترحابا من عديد الاطراف ووجدت تعاطفا عاما خاصة ان المرحلة اتسمت بالحديث عن قرب موعد 23 اكتوبر والشرعية وما الى ذلك وبروز مظاهر للعنف السياسي والمادي حتى داخل المجلس التأسيسي وارتسمت حول الديمقراطية وحرية الاعلام واستقلالية القضاء نقاط استفهام عديدة... وهذا ما اثر سلبا على الوضع العام الاجتماعي وحتى الاقتصادي بما قد لا يسمح بالتحكم فيه اذا لم تكن هناك بوادر للحوار الوطني وعدنا لدعوة الاطياف السياسية والمجتمع المدني بغاية تجميعهم ولسنا نطلب منهم اي شيء غير العمل على مصلحة تونس وترك المصلحة الفئوية أو الحزبية جانبا لكن المتعارف عليه ان لا حزب يطمئن للآخر لذلك رأينا نحن في الاتحاد على اعتبارنا غير معنيين بالتنافس لا على السلطة ولا على الحكم ولا على غيرهما واننا نقف على نفس المسافة من كل الاحزاب وان الناس يمكن ان يستمعوا الينا عدنا الى دورنا الذي لعبناه قبل وبعد الثورة وقررنا ان ندعو السياسيين ونقول لهم ان مصلحة تونس تعنينا كما تعنيكم لكن دون ان نكون منافسين لكم وسنعرض عليهم مبادرتنا التي فيها ما هو عاجل وما هو آجل وما هو على المدى الطويل لذلك حددنا نقاطا محددة يجب ان يحصل عليها التوافق وأهمها طبيعة نظام الحكم الذي نريده لتونس والاسراع بتكوين اللجنة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للاعلام وانهاء التجاذبات حول استقلالية القضاء العدلي وبعد ان نوجد التوافق حول هذه النقاط العاجلة يمكن ان نتحدث بأريحية في مسائل أخرى. نتمنى ان يقع التفاهم والتوافق وان تلتقي جميع الاطراف بالفعل حول مصلحة تونس بعيدا عن الفئوية والحسابات الضيقة مع التأكيد ان الاطراف التي ستلتقي في هذا الحوار لن تعوض المجلس التأسيسي ولن تعوض الحكومة. نحن نسعى إلى تقريب وجهات النظر بين الطرف الذي يسعى إلى إقصاء طرف آخر لأننا نعتقد ضمن هذه المبادرة أن من مصلحة الجميع هو أن تجلس كل الأطراف إلى طاولة الحوار والتفاعل المسؤول والعميق مع جميع وجهات النظر حتى نخلص إلى وفاق وطني، فبالأخير نحن نطرح هذه المبادرة لا لان تتحول إلى ما يشبه سوق عكاظ تتناظر فيه الأحزاب السياسية وإنما لخلق مناخ توافقي يخرجنا من عنق الزجاجة. ومسألة الإقصاء هاته هي التي تأخذ الآن الحيز الأكبر من جهد ومناقشات الهيئة المشرفة على تسيير هذا الحوار. هناك مواضيع حارقة يجب إن نحسمها الآن وهنا، وبعد ذلك فليتنافس المتنافسون. • تسعى بعض وسائل الإعلام إلى حصر العمل السياسي في الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس، في حين أن اليوم هناك الجبهة الشعبية، التي تقدم نفسها كخيار أول، إلى جانب تشكل قوة رابعة ممثلة في الحزب الجمهوري والمسار، فأين يرى الاتحاد نفسه بين هذه الخيارات؟ فيما يخص ما تروج له وسائل الإعلام من الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة من جهة وحركة نداء تونس من جهة ثانية، هناك اليوم تجمع الأحزاب اليسارية في إطار الجبهة الشعبية وهي ستغير الخارطة السياسية، وهناك تقارب بين الحزب الجمهوري والمسار، وهناك عديد النقاشات بين أكثر من حزب، وان تقاربت فإننا سنشهد وجود أكثر من قطبين، وشخصيا لست مقتنعا بوجود استقطاب ثنائي فقط، لان المشهد السياسي عموما يعيش حالة مخاض كبرى، وستحسم هذه التكتلات والأقطاب السياسية عندما تتحدد رزنامة الانتخابات القادمة. نحن في الاتحاد العام التونسي للشغل مستقلون عن كل الأحزاب ونقف نفس المسافة من كل الأحزاب السياسية. صحيح أن الشأن السياسي يعنينا ولكن عندما يصير الأمر يهدد استقلاليتنا فان كل الحساسيات السياسية وكل التوجهات الموجودة داخل الاتحاد تنصهر مع بعضها البعض في الصف النقابي، لان كل نقابي مسؤول يعرف الخطوط الحمر بين نضاله النقابي وانتمائه السياسي. نحن في الاتحاد يهمنا أن تنتهي حالة التشرذم بين الأحزاب الصغيرة التي تجمعها رؤى وأفكار مشتركة ولكنها مشتتة، لان ذلك يمنح الفرصة ليكون هناك تنافس حقيقي وأيضا نضج سياسي في البلاد، وتكفينا الأصوات الضائعة في انتخابات 23 أكتوبر الفارطة لنعرف حجم الضرر الذي يحدثه تشتت الأحزاب. الفسيفساء السياسية الموجودة في البلاد اليوم هي نفسها تقريبا موجودة في الاتحاد وبالتالي لا يمكننا أن نقول بان الاتحاد يجد نفسه مع هذا الطرف أو ذاك وهو أمر محسوم لان هياكلنا تنضبط لاستقلالية المنظمة ولكن هم أيضا أحرار في اختيار هذا الحزب أو ذاك التكتل. المشروع الاقتصادي والاجتماعي، وفي إطار منوال التنمية الذي يعده الاتحاد وينسجم مع مبادئه وثوابته ومثلما نادت به الثورة التي قامت في تونس، هذا المشروع هو الذي يجعل إمكانات التفاهم واردة مع أي حزب يحترم مشروعنا الاقتصادي والاجتماعي ويسعى إلى تطبيقه في ارض الواقع، ولكن معلوم أن الحزب الذي يمسك بزمام السلطة تتغير مواقفه، ولا أخفي سرا إن قلت أن بعض الأحزاب الموجودة اليوم في السلطة كانت علاقتنا بها جيدة لكن بمجردة أن اعتلت سدة الحكم غيرت طريقة تعاملها، وإذا تحولت الأحزاب الموجودة اليوم من السلطة إلى المعارضة فسيصيرون أحبابا للاتحاد. هذا الأمر لا يغرينا ولا يدفعنا لاختلاق نعرة داخل الاتحاد لصالح هذا التوجه أو ذاك ولذلك من المستحيل أن نقرر مساندة هذا الطرف على حساب طرف آخر أو نلزم النقابيين باختيار هذا الحزب أو ذاك الحزب، حتى لو طرح حزب ما مشروعنا الخاص في الاتحاد فلن نلزم نقابي أو نقابية به لان هذه مسألة تبقى شخصية.

2012/10/04

مملكة النمل لشوقي الماجري: الوجع الفلسطيني... لا تحت الارض ولا فوقها...

ناجي الخشناوي اعتبر المخرج التونسي شوقي الماجري أن فيلمه الأخير "مملكة النمل" "أهم فيلم انجزه به لأنه عاش معه فترة من الزمن (الفيلم مكتوب منذ ما يزيد على السبع سنوات)... وأجمل "غايته" من هذا الفيلم في تسليط الضوء على "حق الدفن وحق الحياة" بعيدا عن الجوانب السياسية للقضية الفلسطينية... مثلت القضية الفلسطينية المحور الرئيسي لأكثر من 276 فيلما سينمائيا لمخرجين فلسطينيين، إلى حدود سنة 2001، واختلفت الكتابة السينمائية لقضية شعب الشتات من السمات الثورية والتحريضية المباشرة، إلى سمة التأمل والإفصاح عن حال الفلسطيني بلغة شاعرية لم تغفل رصد قسوة الاحتلال وبشاعته بعين فلسطينية. ثم كانت السينما العربية عموما "شحيحة" في تطرقها إلى القضية الفلسطينية باعتبار طبيعة الأنظمة الحاكمة التابعة التي تتجنب مواجهة الكيان الصهيوني ولو ثقافيا، إلى أن بدأت الأصابع المتمردة والعدسات المتوثبة ترصد علاقة الأنا الفلسطيني بالآخر "الصهيوني" بعيون ليست فلسطينية، فكان فيلم " من نحن؟" للمخرج المصري توفيق صالح فيلم (1960) أول فيلم تسجيلي طويل يقدم ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين مستعرضاً قضيتهم السياسية والاجتماعية... لتتناسل عشرات الأعمال السينمائية العربية عن القضية الفلسطينية لعل ما يعلق بذاكرتنا منها "فتاة من فلسطين" و"أرض السلام" و"طريق الأبطال" و"صراع الجبابرة" و"الفدائيون" و"أجراس العودة" و"ناجي العلي" و"رجال تحت الشمس" و"المخاض" و"الميلاد" و"مائة وجه ليوم واحد" و"كفر قاسم" و"الأبطال يولدون مرتين" و"قمران وزيتونة" و"أيام الضجر"، و"أحلام المدينة" و"الليل" و"شيء ما يحترق" و"رؤى حالمة" و"بوابة الجنة"... ويبقى فيلم يسرى نصر الله "باب الشمس" من بين أهم الأفلام "المرجعية" للقضية الفلسطينية وأضخم عمل (يدوم قرابة 4 ساعات و38 دقيقة) ... وأخيرا وليس آخرا يأتي فيلم المخرج التونسي شوقي الماجري بعنوان "مملكة النمل"، الذي بدأ عرضه في تونس بداية من يوم الأربعاء 3 أكتوبر 2012 بقاعات السينما (المونديال، البرناص، اميلكار المنار، مدار قرطاج، الحمراء بالمرسى) والذي جمع كل من الممثلة صبا مبارك (جليلة)، ومنذر رياحنة (طارق)، وجميل عواد (أبو النمل)، وعابد الفهد (الضابط)، صباح بوزويتة (دلال) وخالد شنير (الطفل محمّد)... ولئن طرح شوقي الماجري القضية الفلسطينية من خلال العمل الدرامي الضخم "الاجتياح" (2007) إلا أن فيلم "مملكة النمل" له نمطه الخاص ورؤية مخرجه المخصوصة للقضية الفلسطينية من زاوية الكتابة السينمائية التي تختلف عن الكتابة الدرامية، ويبرز فيه شوقي الماجري "نفسه وذاته وعينه دون غيره"، ولكن كل هذا لم يجعل الفيلم بعيدا عن الفلك العام وسياق الصراع الفلسطيني الصهيوني القائم على صياغة ميلودرامية لحكاية وطن بلا جيش اغتصبه جيش بلا وطن... ولقصص "امرأة كانت تسمى فلسطين... وصارت تسمى فلسطين..."... لتكون الذاكرة، معطوبة كانت أو متوثبة، "ملكَةَ" المملكة السينمائية التي رمى شوقي الماجري بأطرافها من تخوم السواد إلى ما لانهاية من الوتر الجنائزي... في الفيلم تنقلب معادلة الموت والحياة، حيث تصير الحياة متوهجة تحت الأرض، في حين يتطاول الموت على كل من يروم الحياة فوق الأرض... وتضعنا الشخصيات والأحداث في سياقين يبدوان متباعدين في الظاهر في حين أنهما "مكملان" لبعضهما البعض، فهدوء عالم ما تحت الأرض والضوء المنهمر على قصص العشق التي لا تقضم التفاحة إلا لتنبت شجرة ليس إلا عالما متوازيا مع عنف وصخب عالم ما فوق الأرض حيث أزيز الطائرات وصوت البنادق والمدافع... هي ذي المعادلة الوجودية لمملكة النمل: حياة فموت فحياة... تماما كتلك التي صاغها محمود درويش عندما كتب ساخرا من العدو الصهيوني "هل تعرفون القتلى جميعا والذين سيولدون... سيولدون تحت الشّجر وسيولدون تحت المطر وسيولدون من الحجر..." غير أن هذه المعادلة الوجودية جعلت نسق السيناريو وإيقاع الفيلم الداخلي يؤثران بشكل السلبي على عملية "التقطيع المشهدي" الذي كان مباغتا وسريعا في اغلبه ولم يترك للمتقبل فرصة "التماهي" مع الحكاية، ورغم الإطالة المجانية لبعض المشاهد خاصة تحت الأرض، إلا أن المخرج لم يُمكّن المتفرج من فرصة التخلص من "الهزات"المباغتة في نسق الحكاية الرئيسية للفيلم ليتابع حكاية ثانوية، خاصة أن الحكايات الثانوية أو الجانبية هي التي ترفد الحكاية الرئيسية لأي فيلم روائي طويل، وربما ما أمّن الخيط الناظم بين هذه المشاهد المقطعة، وجعلها تقترب من بعضها البعض، ذاك الإحكام اللامتناهي على مستوى الإضاءة، فالإضاءة في هذا الفيلم، وان بدت شديدة القتامة لا تستقيم إلا مع اللون الأسود أو الإنارة الخافتة وفي بعض الأحيان تشقها بهرة ضوء تنسكب من سماء الحب على مغارة الولادة، رغم ذلك فقد كانت الإضاءة نصا مكتملا بمفردها بما أضفته من جمالية إخراجية حتى يُخيّل إلى المتفرج أن بعض المشاهد قد كُتبت بالضوء... أليس الضوء قصيدة؟... وكذا كان دور الموسيقى التي رافقت المشاهد في هدوئها تارة وصخبها طورا، إذ كانت الموسيقى التي أعدها وليد الهشيم بمثابة الدليل اللامرئي أو الجواز المعنوي للاقتراب من باطن الشخصيات وتفاصيل المشاهد، وقد كانت في أغلبها موسيقى جنائزية وهو اختيار موفق، لان هذا النمط الموسيقي يتكئ على الماضي ليفتح أفق الحاضر والمستقبل، ويشحن المتقبل بطاقة إضافية، خاصة أن اللحظات المأتمية في الفيلم لم تكن الطاغية، وان بدت للعيان كذلك، لأن الكآبة لم تكن سوى جسر خارجي لإيصالنا إلى "الفرح" الكامن في كل شخصية في الفيلم... بما فيهم الشيخ (أبو النمل)... وكل مشاعر الحزن والخوف كلها كانت تخدم سياق الحياة إن فوق الأرض أو تحتها... تماما مثل حركة الممثلين التي بدت ثقيلة طول زمن الفيلم، حتى في لحظات الصراع المباشر بين الفلسطينيين والصهاينة، إلا أنها في العمق كانت هي الأخرى ترفد معنى الحياة في الصبر والتأني... "مملكة النمل" عمل سينمائي يؤجج الوجع الفلسطيني دون أن يسقط في التوثيق والتأريخ، لكن الإفراط في النوستالجيا وتواتر "الكليشيهات" المستعملة في السياق الإبداعي عموما للقضية الفلسطينية قد تجعل من الفيلم يفقد جزءا كبيرا من أن يكون إضافة نوعية للسينما العربية الهادفة، فالتيمات الرمزية المستخدمة في الفيلم من قبيل التفاحة والقمر والماء والشجرة الهرمة التي يُفتتح بها الفيلم جميعها تقريبا تم توظيفها في أعمال سينمائية سابقة... إلى جانب الصورة النمطية لأرملة الشهيد وللفلسطيني اليتيم الذي يولد ويعيش ويستشهد دون أن يعرف والديه... إلا أن ما "يشفع" لشوقي الماجري وجود هذه "الهنات" هو إيمانه، الذي عبر عنه في احد الحوارات الصحافية، عندما قال "القضية الفلسطينية أكبر بكثير من أن يلخصها فيلم أو مسلسل، كما أن هذه القضية لم تنته بعد لذلك يصعب علينا اختزالها في أي عمل فني." هي إشارات أولية بعد مشاهدة أولى لفيلم "مملكة النمل" لشوقي الماجري، الأكيد أنها ستكون فاتحة لقراءات قادمة بعد المشاهدة الثانية وربما الثالثة، لأن فيلم "مملكة النمل" يستحق المشاهدة أكثر من مرة.

من يتعلّم النضال ينسى العبودية

مهدى إلى ابن ساحات النضال الفقيد لطفي الحيدري
من لا يملك إرادة الموت لا يمكنه أن يملك إرادة الحياة، لأننا نحيا مع الموت في كل لحظة ولا نموت للحظة واحدة، والمهمة المتواصلة لحياتنا هي أن نبني صرح الموت الذي لا مناص منه، إذ بقدر ما يتعين علينا أن نعزو لحياتنا شكلا من أشكال الوعي، فإنه ينبغي علينا أيضا أن نعزو ـ لحياتنا ـ ضربا من اليقين الحدسي بالموت الذي قد يكون شرّا يترصدنا في كل منعطف ولكنه حتما ليس أمرا عبثيا لا تسوّره حكمة ما، وموت "ارنستو تشي غيفارا" لم يكن موتا عبثيا ولا موتا نهائيا، فقط اضطر للمغادرة والرحيل إلى جبهة قتال جديدة لان الثورة لا تنتظر أحدا،كما كان دائما يقول كلّما كان على أهبة مهمّة ثورية جديدة. لقد حمل سلاحه ودّس في حقيبته الظهرية، كتابات ماركس وإنجلز ولينين وأشعار بابلو نيرودا وخوسي مارتي وروايات همنجواي ولم ينسَ اضمامة الأوراق والأقلام ليكتب "يومياتي في بوليفيا" و"حرب الأنصار" و"لمحات من الحرب الثورية" وأيضا ليدوّن رسائله الحميميّة لزوجته وأبناءه وإلى رفاق الجبهات، فالفكر عنده لم يكن يوما معزولا عن الثورة أو العاصفة، والموت ليس بمنأى عن الحياة ولهذا ظل "تشي" حيّا بين المقاومين في كل أرجاء العالم ولم يكن موته المادي إلا مولدا إلى رحاب أوسع، فمن شهر السلاح مرة واحدة في وجه الامبرياليّة لا يمكن أن يُسقطه من يده أبدا و"تشي" لم يستسلم ولم يُلق السّلاح بعدُ لأنه لا يزال يُطلق رصاصه على الامبرياليّة والصّهيونية في القدس وجنين ونابلس ورام الله والضفة الغربية وقطاع غزة وفي بغداد والفلّوجة وكربلاء والبصرة وفي حمص وحلب وادلب ودمشق... وإن مات "تشي" الأرجنتيني فإن في العالم مليون "تشي" فلسطيني وعراقي ولبناني واسباني وإفريقي وآسيوي" وحال كل مقاوم يذكر في دخيلته قول "غيفارا":" لن نحقق العدالة بالابتهال والتضرّع والتعاويذ،على الشعب أن يقوم بمهمة واحدة هي النضال." ولا ينسى أيضا دقة كلام خوسي مارتي وتفاؤله الشديد عندما قال:"إن جوهر المسألة لا يكمن في كم من السّلاح تملك في يديك بل كم نجمة في السماء تريد أن تصطاد."وعدوى التفاؤل هذه صارت تسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية اليوم فأبناء الحجارة وأحفاد الرّصافة لا يملكون ترسانات من الأسلحة وقرارات أممية وتواطئا عربيا وإنما يمسكون حجرا بيد ونجمة بيد أخرى، باسقين كشجر النخيل في العراق، لأن الثوري ليس مسموحا له أن ينهار فنهوضه يساوي نهوض العالم وان مات فوقوفا لا ركوعا. هذا هو "إرنستو تشي غيفارا"يقتسم الخبز والحلم مع الفقراء ويطلق الرصاص على اليانكي، رحل ولم يترك لأبنائه أية ممتلكات بل انه ائتمنهم عند الدولة لإيمانه الرّاسخ بأن الثورة تضمن لهم الحياة والتعليم هذا هو ارنستو تشيغيفارا الذي سيحتفل كل مناضل حر وتقدمي بذكرى وفاته/حياته يوم غد الاحد 7 أكتوبر

2012/10/03

مادام الذكاء مقتصرا على الحركتين فالغباء نعمة

لا يختلف عاقلان على إن الاصطفاف السياسي والحزبي تحديدا لا يخضع لمنطق الذكاء أو الغباء بقدر ما ينبع من القناعة الشخصية والمبدئية لكل فرد يروم التموقع داخل هذا الحزب أو ذاك التنظيم، ولم يعد خافيا اليوم أننا بتنا نعيش حالة من "الخطف" الممنهج للأفراد وحتى للجماعات ودفعهم للاصطفاف والوقوف خلف هذا الزعيم أو ذاك، وبدأت حالة الخطف تدفع المشهد السياسي برمته نحو الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة والإسلاميين عموما من جهة، وحركة نداء تونس والليبراليين عموما من جهة ثانية، وطبعا من تخلف عن هذين الاتجاهين قد يُنعت بالغباء والتكلس السياسي، وكأن لا خيار لهذا الشعب إلا أن يكون إما مع السيئ أو مع الاسوإ منه... والغريب أن من لا ينتمي لحركة النهضة فهو من أعداء الثورة أو من أزلام النظام البائد أو من جماعة "صفر فاصل" وجماعة "عنقني"، ومن لا ينتمي إلى حركة نداء تونس فهو رجعي وظلامي أي مع حركة النهضة وليس حداثيا... أتذكر هنا قولا للكاتب الانكليزي كولن ولسون حيث يقول "إن اللامنتمي إنسان لا يستطيعُ الحياة في عالم البرجوازيين المريح المنعزل، أو قبول ما يراهُ ويلمسهُ في الواقع.. (انه يرى أكثر وأعمق من اللازم). إن البرجوازي يرى العالم مكاناً منظماً تنظيماً جوهرياً يوجد فيه عنصر مقلق مرعب غير متعقل، أما اللامنتمي فانه يرى العالم معقولا ولا يراهُ منظماً، وحين يقذف بمعاني الفوضوية في وجه دعة البرجوازي، فليس لأنه يشعر بالرغبة في قذف معاني الاحترام بإهانة لإثارتها، وإنما لأنه يحس بشعور يبعث على الكآبه، شعور بأن الحقيقة يجب أن تُقال مهما كلف الأمر، وإلا فلن يكون الإصلاح ممكنا... بل وان هذه الحقيقة يجب أن تُقال حتى إذا لم يكن هنالك أمل ما. الأمل الذي ماتت لأجله أجيال وتتوق له أجيال أخرى، يظل دوما رهينا بقول "الحقيقة"، تلك التي لا تتطلب مجهودا أسطوريا للاصداح بها، ويكفي اليوم أن يتعقل "الرهائن السياسيين" الذين وقع "اختطافهم" بإرادتهم وباختيارهم، حتى لا نقول بانتهازيتهم أو بخوفهم أو بطمعهم أو بتملقهم... يكفي أن يتعقلوا وينأوا قليلا بأنفسهم عن الصخب والضجيج المتعالي من "الحركتين" ويلوذوا بأنفسهم إلى نقاء داخلي علهم يتجاوزون النظر أمام أنوفهم ويتمكنوا من التفكير بشكل أبعد وأعمق لأن "تكرير" الاستبداد وإعادة إنتاج الفساد ليس بعيدا لا عن حركة النهضة ولا عن حركة نداء تونس... إلى الصديق الذي كتب تعليقا على صفحتي بالفايس بوك يقول فيه "إن اليسار التونسي مختص كالعادة في الغباء" أهديه هذه الأسطر وأقول له ما دام الذكاء مقتصرا على حركة النهضة أو حركة نداء تونس فإن الغباء في هذه الحالة يصير نعمة... ووحده الغبي من يفرّط في نعمة هو فيها.

2012/09/24

حوار مع المناضل النقابي عدنان الحاجي:

السلطة واهمة إذا ما صدّقت أنها نجحت في إخماد الاحتجاجات الاجتماعية ناجي الخشناوي في ضيافتنا هذا الأسبوع المناضل النقابي عدنان الحاجي الذي عرف بنضالية أوصلته في سنوات الجمر إلى السجون لكنه لم يسكت ولم تبحّ له حنجرة ولا يمكن أن نتصور أنّ يصمت خاصة عند المحطات السياسية والاجتماعية الكبرى... دعوناه ضيفا في جريدتنا هذا الأسبوع ليطلع القراء على الوضع بالمناجم حيث لم يكن متفائلا إذ أكد أن شركة فسفاط قفصة ستمرّ سنة 2014 بعجز عن تصدير الفسفاط وقال إن السلطة الحاكمة واهمة إذا ما صدقت أنها نجحت في إخماد الاحتجاجات الاجتماعية.. بدا متشائما عندما قال قد يكون يوم 23 أكتوبر شبيها بيوم 14 جانفي 2011. عدنان كان لابد أن يتحدّث عن الاتحاد وعن مبادرته ولم يخجله القول إنها جاءت متأخرة وقال مازال بإمكان الاتحاد أن يلعب دوره. لنبدأ هذا الحوار من النتائج النهائية للانتدابات بشركة فسفاط قفصة؟ ـ النتائج النهائية لمناظرة انتداب عمال بشركة فسفاط قفصة اعتقد أنها نجحت في خلق حالة من الارتخاء واليأس في نفوس المعطلين عن العمل بالمنطقة باعتبار أنها المرة الثالثة التي تصدر فيها هذه النتائج ثم تقع مراجعتها. يبقى الأمر المهمّ هو أن المقاييس التي وقع على أساسها الانتداب لم يقع الاتفاق عليها مع ممثلي جهة الحوض المنجمي من نقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ولذلك بقيت هذه المقاييس غامضة وغير مفهومة إلى حد الساعة وفيها الكثير من الحيف والظلم الذي لحق بعض المعطلين ممن شاركوا في هذه المناظرة. القضية ليست في عدد الانتدابات بل في أسس الانتداب التي تفتقد إلى شروط الشفافية والموضوعية وأعتقد أن القضية في الحوض المنجمي في علاقة بهذا المطلب تحديدا تتجاوز هذه المسألة إلى عديد الإشكالات والتي تتطلب حلاً مستعجلاً، بصورة أوضح تمّ اختزال قضايا منطقة الحوض المنجمي في انتداب بضع مئات من المعطلين في شركة قفصة بينما كانت اتفاقاتنا الأولى مع الرئيس المدير العام لشركة فسفاط قفصة منذ ماي 2011 تنصّ على توفير كل مقومات الحلول الجذرية للمنطقة غير أن هذه الحكومة تراجعت وتنصلت من هذه الالتزامات. هل نذكّر القراء بأهم مطالب أبناء الحوض المنجمي؟ ـ أريد أن أوضح أن مطالبنا ليست متعلقة بالتنمية الشاملة والمستديمة لأننا نعلم أن التنمية الشاملة تتطلب عقودًا من الزمن وحوارًا وطنيّا جادًا، ولكن ما أريد أن أشير إليه هو تلك المطالب الخصوصية للحوض المنجمي وفي اعتقادنا أن تحقيق هذه المطالب سيوفرّ بالضرورة الاستقرار والأمن وللتذكير هذه المطالب يمكن إجمالها في ما يلي: شركة فسفاط قفصة لابد من تأهيلها وتجديد أسطولها وأدوات عملها والعمل على زيادة طاقة إنتاجها من أجل توفير مواطن شغل أكثر لاستيعاب اكبر عدد من المعطلين لأن نسبة الانتدابات الحالية هو ليس زيادة في عدد العمال بل هو تعويض لنسبة من عدد العمال الذين تم تسريحهم في إطار التقاعد لمدة خمس سنوات 2011 إلى 2015. وبالتالي سنجد أنفسنا في المستقبل المنظور نعود إلى نفس النقطة والأزمة، وعندما نطالب بتأهيل الشركة فهذا بالرجوع إلى الإحصائيات والأرقام بشركة قفصة التي ستجعلها سنة 2014 عاجزة عن تصدير مادة الفسفاط. أيضا تفعيل دور الشركة في محيطها أي أن الشركة تتحمّل مسؤولية أخلاقية وقانونية عن التلوث البيئي واهتراء البنية الأساسية وتدني الوضع الصحي للأهالي لذلك نرى لزامًا على هذه الشركة أن تساهم ماديا في إصلاح هذه الأوضاع. كذلك تتحمل الشركة مسؤولية أخلاقية إزاء عائلات ضحايا الشغل ممّن تعرضوا إلى حوادث خطيرة نجمت عنها إعاقات دائمة وعليها أن تكافئ عائلات هؤلاء الضحايا بانتداب شخص على الأقل من كل عائلة. أيضا تتحمل الشركة مسؤولية المتقاعدين الذين سُرّحوا قبل سنة 1986 والذين تراوحت مدة عملهم بين 30 و40 سنة ومازالوا إلى اليوم يتقاضون أجورًا أقل من الأجر الأدنى الصناعي أو الذين أحيلوا على عدم المباشرة في 1986 إلى سنة 2000 والذين تعرضوا إلى مظالم كبيرة في احتساب أجورهم وهم إلى اليوم يطالبون بحقوقهم ونذكر بان هذه الاتفاقية أبرمت بين الشركة و«الشرفاء» سنة 1986 بعد ضرب القيادة الشرعية للاتحاد العام التونسي للشغل. أيضا بالنسبة إلى الفلاحين الذين تضرّرت أراضيهم جراء نشاطات الشركة والمعمل الكيمياوي بالمظيلة نرى أنّه لزامًا على الشركة تعويض هذه الأضرار. وأخيرا نحن نطالب بتخصيص نسبة من أرباح الشركة للتنمية بالمنطقة وهذا ما التزمت به فعلاً إدارة شركة قفصة وأقرّه مجلس إدارتها وذلك بتخصيص 400 مليار دفعة واحدة بعنوان 2006 / 2011 لإنجاز بعض المشاريع بالمنطقة على سبيل المثال إحداث بنك تجاري لتمويل المشاريع الصغرى وقد أنجزت دراسته ورصدت له الأموال وكذلك تهيئة 10 مناطق سقوية بمنطقة الحوض المنجمي وانجاز معمل اسمنت بمنطقة «تابديت» التابعة للرديف وغيرها إلا أن الحكومة الحالة تنكرت لهذا الاتفاق ونذكر على سبيل المثال أن نَصيب الرديف لوحدها في هذا الاتفاق توفير ألف (1000) موطن شغل مباشرة مقسمة كالآتي: 454 انتداب بالشركة و200 بشركة البيئة والغراسة و300 بمعمل الاسمنت المزعوم و46 انتداب من عائلات ضحايا الشغل وعليه قبلنا هذا الاتفاق وأمام تراجع الحكومة لم نحصل إلا على الانتدابات بالشركة فقط، ولو نُفِّذ هذا الاتفاق لحلّ المشكل من أساسه ومن بين المطالب الرئيسية هو الاعتراف بجميع حقوق عائلات الشهداء والجرحى واعتبارهم ضمن شهداء الثورة وتمكينهم من فرص العمل. في حوار سابق أدلى لنا وزير الشؤون الاجتماعية خليل الزاوية بتصريح مفاده أن يوم 31 ديسمبر سينطلق العمل الفعلي لشركات البيئة فهل هناك من المؤشرات ما يدل على الشروع في هذه الخطوة؟ ـ أوّلا لابد من الإشارة إلى أنّه ومنذ تأسيس شركات البيئة على أنقاض شركات المناولة سابقا وعمّالها يتقاضون أجورًا من أموال المجموعة العمومية دون انجاز أي عمل يُذكر وعددهم كان في البداية 2700 عامل أي بجملة أجور شهريا بما قيمتها مليار ومائة مليون، والإشكال في كل هذا أن هؤلاء العمّال يطالبون بوضع الأسس القانونية لهذه الشركات وتوضيح العلاقة الشغلية بينهم وبين مشغلهم وهذا من حقهم طبعًا، وقد طالبنا الحكومة بالتعجيل في التفاوض في هذا الموضوع وصرف العمال إلى العمل إلا أنها بقيت تُماطل وهناك إشكال آخر يتمثل في تمثيلية العمال في التفاوض من خلال ما سمي بالنقابات المؤقتة ولا أعتقد أن المشكل القائم قد حُلًّ بمجرّد إبرام اتفاقية بزيادة 50 دينارا شهريا وبالتالي لا أعتقد أن الأمور ستهدأ داخل هذه الشركات، وأتساءل هنا عن مبرّر تحديد نهاية ديسمبر موعدًا لانطلاق العمل بهذه الشركات. هل يُنذر هذا الوضع بعودة الاحتجاجات الاجتماعية؟ ـ اعتقد أن الاحتجاجات لم تخمد وان كانت في الوقت الراهن هادئة فإن ذلك يعود إلى المؤسسات وغياب ممثلي السلطة في الجهة والاحتجاج حاليا كمن يصرخ في الصحراء واعتقد أن السلطة واهمة إذا ما صدّقت أنها نجحت في إنهاء الاحتجاجات الاجتماعية بالحوض المنجمي واعتقد أن اليوم في الحوض المنجمي أنه بمجرّد عودة هذه السلطة السياسية والأمنية ستعود الانتفاضة من جديد وهذا المشكل لابد للحكومة من التفكير فيه بجديّة وتحمل مسؤوليتها في معالجة جُذور القضايا بالمنطقة. ماذا تعني بغياب السلطة السياسية والأمنية؟ ـ حاليا في الرديف لا يوجد المعتمد ولا العُمد ولا النيابة الخصوصية ولا رجال الأمن ما عدا بعض العناصر أصيلي المعتمدية الذين يقومون بعمل إداري بَحْت، كذلك أم العرايس تفتقد إلى الأمن ونيابة خصوصية ممثلة لأن النيابة الحالية تم تنصيبها من قِبل حركة النهضة ودون توافق أما المتلوي فهي على كفّ عفريت. ثمّ إنّ الوالي منذ تنصيبه على رأس ولاية قفصة لم يحلّ أية مشكلة وقد دأب على التعامل مع عناصر حركة النهضة في الجهة فقط ويعمدُ إلى التسويف والوعود الكاذبة وهو في نظري غير قادر وليست له الكفاءة المطلوبة بإدارة جهة مثل ولاية قفصة ورغم انتمائه إلى حركة النهضة فلم يُعرف عنه خوض غمار السياسة أو المشاركة الفعالة في الحياة العامة طوال إقامته بالجهة. على ذكر حركة النهضة والسلطة السياسية، اليوم نحن على مقربة من انتهاء الشرعية الدستورية والانتخابية (23 أكتوبر) وهي المسألة التي قد تؤجّج الوضع من جديد، كيف ترون هذا التجاذب بين الأطراف السياسية وما مدى انعكاسه على الوضع العام؟ ـ مما لا شك فيه أن يوم 23 أكتوبر هو تاريخ مفصلي لانتهاء الشرعية الانتخابية المزعومة التي طالما تغنت بها حركة النهضة لتبرير سياستها وأحيل القراء على المرسوم الرئاسي الداعي الشعب التونسي إلى انتخاب مجلس وطني تأسيس مدّته سنة واحدة وكذلك إلى الالتزام الأخلاقي والسياسي لبعض الأحزاب منها حركة النهضة والتكتل الذين أمضوا بيان 15 سبتمبر 2011 والذي التزمت فيه الأطراف الممضية بان تكون مدة المجلس سنة لا أكثر، وإذا كانت حركة النهضة اليوم تتعلّل بان القانون المؤقت المنظم للسلطات قد جبّ ما قبله أي المرسوم والالتزام والبيان فإن هذا عذرٌ أقبح من ذنب إذ أنها تعمّدت منذ مناقشة القانون المؤقت الانقلاب على التزاماتها السياسية ولم تدافع عنها وهي الكتلة الأقوى في المجلس فيوم 23 أكتوبر سيكون منعرجًا خطيرًا في تاريخ ما بعد الثورة ولابد من التفكير جدّيا في إيجاد الحل المناسب من أجل تجنب الفراغ وأعتقد حسب رأيي أن الحل الوحيد يكمن في حل هذه الحكومة وتعيين حكومة تكنوقراط لتصريف شؤون البلاد مع تحديد موعد للانتخاب لا يزيد عن الستة أشهر والالتزام بذلك لأن يوم 23 أكتوبر قد يكون يومًا مشابها ليوم 14 جانفي إذا ما تواصل التعنّت. ولكن اليوم هناك تمشٍّ نحو تشكيل حكومة ائتلاف وطني؟ ـ من الآن والى توسيع الائتلاف الحاكم اعتبر أن المشاورات اليوم هي خطوة استباقية من حركة النهضة لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة ولكن هذه المناورة لا يمكن لها أن تدرأ المقروء باعتبار أن انتهاء الشرعية الانتخابية لا تعني الحكومة فقط بل المجلس التأسيسي برمته الذي فشل في الالتزام بالمدة النيابية المحدّدة وعليه فان استمالة بعض الأطراف ومحاولة تشريكها في اقتسام غنيمة الحكم لا يمكن إلا أن يزيد في تأجيج الغضب وعزل كل من تسوّل له نفسه المشاركة في هذه اللعبة وأقصد بالتحديد حركة نداء تونس التي ربما وحسب تصريحات قياداتها قد تتحول من منافس حقيقي وجدّي لحركة النهضة إلى شريك فعلي ومتآمر على الشعب إذا قبل بالمشاركة في ما يسمى بحكومة الائتلاف الوطني. ففي ظلّ وجود أكثر من مائة حزب لا يمكن الحديث عن حكومة ائتلاف وطني. ألا ترى أن الوقت الراهن يفرض بقوة المبادرة الوطنية التي طرحها الاتحاد العام التونسي للشغل لفتح حوار جدي وعميق بين كل مكونات المجتمع المدني؟ ـ مبادرة الاتحاد أود أن أشير إلى أنها جاءت متأخرة وأعتقد أن مبادرة الاتحاد لا يمكن الحديث عنها اليوم باعتبار اقتراب موعد انتهاء الشرعية الانتخابية ورغم النقاط الايجابية في المبادرة إلا انه لا يمكن الجمع بين الذئب والقطيع فما تضمنته هذه المبادرة من نقاط أساسية لابد من التوافق حولها فإن هذه المحاور فيها اختلاف كبير وجذري مع حركة النهضة ولو لم يكن هذا الاختلاف لما وجدنا أنفسنا اليوم في هذا الوضع الخطير حسب رأيي، فالاتحاد إذا كان له من دور لابد أن يلعبه في كبح جماح هذا الائتلاف الحاكم ولعب دور كبير لخلق توازن اجتماعي يضمن الحقوق الدنيا للشعب التونسي وأنا أستغرب عندما نرى لافتة في تجمع نهضوي بالقصبة كتب عليها «إلى متى صمت الحكومة على عصابات التجمع والاتحاد» بينما قيادة الاتحاد تمرّ على ذلك دون تعليق فهذه الترويكا الحاكمة التي يريد الاتحاد من خلال مبادرته إيجاد توافقات معها يسعى طرفها الرئيسي (حركة النهضة) إلى ضرب الاتحاد والتحامل عليه واعتباره عدوًا رئيسيّا للشعب والوطن. وأدعو الاتحاد إلى أن يكون محورا رئيسيا في مبادرة عملية تضمن الاستقرار في مرحلة ما بعد 23 أكتوبر وعليه كذلك أن يُعلن انحيازه بوضوح للكتلة الديمقراطية في البلاد. في علاقة بالكتلة الديمقراطية طالبت مؤخرًا باستقالة وزير الداخلية على خلفية تدهور الوضع الأمني خاصة بعد اقتحام السفارة الأمريكية فكيف ترون هذه المطالبة وكيف تقيمون المد السلفي في البلاد؟ ـ وزير الداخلية هو جزء من هذه الحكومة التي فشلت فشلا ذريعًا في كل خياراتها بالنسبة إلى هذه المرحلة وقد لمس الشعب التونسي زيف وكذب برنامجها الانتخابي ونحن نلاحظ في كل جهات البلاد غضبًا شعبيا عارمًا ضد حكومة الترويكا ووزير الداخلية باعتباره وزيرًا في هذه الحكومة فقد باءت سياسته الأمنية بالفشل وخاصة في ظلّ غياب إصلاح جذري وجدّي لأجهزة هذه الوزارة، فالبوليس السياسي مازال يعمل إلى اليوم والممارسات والملاحقات والتتبعات للنشطاء مازالت كما في السابق والعناصر الفاسدة داخل الوزارة والتي لعبت أدوارا قذرة ضد المناضلين مازالت إلى اليوم تنعم بالحرية ولا أدلّ على ذلك من الخلافات المتكررة والمتفاقمة مع نقابات الأمن الذين يطالبون بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين فما كان من وزير الداخلية إلاّ أن أوقفهم عن العمل وزج بهم في السجن وقام بنقلهم إلى مناطق مختلفة وأذكر على سبيل المثال السيد عصام الدردوري الذي أثار قضية شابين من الرديف هاجرا خلسة إلى اسكتلندا في 2008 في باخرة فسفاط وماتا على متنها ووقع دفنهما في اسكتلندا ولم يقع إعلام عائلتيهما بتدبير من السلط الأمنية وإلى حد اليوم لم يقع فتح تحقيق في الموضوع ومازال المفقودان في عداد الأحياء ومسجّلين ببلدية الرديف وهما زهيّر بيّة ورفيقه وكذلك النقابي علي السلطاني بسلك الأمن الذي وقع إيقافه عن العمل لأسباب نقابية، أما السلفية فإن حركة النهضة ما فتئت تشجّعهم وتطلق أيديهم للوقوف ضد خصومها وهي المتسبب الرئيسي في تقوية شوكتهم بل سمحت لهم بالنشاط العلني رغم معاداتهم لمبادئ الجمهورية والديمقراطية وعدم اعترافهم بالنمط المجتمعي التونسي المتفق والمتوافق عليه. إن ما قام به هؤلاء يوم 14 سبتمبر أمام وداخل السفارة الأمريكية إنما هو نتاج طبيعي لسياسة النهضة المهادنة لهم وقد كان هذا الفعل منتظرًا نظرًا إلى غياب الحزم والصرامة في تطبيق القانون معهم. واعتقد أن الكثير من الوزراء كان لهم أن يستقيلوا من هذه الحكومة مثل وزير التربية خلال امتحان الباكالوريا في جوان الفارط وعلي العريض الذي اعترف بفشله في ضبط الأمن والاستقرار ولا أعتقد أن لديه ما سيضيفه في هذه الخطة وكذلك وزير التعليم العالي في أحداث منوبة وكذلك وزير الخارجية خاصة بعد فضيحة مركب لمبدوزا.. وأتساءل لماذا الكيل بمكيالين من قِبَل هذه الحكومة ووزرائها في علاقة باحتجاجات المعطلين عن العمل والمهمشين والمفقرين في حين يتم التغاضي عن العنف الممنهج والدعوات المتكررة إلى القتل من قبل بعض الأئمة...