Game over
انضممت إلى حلقة حسن وسعيد وعبودة الحلاق بعد أن صرت أوفر لهم علب السجائر التي اختلسها من دكان والدي. في السابق كنت اذهب إلى محل عبودة مرة واحدة في الشهر. أحلق شعري ثم أعود إلى البيت الذي لم يكن بعيدا عن المحل. لم يكن سني آنذاك يتجاوز السادسة عشرة. أمر كل يوم أمام محل عبودة وأنا أتجه إلى المعهد. ألمحه خلف الواجهة البلورية يرتشف قهوة الصباح وهو يرتب المقصات والأمشاط وينشر المناشف فوق المحمل الحديدي أمام الباب. في المساء عندما أكون عائدا من نفس الطريق تتناهى إلى مسامعي ضحكات حسن وسعيد وعبودة تتكسر داخل جدران محل "الحلاقة الأنيقة".
تعمدت يومها أن اذهب في المساء لحلاقة شعري.علقت معطفي على المشجب الخشبي المثبت وسط الجدار المقابل للمرآة ثم جلست فوق كرسي الجلد وسلمت رأسي لأصابع عبودة ومقصه.
كان فضولي اكبر من خوفي وخجلي فلم أتردد ولم أرتبك عندما اقترحت الانضمام لحلقتهم المسائية. تركت عبودة ينهي تجفيف شعري ودهنه بالكريم المثبت ثم أدرت كرسي الجلد لحسن وسعيد وقلت لهما في نفس واحد وأنا انظر إلى عبودة الواقف حذوي:
_ اسمعوا ياجماعة بصراحة ارغب في الانضمام إليكم كل مساء، وان وافقتم سأوفر لكم يوميا لكل علبة سجائر "مارس ليجار".
من يومها بدأت اشتري الحكايات من محل "الحلاقة الأنيقة" بسجائر والدي، بل صرت أعدو داخل الحكايات وأستلذ تفاصيلها وهي تخدش ذاكرتي وتحفر أثرها عليها.
كانت حكايات المساء ترسخ بذاكرتي أكثر من دروس الصباح، وبدأت أخبار القرية تزهر داخل محل عبودة مع حسن وسعيد. حكايات تعبرني الآن، بعد عشرين سنة من الغياب، مثل الأغاني العتيقة التي كانت تؤنس مساءاتنا في القرية.
كانت حكايات القرية وبناتها تسيل داخل جسدي مثل الماء. عرفت أسرار جسد عفاف وسلاف وأختها مريم. وداعبت حلمتا مروى في خيالي من خلال مغامرات سعيد التي لا يمل من روايتها لنا كل مساء. أغلب الحكايات كانت تفتتح بالحديث عن بنات حينا وبنات الأحياء المجاورة لنا، وعن مقابلات كرة القدم بين الترجي والإفريقي أو عن الطالبات اللواتي يسافرن للدراسة بالعاصمة وما تلبث أن تفوح إشاعات مغامراتهن قبل عودتهن، أو عن الأساتذة الذين يفدون على معهدنا... وعن الأعراس في فصل الصيف، وغالبا ما كانت تنتهي تلك الحكايات بالحديث عن ارتفاع ثمن قنطار السميد مثلا أو انخفاض وزن الخبزة، وفي العطل كنا نحصي عدد الطلبة الذين سيتخرجون من الجامعات ثم يعودون إلى القرية ليزاحموا آباءهم في مقهى الرياضيين. ياه كم سمعت حكايات في مخزن الكلام ذاك.
لم تحترق حكايات حسن وسعيد وعبودة مثلما احترقت سجائر والدي رغم مرور عشرين سنة بحالها. إلى الآن ما زال وهج كلماتها يلفحني ويستفزني أمام هذا الصمت اللعين الذي دفعني إليه هذا الحلاق البدين.
دخلت عليه منذ ساعة تقريبا وظللت مرميا في حضن الصمت والسجائر. كنت ضاجا بالحكايات وبي رغبة جامحة للانفجار بالكلام مع أي كان. كل دقيقة أقول انه سينهض وينتبه لوجودي، غير أن الدقائق ظلت تتعاقب علي أثقل من الصمت ومن طعم التبغ، وهو جامد في مكانه.
التفت على يساري فألفيت مجلة أزياء مركونة فوق الطاولة. التقطتها وشرعت أتصفح ورقها من دون تركيز، وظللت بين الفينة والأخرى أترصد جهاز الأتاري ليظهر على شاشة التلفاز عبارة Game over فتنتهي لعبة مقابلة كرة القدم الافتراضية بين الحلاق البدين وصانعه فيستحي واحد منهما وينتبه لشعري الأشعث ولحكاياتي التي يكاد يحلقها خرس المحل وتخنقها خيوط السجائر.
انضممت إلى حلقة حسن وسعيد وعبودة الحلاق بعد أن صرت أوفر لهم علب السجائر التي اختلسها من دكان والدي. في السابق كنت اذهب إلى محل عبودة مرة واحدة في الشهر. أحلق شعري ثم أعود إلى البيت الذي لم يكن بعيدا عن المحل. لم يكن سني آنذاك يتجاوز السادسة عشرة. أمر كل يوم أمام محل عبودة وأنا أتجه إلى المعهد. ألمحه خلف الواجهة البلورية يرتشف قهوة الصباح وهو يرتب المقصات والأمشاط وينشر المناشف فوق المحمل الحديدي أمام الباب. في المساء عندما أكون عائدا من نفس الطريق تتناهى إلى مسامعي ضحكات حسن وسعيد وعبودة تتكسر داخل جدران محل "الحلاقة الأنيقة".
تعمدت يومها أن اذهب في المساء لحلاقة شعري.علقت معطفي على المشجب الخشبي المثبت وسط الجدار المقابل للمرآة ثم جلست فوق كرسي الجلد وسلمت رأسي لأصابع عبودة ومقصه.
كان فضولي اكبر من خوفي وخجلي فلم أتردد ولم أرتبك عندما اقترحت الانضمام لحلقتهم المسائية. تركت عبودة ينهي تجفيف شعري ودهنه بالكريم المثبت ثم أدرت كرسي الجلد لحسن وسعيد وقلت لهما في نفس واحد وأنا انظر إلى عبودة الواقف حذوي:
_ اسمعوا ياجماعة بصراحة ارغب في الانضمام إليكم كل مساء، وان وافقتم سأوفر لكم يوميا لكل علبة سجائر "مارس ليجار".
من يومها بدأت اشتري الحكايات من محل "الحلاقة الأنيقة" بسجائر والدي، بل صرت أعدو داخل الحكايات وأستلذ تفاصيلها وهي تخدش ذاكرتي وتحفر أثرها عليها.
كانت حكايات المساء ترسخ بذاكرتي أكثر من دروس الصباح، وبدأت أخبار القرية تزهر داخل محل عبودة مع حسن وسعيد. حكايات تعبرني الآن، بعد عشرين سنة من الغياب، مثل الأغاني العتيقة التي كانت تؤنس مساءاتنا في القرية.
كانت حكايات القرية وبناتها تسيل داخل جسدي مثل الماء. عرفت أسرار جسد عفاف وسلاف وأختها مريم. وداعبت حلمتا مروى في خيالي من خلال مغامرات سعيد التي لا يمل من روايتها لنا كل مساء. أغلب الحكايات كانت تفتتح بالحديث عن بنات حينا وبنات الأحياء المجاورة لنا، وعن مقابلات كرة القدم بين الترجي والإفريقي أو عن الطالبات اللواتي يسافرن للدراسة بالعاصمة وما تلبث أن تفوح إشاعات مغامراتهن قبل عودتهن، أو عن الأساتذة الذين يفدون على معهدنا... وعن الأعراس في فصل الصيف، وغالبا ما كانت تنتهي تلك الحكايات بالحديث عن ارتفاع ثمن قنطار السميد مثلا أو انخفاض وزن الخبزة، وفي العطل كنا نحصي عدد الطلبة الذين سيتخرجون من الجامعات ثم يعودون إلى القرية ليزاحموا آباءهم في مقهى الرياضيين. ياه كم سمعت حكايات في مخزن الكلام ذاك.
لم تحترق حكايات حسن وسعيد وعبودة مثلما احترقت سجائر والدي رغم مرور عشرين سنة بحالها. إلى الآن ما زال وهج كلماتها يلفحني ويستفزني أمام هذا الصمت اللعين الذي دفعني إليه هذا الحلاق البدين.
دخلت عليه منذ ساعة تقريبا وظللت مرميا في حضن الصمت والسجائر. كنت ضاجا بالحكايات وبي رغبة جامحة للانفجار بالكلام مع أي كان. كل دقيقة أقول انه سينهض وينتبه لوجودي، غير أن الدقائق ظلت تتعاقب علي أثقل من الصمت ومن طعم التبغ، وهو جامد في مكانه.
التفت على يساري فألفيت مجلة أزياء مركونة فوق الطاولة. التقطتها وشرعت أتصفح ورقها من دون تركيز، وظللت بين الفينة والأخرى أترصد جهاز الأتاري ليظهر على شاشة التلفاز عبارة Game over فتنتهي لعبة مقابلة كرة القدم الافتراضية بين الحلاق البدين وصانعه فيستحي واحد منهما وينتبه لشعري الأشعث ولحكاياتي التي يكاد يحلقها خرس المحل وتخنقها خيوط السجائر.