بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/10/15

دَولَتَان بعَلَم واحد


كانوا يُعدون على الأصابع وصاروا اليوم أكثر من شعر الرأس...

كانوا أيضا بعدد رأس الشعر وصاروا اليوم يُعدون كذلك بأصابع اليد الواحدة...

فئتان من الشعب لا يلتقيان إلا في الكلام المنثور هذرا على قارعة الأيام...

فئتان من الشعب جمعتهما دولتان اتفقتا في ألوان العلم ولحن النشيد الرسمي وأخبار الساعة الثامنة وخطب الجمعة والعيدين واختلفتا في الانتماء لأفق مشترك...

بالأمس كان أغلب الشعب "متخلقا" رغم قلة شهائده الأكاديمية، واليوم صار أغلب الشعب مثقلا بالشهائد الجامعية، متخففا من القيم والأخلاق...

مفارقة عجائبية تلك التي رجحت كفة الميزان لصالح دولة المتعلم وألقت بدولة المثقف إلى الدرك الأسفل...

عندما كانت نتائج "السيزيام" تُعلن عبر موجات الإذاعة وتكتب أسماء الفائزين بتلك الشهادة على صفحات الجرائد كان المعلم رسولا... وكان التلميذ مريدا له...

وعندما كان الفائزون بشهادة الباكالوريا يعدون بالعشرات كانت الجامعات والكليات صرحا منيعا لا تينع داخل أسوارها إلا العقول المفكرة والمبدعة...

بالأمس كان الكتاب مقدسا ومهابا... وكانت الأفكار مرجعا ونبراسا لتأثيث الحياة في أدق تفاصيلها...

كان الدخول إلى قاعة السينما موعدا مقدسا... واقتناء ملحق فكري للجريدة متعة لا متناهية... وكذا الجلوس إلى الأصدقاء والرفاق والتسارر معهم... دون أقنعة أو قفازات...

واليوم تصلنا نتائج الاختبارات، التي لم تعد امتحانات، تصلنا عبر الإرساليات الهاتفية القصيرة مختلطة بإرساليات المواعيد السيارة، أو عبر مواقع الانترنت أين يلقي الممتحن نظرة عابرة على نتيجة اختباره ثم يعود ملهوفا إلى حديث افتراضي عابر على احد المواقع الاجتماعية مع شخص أثيري لا رائحة له ولا طعم...

اليوم نجلس إلى معلمنا في المقهى على طاولة "الشكبة" أو "البيلوت"، ونتقاطع مع أساتذتنا في الحانات... نلهث في كل الاتجاهات، لا بحثا عن صديق أو كرسي مريح، بل طمعا في دينار إضافي... نفشل في مصادقة آبائنا، وفي كتابة قصص حب طافحة بالشغف...

نشتري كريم الشعر وبطاقات شحن الهواتف ونلتقط الصور الرقمية مع السيارات الفارهة وننام فوق الأزرار الباردة لحواسيبنا المحمولة... نلبس اخر صيحات الدجينز ونأكل من مختلف المطابخ العالمية... ونتحدث بإطناب عن مفهوم "النسبية"... ومع ذلك... مازلنا نفكر بأن العالم إما غرب أو شرق... وأن البشر إما كفار أو مؤمنون... وان اللغة العربية "ارقى" اللغات... وأننا "خير أمة"... فلا غرابة اليوم اذا ان تصير تونس دولة بصاريتين يابستين لعلمين مختلفين، علم "للكفار" وعلم "للمؤمنين"... وهو التقسيم الجديد/القديم الذي يختلقه اصحاب المعسكرات العقائدية أولائك الذين "بفضل" تفانيهم الايماني صُلب الحلاّج وشُرّد التوحيدي ونُفي ابن رشد وقُتل السهروردي وابن باجة واغتيل مهدي عامل وحسين مروّة وناجي العليّ وغسّان كنفاني وخُصي مظفّر النواب وقتل منور صمادح...

دولتان بعلم واحد متباعدتان، متجافيتان...لا يلتقيان إلا تقاطعا على أرصفة الاختلاف والتنافر...

هكذا تبدو لي تونس اليوم، بعد أن "وَثَبَ" عليها نظامان من الحكم، أول اقترب من الجمهورية وثان نسف كل مقوماتها... ليتركنا اليوم نسأل هل نحن مواطنون في دولة ام رعايا في ولاية من ولايات الخلافة الدينية.