بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/10/26

برج الرومي



كثيرة جدا هي الحكايات التي سمعتها من مساجين الرأي بسجن الناظور ببنزرت المعروف ببرج الرومي، وكثيرة جدا هي الكتابات التي قرأتها عن هذا السجن، وعن مغامرات وعذابات المساجين الذين مروا بزنازينه و"بلواراته" وساحاته، وآخر ما قرأته في هذا السياق كتاب فتحي بالحاج يحي وكتاب جلبار النقاش.
ولئن سبق لي أن جالست العديد من مساجين الرأي الذين مروا ببرج الرومي، فان فرصة الذهاب إلى تلك القلعة المنتصبة على أطراف مدينة بنزرت لم تتوفر لي إلا منذ أسبوعين تقريبا.
أوصلت صديقا، بالسيارة، لزيارة أحد منوبيه، وبقيت خارج أسوار السجن انتظره زهاء الساعة والنصف ساعة، كانت كافية بالنسبة لي لأكتب هذه البطاقة الأسبوعية وأرصد ضمنها بعض الملاحظات "العابرة" و"الخارجية" عن هذا المبنى المغلق على المساجين.
الطريق الجبلية الموصلة إلى السجن، أقل ما يقال عنها أنها سيئة ورديئة. تعرجاتها كثيرة وحفرها أكثر، وهي ضيقة جدا، رغم أن الحافلات الجهوية تعبرها، وحركة السيارات لا تهدأ فوق اسفلتها المهترئ، كما أن الإشارات الدالة على برج الرومي غير متوفرة بالشكل الذي يساعد الزوار على معرفة الطريق بيسر، خاصة وأن أغلب الزوار، على ما أظن، يتوافدون من مختلف الجهات.
أمام مدخلي السجن، أين يقبع الزوار، وأغلبهم من النساء، وتحديدا الزوجات والأمهات، حيث يقبعن إلى جانب قفافهن، فوق الحجر المتناثر تحت الأشجار المنتصبة أمام السجن.
المساحة الممتدة أمام السجن، تتناثر أمامها أكداس الرمل والأتربة والأسلاك الشائكة، فضلا عن الفضلات المتناثرة هنا وهناك ينبشها الدجاج يمنة ويسرة وتحوم فوقها جحافل الذباب، فلا يجد بها الزائر مكانا محترما يقضي فيه مدة انتظار دوره للزيارة التي قد تطول لأكثر من ساعة، ولكم أن تتصوروا وضعيه النساء المنتظرات تحت المطر في الشتاء أو تحت لهيب أشعة الشمس في أيام الصيف... كما أن السيارات الرابضة أمام برج الرومي تعطل حركة الطريق باعتبار أنها تقف عشوائيا على جانبي الطريق.
اعتقد أن بناء موقف للسيارات أمام السجن أمر ضروري وعاجل، وكذلك تخصيص مكان لائق بالزوار وزائرات المساجين أمر ضروري وعاجل أيضا، وأظن انه لن يكلف بلدية بنزرت، أو إدارة السجن عناء كبيرا، خاصة إذا ما تم تكليف المساجين بتنظيف المساحة الممتدة أمام السجن وبناء مأوى للسيارات وثان للزوار ومدرج موصل لباب السجن، ولمَ لا بناء مقهى أو مشربة مثلا، ينتظر فيها المرافقون للزائرين، مثلي، وتكون عائداتها لحساب إدارة السجن...
ملاحظات قد تكون عابرة وشكلية، ولكن اعتقد أنها ضرورية ولا تكلف الكثير، بل إنها ستعطي صورة جيدة لإدارة السجن، سجن برج الرومي... ولكي لا تكون حالة الانتظار سجنا ثان ترتفع أسواره النفسية والجسدية أعلى من جدران الاسمنت المسلح...

2009/10/16

المخرج الفلسطيني إيليا سليمان:



قريبا من الوطن بعيدا عن القضية



يصر المخرج والممثل الفلسطيني إيليا سليمان دائما على ابتعاده عن دائرة السياسة، إذ أنه لا يتردد في كل مرة في الإعلان عن هويته السينمائية بالأساس قبل أية هوية أخرى سواء دينية أو جغرافية، فقد سبق له أن صرح قائلا:"... أنا في النهاية سينمائي ولست سياسيا ومهمتي ليست البحث عن الحلول" وهذا الموقف يتجلى بصورة واضحة ضمن آخر عمل لإيليا سليمان "الزمن الباقي سيرة الحاضر الغائب" الذي يُعرض هذه الأيام بقاعة "آفريكار" بتونس العاصمة.
إيليا سليمان المولود في الناصرة عام 1960 والذي اعتقلته قوات الأمن الإسرائيلية ولم يتجاوز عمره السابعة عشرة... توزعت خطواته في أكثر من عاصمة أوروبية باعتباره كان محاضرا زائرا في مختلف جامعات العالم، من لندن إلى باريس وروما وبرلين وبرشلونة... فنيويورك التي احتضنته لمدة 12 سنة... وتوزعت رؤاه السينمائية والفنية عموما من فيلم إلى آخر، فكانت في كل مرة تضيق دائرة السياسة وتضمحل القضية الفلسطينية بأبعادها السياسوية لتتسع بالمقابل دائرة فلسطين الزعتر والزيتون، فلسطين البرتقال والدبكة... وجل أفلامه أن لم نقل كلها تشهد على ذلك مثل "سجل اختفاء" و"نهاية جدال" وطبعا فيلمه الأشهر "يد إلهية" الفائز بجائزة لجنة التحكيم في دورة 2002 لمهرجان "كان".
هي ذي فلسطين التي تطفو صورتها بشكل جلي في الأعمال السينمائية التي قدمها إيليا سليمان، والتي باتت يُشار لها بالبنان في كل مرة، فهي لا تنتهي في أفلامه وان انتفت القضية الفلسطينية، بل تبدو مثل منمنمة فارسية تبني صورتها قطعة قطعة، مثلما يبني إيليا سليمان مسيرته فيلما بعد فيلم، لكأنهما توأم فراش يكابدان الخروج من شرنقتهما، شرنقة "التسييس المفرط" لبلد تمادى في الجرح كثيرا... وشرنقة الالتزام المفرط في ايديولوجيته التي تقتل كل نفس إبداعي... ولذلك يمثل ايليا سليمان الضلع الرابع من المربع الذهبي للسينما الفلسطينية في المنفى إلى جانب ميشال خليفي ورشيد مشهراوي وهاني أبو سعد.
تكبر فلسطين الفرح، ويكبر معها إيليا سليمان المخرج المبدع، لا المخرج المتسربل بالسياسة واللائذ بالقضية الفلسطينية مطية سهلة...
يوغل في الرمزية وفي تصوير المشاهد العبثية التي تصل حد الدونكيشوتية، ولا تخلو أفلامه من الظلال السياسية والإشارات الواقعية التي يمررها بفطنة وحنكة متناهية الإتقان، تمنح جل أفلامه القدرة على إيصال الفكرة المراد تبليغها من خلال خلق فضاء شعري تأملي مشحون بواقع الفلسطينيين الحاضرين والمغيبين، وألئك الذين يصفهم هو بالممنوعين من الوجود حتى في الصورة المجازية...
لقد باتت تشكل أفلام سليمان تذكرة سفر إلى أعماق فلسطين، سفرة مجازية تؤمنها الرحلات الواقعية التي غالبا ما يستند إليها المخرج في أفلامه، ومنها فيلمه الأخير، الذي يصور معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل العمق الإسرائيلي من خلال الرحلة عبر الحافلة إلى مدينة رام الله حيث تتناسل مشاهد أرض البرتقال لتختلط مع مشاهد العنف المنظم والقمع المفرط لشعب بات مفخخا بالأمل...
إيليا سليمان لا يقترب من وطنه فحسب، بل انه يتماهي معه ويتورط في تفاصيله اليومية، فهو لا يتردد في كل مرة من التعبير عن إنغراسه في تربة فلسطين والتحليق في فضائها، واقعا وذكريات، ماضيا وحاضرا، من خلال عرضه المستمر، وبأشكال متنوعة ومختلفة، لسيرته الذاتية التي عاشها أو بحث عن تفاصيلها منذ 1948 ولسير أشخاص صنعهم خيال المخرج وما اختلفوا عنه في تشعب الحياة أمام بندقية الجندي، وبساطتها في رائحة البن الفائرة على طاولات المقاهي...
هذه التركيبة الثنائية، التعقد والبساطة، الحياة والموت... مثلت التيمة الرئيسية والمحمل الأساسي لرؤية إيليا سليمان الفنية والإيديولوجية التي تطورت وتعمقت بشكل تصاعدي طيلة العشرية التي أنجز فيها ثلاثيته السينمائية الروائية، "سجل اختفاء" ثم "يد إلهية" والآن "الزمن الباقي" ليتأكد لنا تشبث هذا المخرج بأسلوبه الحداثي وما بعد حداثي في استناده على مسرح بريخت وسينما قودار ...
إيليا سليمان يقترب من بساطة الوطن، ويسعى دائما للابتعاد عن تعقد القضية الفلسطينية، إلا أنه في كل مرة "يُفتضح" تورطه الواعي في القضية العادلة لشعبه، من خلال استناده لأحداث مفصلية في التاريخ الفلسطيني، بداية من إعلان دولة إسرائيل المزعومة سنة 1948 ومرورا بحرب حزيران عام 67 التي عجلت باحتلال الضفة الغربية فمعركة الكرامة في 68 والانتفاضة الأولى في 87 ثم ذكرى يوم الأرض الموافق لــ 30 مارس 1976 واتفاقية أوسلو في 93 وانتفاضة الأقصى سنة 2000 وغيرها من الأحداث .
أقوى من طلقات بنادق المقاومين، وأبلغ من بيانات التنديد والشجب والاستنكار السياسية، وبالموسيقى والأغاني وخاصة بالصمت المُثقل بالكلام، تتحدى أفلام إيليا سليمان مدافع الجنود الإسرائيليين وتفضح إصرارهم على تزييف التاريخ الفلسطيني وتشويهه، وتهب الحياة لفلسطين، ولو مجازا، وهي تُسقط أسوار الرعب المنظم المضروبة على شعبه الفلسطيني وعلى "الأقلية الفلسطينية" في إسرائيل، وهو واحد منهم.
"أن تكون فلسطينيا فهذا في حد ذاته تحديا"، هذا التصريح الذي قاله إيليا سليمان قد يُجمل بشكل واضح قيمة هذا المخرج وقدرته على تحويل "مواطنته الإسرائيلية" التي فُرضت عليه إلى "مواطنة فلسطينية" اختارها ودافع عنها في أفلامه مثلما تدافع الورود عن رائحتها والعصافير عن زقزقتها.

2009/10/09

بين أولاد أحمد وبن عثمان:وسقط القناع عن القناع




كل كاتب مشنوق بنصه، وكل نص على قدر الزيت فيه يضيء. قد يحرق النص كاتبه فيصير لعنته الأبدية، وقد يضيء سبيله فيصير قنديلنا الأبدي نرصد به انسجام الخطوات من تبعثرها في الدرب الحبري الذي يُكابده نصا بعد نص...ونختار بين إحراقه أو الاحتراق به.
وربما أفضل تشخيص لمهمة الكاتب/المثقف ذاك الذي قدمه المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد بقوله:" المثقف لا ينزع إلى تهدئة الأوضاع، وهو ليس معززا للإجماع، بل هو شخص يرهن وجوده كله للإحساس النقدي، وهو إحساس يشي بعدم تقبل الصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة تماما لما تقوله الجهات القوية أو التقليدية، وما تفعله ولا اقصد هنا عدم الرضا السلبي بل الاستعداد الفعال لقول ذلك على الملأ"... وأضيف على هذا الكلام فأقول بأن "الجهات القوية والتقليدية" لا تستعين بآراء المثقف لتقويم سلوكها وتعديل سياساتها بل إنها تعمل جاهدة على تدجينه واحتوائه لتنـزع عنه وظيفة النقد والسؤال والمحاسبة...
هي ذي مهمته الأساسية التي لا يتنازل عنها مهما كانت الإغراءات، غير أن تاريخ الكتابة، ومثلما يشهد على الموت المادي والرمزي الذي طال مئات الكتاب وهم يدحرجون كل الإغراءات تحت نعالهم، فهو أيضا يشهد على الآلاف من الذين سقطت أقلامهم تحت نعالهم، ولم نعد نعرف هل هم فوق الأرض أم تحتها... هل هم كتاب أم هم مستكتبون؟
من هذه الزاوية يمكننا أن نقف على "المناوشة" الحبرية التي حصلت مؤخرا بين الشاعر الصغير أولاد أحمد والروائي حسن بن عثمان، حيث أطنب بن عثمان بجريدة الصحافة في توصيف مناخ حرية الإبداع في تونس مستتشهدا بأولاد أحمد فكتب: "شاعر منشق، متمرد، سليط اللسان والقلم... ومع ذلك فإن تونس لم تغمطه حقه ولم تتعرض له بالأذى، إضافة إلى أنها تستلطف تطويحاته السلوكية" فرد عليه الشاعر أولاد أحمد بجريدة الطريق الجديد حيث كتب:" ... ولأن نعوتا مثل هذه تندرج في خانة قلّة الأدب المحض، وفي حفرة التعامل مع اللغة العربية بعقل دارج، وفي هوّة الغيرة المفضوحة من وضعية كاتب مستقل مثلي، افتكّ مساحة حريته بنفسه وبقلمه، بالرغم من الحروب المنظمة ضده بانتظام طيلة ربع القرن الذي نحن بصدد أدائه كلّ بطريقته... فإنني أتجاوز هذه النقطة لأبشّره بما لا يسرّه من أمور الدنيا التي يحبها حبّا جمّا ويستكثر علينا أن نعوّضها بالكتابة على الأقل...".
ما حدث بين كاتب "برومسبور" وكاتب "تفاصيل" قد يؤدي إلى أن "تنتفي كل صداقة زائدة عن اللزوم بل ينتفي لزوم الصداقة ذاتها إذ لا صديق للكاتب سوى سلاحه." مثلما أعلن ذلك بصريح العبارة الشاعر ضمن رده على الكاتب (وقد كان ردا فصيحا لن يجدي بعده تعقيب) غير أن انقطاع هذه العلاقة من تواصلها لا يعنيني في شيء، فهي بالأخير لن تكون أكثر من مناوشة ظرفية بين الرجلين وستتحول إلى نادرة بينهما في مجالسهم القادمة، أما ما يعنيني بشكل مباشر فهو هذا السقوط الصاروخي والانحدار الرهيب للعديد من الأقلام التي كبرنا مع نصوصها... وباتت تتهاوي، بكتابتها العرجاء، مثل فقاقيع الهواء والسحابات العابرة ولم تعرف كيف توطن جراحها ولا جراحنا مثلما يفعل المبدعون الحقيقيون.
هاهو "حسن" يلتحق بابنه الورقي "عباس" فيفقد صوابه ويُصاب بإسهال حبري في باب "ما قل ودل" وهو يُقر بأن حرية الإبداع جريمة تستوجب العقاب، وأن الوضع الطبيعي للمثقف هو أن يتعرض للأذى ويُجرم من أجل أفكاره أما غير ذلك ففضل ومنّة من السلطان؟؟؟ متناسيا أن فعل التهرئة الإبداعي والمَأسَسَة الثقافية والتهميش المُنظم... أشنع وأبشع؟؟؟
.......
عندما اقترح السلطان على الشاعر عمر الخيام، حسب رواية أمين معلوف في سمرقند، أن يحقق حلم حياته فيمنحه مرصدا فلكيا وبالمقابل يجاور المثقفين فينقل للسلطان أخبارهم ومواقفهم منه، أجابه"دعوني لنجومي".
فهل كثير علينا أن يصرخ "مثقفونا" دعونا لنجومنا، وأن يصيروا رموزا للثبات على الموقف في زمن تتحول فيه الأفكار إلى مروحة للهواء المتأكسد...

2009/10/01

حوار مع المسرحي معز القديري: فتح سوق الدراما مغاربيا سينتشل مبدعينا من غربة المقاهي


على العكس تماما من شخصية «زاك» في شرّها وتوترها الدائم وفي حيرتها وقلقها الوجودي، تتسم شخصية الممثل معز القديري بقدر عال من الأخلاق وبالاعتداد بالنفس وخاصة وضوح الرؤية في مشروعه الفني.

معز القديري مثال حيّ لفورة الشباب المتزنة ولإتّقاد طموح جيل يصر على سرقة النجوم اللألاءة وسط الظلمة التي باتت تسور دربه وتمعن في تكريس الاسماء المستهلكة حدّ الهلاك على حساب الطاقات المتناثرة...

عقد من الزمن وأنت على خشبة المسرح، فهل كنت تتهيأ للظهور في التلفزة بالشكل المتميز الذي شاهدناه من خلال دور «زاك» في نجوم الليل»؟

ـ هناك جانبان، جانب الوضعية وجانب الخيار، وكل وضعية تنتج بالضرورة خياراتها، الوضعية الموجودة تتسم بقلة الاعمال الدرامية و التي تكتفي في الغالب الأعمّ بالوجوه المستهلكة، وكأن الدراما التونسية حققت اكتفاءها الذاتي من الممثلين، وهذه الوضعية تحتم على الممثل خيارات معيّنة، فإما ان يعاود دائما المشاركة في اي عملية كاستينغ، أو أن يسعى الى بناء مسيرته بالطرق المتاحة له، أنا شخصيا اخترت ميدان المسرح ولم آت بمحض الصدفة وأخرت وقتي بعد التخرّج من المعهد العالي للفن المسرحي 2003 ثم واظبت على التكوين لمدة 4 سنوات وهو ما سمح لي بالدخول لعالم المسرح كممثل ليكبر الهاجس وأطرق ابواب الاخراج المسرحي وبداية من 2006 أخرجت اول عمل خاص بي وهو مسرحية «هيدروجان» وخلقت اطارا ومنظومة خاصة بي أتحرك ضمنها حاولت من خلالها تحقيق ما أمكنني من إكتفاء ذاتي ابداعي ومن اشباع فني كما حاولت قتل اللهفة على البروز في الشاشة.

تشبثي بطموحاتي مكّنني من خلق مشروع فني لا يشبه احدا سوى معز القديري، وصارت التلفزة بالنسبة لي إما ان تضيف لتجربتي وتتناغم مع مشروعي الفني وإما فلا.
المسرح يعلمك ان تحمل خطابا وأن تقتنع به وتدافع عنه ولذلك لم أكن مستعدا للظهور كوجه لمدة يوم او يومين، كنت أرفض ولازلت الظهور الكمّي أو الظهور لغاية الظهور.

ولكنك ظهرت في أكثر من عمل سينمائي؟

ـ في السينما، ظهرت في فيلم «بين الوديان» لخالد البرصاوي وتقمصت شخصية رئيسية تحمل خطابا وتحكي عن معاناة حقيقية تدفعك للتماهي معها.

كذلك في الافلام القصيرة التي ظهرت فيها مثل «عين وليل» وكذلك في «نسمة وريح» وفي "الضو في البحر» وهذا العمل الاخير يندرج ضمن ما يسمى سينما الفكر، وهي سينما دوغمائيّة نوعا ما وقد لعبت فيه دور حارس القرية الذي يمنع أهلها من الرحيل عنها وكذلك في فيلم «سويعة آذان» لعبت دور منشط اذاعي وكنت حاملا لصوت الشعب...

كل الشخصيات التي قبلت تقمصها لم تكن شخصيات اعتباطية او هامشية بقدر ما كانت شخصيات اشكالية تحمل دائما نقاط استفهام...

الى أن تقمصت شخصية «زاك» في مسلسل نجوم الليل!؟

ـ منذ البدء وفي اطار طبيعي وبظروف مثالية تم لقائي بكاتبة المسلسل ومخرجه، ومنحوني الثقة التامة من خلال الدور، وطبعا تجربتي المسرحية خوّلت لي تقمص الشخصية التي قدمتها.
مروّج المخدرات شخصية حديثة في الدراما التونسية ولذلك تطلب آداؤها جهدا مضاعفا من حيث البحث في اعماقها والنبش في تفاصيلها اليومية حتى تتمكن من معايشتها فعلا.
«
مروّج المخدرات» كنا نسمع عن هذه الشخصيّة الاجتماعية وصرنا نشاهدها، بل انها كانت شخصية شبه اسطورية وصنعت الاف الحكايات في المخيال الشعبي وصارت محور حديث الشباب وهذه الخصوصية هي التي تخوّل لمن سيتقمّصها ان يتحمل المسؤولية كاملة في اخراجها على الوجه الذي يجب ان تظهر عليه. شخصية «زاك» سقطت في الجانب المظلم من الحياة، شخصية تعيش حالة قلق وجودي وكوابيس وخوف، هي شخصية تراجيدية بكل المقاييس.
في «نجوم الليل» قدمت الشخصية في حالتها القلقة ولكن ايضا لم ننسى الجانب المشرق فيها، اي محاولة «زاك» التخلص من «محنة المخدرات» ولكن احداث المسلسل حتّمت ان تكون لحظة الوعي هي لحظة نهاية هذه الشخصية.

وهذا الاختيار مقصود طبعا، فالعبرة من شخصية «زاك» تتمثل اساسا في ان العدميّة هي المآل الطبيعي لمن يتجاهل انسيته الكامنة فيه، وان السعادة والرضا عن الذات لا تتحقق الا بالبحث في الذات والغوص في اعماقها.

هناك أسطورة معروفة، هي أسطورة ايزيس عندما جمع كل الآلهة وسألهم: أين يمكن ان نخفي السعادة والحقيقة؟ فاختلفت الآلهة عن موضع السعادة الأمين أهو أعماق البحر أم باطن الأرض أم لا متناهي السماء، الى ان أجابهم ايزيس بأن أعماق الذات البشرية هي المكان الذي يتجاهله الإنسان ولا يبحث فيه وهي بالتالي المكان الاكثر أمانا للسعادة والحقيقة...هذه الأسطورة حاولنا أن نجملها ونقدمها من خلال شخصية «زاك» التي كانت في ظاهرها شريرة في حين كانت في باطنها تعاني الصراع الابدي و التمزّق بين الشر والخير.

يبدو ان للمسرح فضل كبير في شحنك بتلك الطاقة الخلاقة التي تجلت في ظهورك التلفزي حضورا وآداء؟

ـ المسرح هو المخبر الحقيقي لاكتشاف الطاقة الكامنة في كل انسان وهو الذي يمكنك من التحكم في الادوات والقدرة على التركيز لمواجهة الجمهور وجها لوجه من دون مساحيق او آلات تصوير.

كما يوفر لك متعة لا متناهية، هذه الخصوصيّة المسرحية كلما تمكنت منها كلما لازمتك في حلك و ترحالك وبالتالي من الطبيعي ان تجيد توظيفها امام الكاميرا...

المسرح يدرّبنا على العيش الحقيقي بصدق ، وبعفوية الحياة ولا يوهمنا بأن الاقتراب من الشخصية التي نتقمصها يحتم علينا ان نمثل بشكل جيد، ومثلما تقول العرب «أنفذ من السهم الى القلب كلمة صادقة»، بمعنى ان يكون الممثل في خدمة الشخصية لا في خدمة شخصه، وكلما تقلصت نرجسيته امام الكاميرا كلما تماهى مع الشخصية التي يقدمها، وهذه غاية لا يبلغها الا الممثل الذي يحترم مشاهديه.

ولكن هناك العديد من الممثلين القادمين من خشبة المسرح ومع ذلك فشلوا في تقمص أدوارهم التلفزية، فكيف تفسر ذلك؟

ـ ببساطة كل من يفشل في دور تلفزي وهو ابن المسرح فهو بالضرورة لم يستوعب بعد ان المسرح عمل يومي وجهد دؤوب يتطلب الحفاظ على أدواته المسرحية وتطويرها بالثقافة وبالمشاهدة.
الممثّل الذي يقتنع بأنه قادر على لعب كل الادوار هو الممثل الذي بلغ بداية نهايته.
في أمريكا اخترعوا ما يسمى بممثل الاستوديو «Acteur studio» لإيمانهم بأن التمثيل هو بالفعل جهد يومي ولذلك ننبهر بأدوار» روبارت دينيرو» و «ألباتشينو»، فهؤلاء قضوا سنوات من العمل في الاستوديوهات، كذلك «توماس ريتشارد» الذي جمع ممثلين من جنسيات مختلفة من العالم ليتدربوا الساعات الطوال يوميا، وقد شاهدت احد اعمالهم في احدى دوراتهم التكوينية بالحمامات.

الثابت ان نجاح مسلسل «نجوم الليل» تظافرت فيه عدة معطيات لعل ابرزها الكتابة الجديدة؟

ـ أطول مشهد في السيناريو لم يتجاوز الصفحة الواحدة وكأنه كُتب اساسا للسينما بإيقاعه المتسارع، ثم ان المخرج «مديح بالعيد» هو مخرج سينمائي بالاساس وتعامل مع اكبر المخرجين في السينما العالمية وهو ما مكنه من خلق توجه كامل في الكتابة وايضا لا ننسى مدير التصوير" بشير المهبولي"

اجتماع هذا الثلاثي، الكاتبة «سامية عمامي» و المخرج «مديح بالعيد» ومدير التصوير "بشير المهبولي»، وطبعا لا ننسى رغبة قناة حنبعل في تحقيق الاضافة والخروج عن السائد والمألوف، لا يمكنه الا ان ينعكس ايجابا على أداء الممثلين وعلى كامل الفريق التقني الذي أمّن تصوير مشاهد المسلسل.

الكتابة الجديدة قدمت لنا وجوها قديمة بشكل مغاير تماما، وأخرجت منهم في 15 حلقة ما لم نشاهده طيلة سنوات طويلة ولعل المثال الأنسب هشام رستم ومحمد كوكة.
الكتابة الجديدة ايضا ساهمت بشكل ملحوظ في سرعة اندماج الوجوه الشابة مع أدوارها أولا ومع باقي الأدوار ثانيا حتى اننا في هذا العمل لم نعد نفرق بين الوجوه القديمة والوجوه الجديدة، فالكلّ انصهر في كتلة من الابداع والاضافة، وهذا ما انطلقت فيه الدراما السورية والمصرية منذ سنوات قليلة ففي مسلسل باب الحارة لبسام الملا مثلا لا نلاحظ وجود اي فرق بين الممثل الكبير «عبد الرحمان التراشي» وبين الوجوه الجديدة ، فالكلّ اصبح في خدمة الفريق لا في خدمة ذاته.

هناك سؤال يتردد كل سنة، لماذا لا ننتج الاعمال الدرامية الا في رمضان؟ ولماذا مع كل عمل درامي تثار دائما مسألة أحقية هذا الممثل او الآخر من عدمها في التمثيل وهل يمكن اختزال حل المسألة برمّتها في اعتماد بطاقة الاحتراف او ما يسمى الثلثين؟

ـ في علاقة بالانتاج الموسمي، هناك معضلة حقيقية تتمثل في عدم تسويق الانتاج الدرامي التونسي بسبب «الاسطورة» التي صنعها أخوتنا المشارقة والمتعلقة بعائق اللهجة، وهي ليست صحيحة، لأن تجاوزها امر بسيط، فيكفي ان يتعود مشاهد سوري او مصري او خليجي على لهجتنا حتى يتمكن من فهم كامل العمل، اضافة الى ان الراعي الوحيد للأعمال الدرامية هي الدولة التي تضع المليارات كل سنة في انتاج مسلسل او مسلسلين وهذا راجع الى ان المنتجين لديهم حالة من التوجّس والخوف من خوض غمار الانتاج التلفزي، رغم ان توجه الدولة يسعى الي تكثيف العمل الدرامي، لكن الدولة بمفردها لا يمكنها ان تضمن انتاج عشرة اعمال مثلا في السنة، ونلاحظ مثلا في سوريا او مصر غياب القطاع العمومي عن الانتاج فأغلب المسلسلات هي من انتاج خواص وتحديدا رؤوس الاموال الخليجية.
علينا ان نعرف كيف نغري المستثمرين والمنتجين او على الاقل نفتح سوق مغاربية مشتركة ونخلق حركة تبادل درامي بين الاقطار المغاربية الخمسة.

عائدات الاشهار لا تكفي لتكثيف الانتاج الدرامي والعشرة ملايين الذين يشاهدون عملا ما يمكنهم ان يغطّوا تكلفته المالية، قناة نسمة مثلا بدأت تشق الطريق نحو هذه المبادرة ويكفينا اتكالا على مهرجانات الاذاعة والتلفزيون والتحصل على جائزة افضل ممثل شاب!!!

ومسألة بطاقة الاحتراف والثلثين؟

ـ المسألة مرتبطة كما أسلفت الذكر بقدرتنا على فتح سوق حية ومتحركة وساعتها سيغامر المنتج وسنكتشف مخرجين متميزين واكثر من سيناريست سيخرج من صمته وحيرته «الوجودية» ويثبت وجوده وكذلك سينتشل كل ممثل من المقهى ليجد نفسه في موقعه الطبيعي وهو استوديو التصوير.

اما مسألة الثلثين فهي متعلقة اساسا بالمسرح، فالدولة تقدم دعما للمسرح يناهز المليارين سنويا فمن الطبيعي جدا ان تكون هذه العائدات لأصحاب بطاقات الاحتراف اما الموهبون فعليهم بالمثابرة والجهد ليتحصلوا على أحقية ان يكونوا ممثلين محترفين.

الى جانب مشاركتك في مسلسل نجوم الليل، أنت ايضا مخرج مساعد لمسرحية made in tunisia التي لاقت رواجا جماهيريا منقطع النظير، فكيف تقيم هذه التجربة؟ وهل سيؤسس لطفي العبدلي فعلا نهجا جديدا في مسرح الممثل الواحد؟

ـ مسرح «وان مان شو» يبقى رائده الامين النهدي وأعتقد ان هذا النوع يعيش أوجه في السنوات الاخيرة حيث تتالت التجارب من آدم العتروس وجعفر القاسمي ووجيهة الجندوبي وسفيان الشعري وصولا الى لطفي العبدلي، ما أضافته مسرحية «صنع تونسي» هي الكتابة المعاصرة وخلق الفرجة من خلال الاضاءة والموسيقى وحركة الممثل وغياب الديكور والأكسسورات، وايضا عفوية وصدق الممثل الذي جعله قريبا جدا من الجمهور وكذلك طبيعة مضمون النص وحرفية لطفي العبدلي الذي عرف كيف يقوم بعملية جرد وتكثيف لثلاثة عقود من تاريخ تونس وتقلبات المجتمع والتطور الذي حصل للمواطن التونسي، ولذلك فإن المشاهد الذي تابع هذا العمل لم يجد نفسه غريبا عنه وهو ما ضمن كثافة الجمهور حيث سجل دخول احدى عشر ألف متفرج في مهرجان قرطاج وصنفت المسرحية جماهيريا الرابعة بعد عرض صابر الرباعي وشارل أزنفور وأمينة فاخت.
وأعتقد ان أهم ما نجحت فيه المسرحية هو مصالحة الجمهور مع ركح المسرح، وقد يعتقد البعض ان هذا العمل كوميدي بالأساس في حين أن كل الوضعيات الكوميدية في المسرحية تم بناؤها دراماتورجيا على أساس الكوميديا السوداء وبُنيت على إثارة نقاط الاستفهام لدى كل من يشاهدها.

ولن أضيف على ما قاله النوري بوزيد وابراهيم لطيف بأن هذه المسرحية تعبّر عن "ثورة جيل يتمرد على السائد والمألوف ويتجاوز حدود المنطق السائد لصنع منطق جديد يشبه المرحلة التي نعيشها".