بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/21

محنة التصفيق التونسية


تمثّل تلك الحَركة البَسيطَة المتمثّلة في ضَرب كَفّ بكَفّ تعبيرَة جسَديّة عن شُعور بالاستحسَان والرضَا والتأييد لفعل مُشاهد أو لقولٍ مسْموعٍ...
والتّصفيقُ ـ في تقديري ـ تعبيرَة نبيلَةٌ ورَاقيةٌ مقَارنَة بالهُتَاف والصّيَاح، وأعتَقد أنّ التَّصْفيق هو فنٌ قائم الذَّات له شُروط ومقَاييسٌ مضبُوطة تُلزمُ من وَجَد نفسَه في مَوْضع تصْفيق بالانضبَاط لهَا وتَطبيقهَا لتُضفي تنَاسقًا وانسجَامًا مَع الفعل المشَاهَد أو القَول المسْمُوع...
طبعًا تلكَ المقاييس والشُْروط والضّوابط ليسَت مُدوّنَةً في الدّسَاتير أو التّشريعَات والقَوانين، وإنّمَا هي نتَاجٌ لتَوافقٍ ومُوَاضَعَة بين النَْاس قد تجمَعهم مَسرحيّة مَا أو فلمًا سينمَائيًا.. أو قد يُدعُون للحضور في بَرنامَج تَلفَزي أو يَلتَقُون في مَدارج مَلعَب للريَاضَة أو في قَاعَة مؤتمَرات وغيرها من الأمَاكن العُمُوميّة...
غير أنّ فن التصفيق النبيل يبدو أنّه صَارَ مِحْنَةً تونسيّة بامتيَاز ـ وهو الذي جلبَه أحَد البَايَات من فرنسَا مثلمَا يُروَى ـ وصَار تعبيرَة هستيريّة تَتَجَلّى في أسوإ صورهَا خَاصة في قَاعَات السينمَا والمسَارح وضمنَ بَرامج التَْنشيط التي تقَدّمهَا الفَضَائيَْات التُْونسيّة... وبصورَة أفظَع في مَنَابر الخُطَب سَواءٌ منهَا السيَاسيّة أو الأدَبيّة...
وفي اشَارَات عَابرَة يمكن أن تَرصُدَ استفحَالَ هَذه المحنَة بشَكلهَا الهستيري من خلاَل أمثلَة مُكَرّرة يَوميّا، فَيكفي أن نَسأَلَ كَمْ من شَاعر ارتَبكَ أمَامَ جمهور لا يُجيدُ الانصَاتَ للمَجَاز بقَدر مَا يُجيد ضَربَ الأكفّ، ويَكفي أن نشَاهدَ جمهورَ قَاعَات السينمَا ـ الضئيل ـ يَنسَحب اثرَ انتهَاء العَرْض في صَمت من دون التصفيق عَلَى العَمَل الذي تَابَعَه تمَامًا مثلَمَا يحدث دَاخل الطائرَات التونسيّة التي لَم يَعد يَسمعُ طيّارُوهَا تَصفيقَ الركاب علَى سَلاَمَة الرحلَة.. ويَكفي أن نتَابعَ مَوجَات التّصفيق المجَاني وهي تَقطَع نَسَقَ المسرحيّات... وتلك الموجَات المجَانية واللاّمبرّرة نَقف عَلَى أشَدّ مَظَاهرهَا أثنَاء الخطًَب الحزبيّة التي يَزدَهر فيهَا سوق اللُْغَة الرّنانَة والتَّصفيق الجَيّاش اللَْذَان يَظَلاّن حَبيسَا الجُدُرَان البَاردَة والأعْلاَم البَاهتَة...
محْنَةُ التَْصْفيق التُّونُسيَّة تَتَجَلّى أيْضًا وبصُورَة «لا َأخلاَقيَّة» أثنَاءَ بَرامج التَْنشيط التَّلفَزي حَيثُ نتَابعُ استنفَارَ حَفنَة من الشَْابَات والشبّان للخَبْط بأكفهم عَلَى أتْفَه الملاَحَظَات من مُنَشّط لا يُتْقنُ تَصريفَ الأفعَال، وبالمثل يَشْحَذونَ همَمَهم ليُقَاطعُوا بالتصفيق فكرَةً مَا ينوي أن يُعبّر عنهَا ضَيف ذاكَ البَرنَامَج...
طَبعًا التَْصفيق ظَاهرَة كَونيّة ولاَ تَقتَصر عَلَى الشَْعب التُْونسي، ولَكن أعتَقد أنّنَا صرنَا الشعبَ الأكثَر تصفيقًا في العَالم، فنَحن نُصَفّق حَتّى عَلَى مَوتنَا اليَومي وعَلى انحدَارنَا الأخلاَقي، ولَن أبَالغ إن قلْتُ أن هُنَاك مَن هُو قَابعٌ الآن في بَيته يُتَابع برنَامَجًا تَنشيطيّا أو يُشَاهدُ خطبَةً ويَجدُ نَفْسَهُ يُصَفّق تلْقَائيّا ـ بَل ميكَانيكيَْا ـ وبكُل حَمَاسٍ!!!