بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/11/13

معرض قندهار للكتاب بالكرم

غربتنا "مكتسبات الحداثة"، ونأت بنا "الثورة التكنولوجية" عن كنه الحياة وسرها، فأدمنت أصابعنا الأزرار الباردة، وتعلقت أبصارنا بالشاشات المسطحة، وصرنا رهائن العلب الالكترونية نعاشرها آناء الليل وأطراف النهار... حتى صارت تفاصيلنا اليومية مضغوطة كالأقراص الليزرية، مهددة بالعدم والإتلاف بمجرد خدش بسيط... أو قل هي هويتنا وكينونتنا الإنسانية تلك التي باتت منذ زمن بعيد منذورة كل لحظة لأن تٌنخر بفيروسات الحداثة وما بعدها والصناعة وما بعدها والتكنولوجيا وما بعدها... انغمسنا كل في اللهث والركض الأرعن خلف آخر انتاجات التقنية، فزدنا على عبوديتنا عبودية جديدة للهواتف المحمولة، ولاقمات الأقراص (VCD/DVD/DVX/MP3/MP4/MP5) والهوائيات الرقمية والحواسيب الشعبية... وكل ما يٌشغل بآلة تحكم عن بعد... حتى صارت البيوت التونسية لا تختلف كثيرا عن المغازات الصغرى، تتوفر على كل "الأواني" والعلب الحديدية والبلاستيكية، وتفتقد حتى لاضمامة كتب لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة... المكتبة المنزلية، لم تعد من مشاغل التأثيث المنزلي لدى أغلب التونسيين والتونسيات، ولا أعني بالتأثيث، التوظيف الديكوري والتزويقي للمكتبة للتباهي بها، وإنما أقصد تأثيث العقل التونسي القادم بتوفير مسوغات العقلانية وتوفير الأرضية المعرفية... فالطفل الذي يكبر بين الكتب والمجلدات والمجلات والصحف، سيكون لا محالة محصنا من تلك الفيروسات الالكترونية، وسيكتسب تلك المناعة الدائمة من أي غزو أو اختراق من شأنه أن يهز كيانه ووجوده... طبعا أنا لست ضد استثمار مكتسبات الحداثة، ولست ضد التمتع بمزاياها المتطورة والناجعة رغم علاتها، ورغم فيروساتها الإيديولوجية بالأساس (أغلب الإحالات أو الإشارات المرسومة على التقنيات الحديثة، إما باللغة الأنقليزية أو باللغة العبرية)، قلت أني لست ضد التوظيف العقلاني والمتزن لمثل هذه الأدوات - بل إنني لا أرى الجنة اليوم إلا بستانا لا متناهيا من الكتب التي أتلفها الطاغوت أو أحرقها اللاهوت أو تلك التي استأثر بسحرها التاريخ لنفسه... وأراها أيضا رفوفا مؤلفة من الأقراص الليزرية المكتنزة بسحر اللغة، وإنما أنا أعلن عدائي الفطري للعبودية التكنولوجية، والتكلس الذهني والتنميط الميكانيكي والسقوط في براثن الحياة الآلية التي تنفي الفكر والفاعلية وتكرس التبلد الذهني والوجود السلبي والشخصية المنفعلة والمفعول بها... إن توفير أو تجهيز مكتبة منزلية لا يساوي الكثير ولا يتطلب قروضا أو صكوكا بنكية ولا ديونا متخلدة بالذمة، كما لا يكلف الزوجين تشنجا أو خصاما عائليا مثلما يحدث عادة بسبب اقتناء آلة الالكترونية. المكتبة المنزلية، تنمو كما ينمو العشب ليباغتنا ببرعم ذات صباح سيبني عليه الطير أيكه. إنها ممكنة ومستحيلة. ممكنة لأنها لا تكلف المواطن التونسي الكثير من الأموال، ومستحيلة لأنها ذهنية كاملة، وممارسة يومية تنبني على المراكمة المتواصلة... للمعرفة العقلانية والتنويرية التي باتت اليوم مهددة بشكل علني بعد الغزو الورقي في الدورة الاخير لمعرض تونس الدولي للكتاب حيث انهالت علينا دور النشر بما تعتبرها "كتبا"، تلك التي لا ترسخ الا الثقافة الانهزاميّة الانكسارية وتقدس مبرّرات السقوط والتراجع وفي أحسن الحالات الثبات والجمود، "كتب" مازالت أسيرة للفتنة الكبرى وصفين وكربلاء و ما يزال جزء كبير يناقش عقلانيّة ابن رشد وشكيّة المعري و"إلحاد" التوحيدي وابن الراوندي... "كتب" الفتاوي البائسة والموغلة في الغباء والاستغباء، القادمة تحت العباءات الخليجية وعلى أجنحة الدولار الأمريكي... ليعترضها الشباب بتهافت استعراضي موهوم... شباب يداعب أزرار ذات الحاسوب الذي غربه عن العقل والعقلانية بحثا عن "كتب" الفتاوي الساذجة و"كتب" الأصوات المطلة من خلف زجاج القنوات التلفزية الخليجية لتبث سمومها بعد ان أمنت أرصدتها البنكية...