بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/06/13

بيان حبري

لا الوقت لنا... ولا الكتابة أيضا

من السهل على الواحد منا – نحن السواد الأسود– أن يعثر على عتبة حبرية يشغل بها رأس المساحة الورقية المتبرجة أمام ناظريه، في فستانها الأبيض، ولكن من الصعب عليه أن يجد الوقت الكافي والضروري لفك أزرار الفستان البيضوي والولوج داخل أتون الورقة ومغاورها، فيصيّرها – بعد ساعة أو بعد أيام – حبلى بمتن لغوي نثري أو شعري
من السهل على الواحد منا - نحن السواد الأسود – أن ينجح في لضم تركيب لغوي على قياس «لا الوقت لنا... ولا الكتابة أيضا» مثلما كانت تلضم بائعة الكبريت – في حكايا الجدات - دموعها عقدا من الزمرد والمرجان...
ببساطة، من السهل على الواحد منا أن يمسك بعنوان قصة قصيرة مثلا وهو يركض خبطا ولطما خلف ذيل حافلة صفراء عجوز. من السهل عليه ذلك، ولكن من الصعب جدا أن ينجح في الحفاظ على حبات الزمرد والمرجان لعقده اللغوي بمجرد أن يحشر داخل العلبة الحديدية الصفراء العجوز اللعينة، إذ تتبخر فكرة القصة مع الروائح العطنة وتبتلعها أحداق العيون المتوثبة على الجيوب والحقائب اليدوية لصبايا الطريق... ويداس المتن السردي بأحذية الركاب المعفرة بأوحال الأرصفة، وتثقب الفكرة بكعب حذاء يرزح تحت وطأة مائة كيلوغرام من لحم أنثوي مترهل...
يمكنك أن تحني ظهرك النحيل، كما قلمك ينحني سيلانا فوق دروب الورقة، يمكنك ذلك، فتمد ذراعك لتلتقط بأطراف أصابعك ما سقط من مرجل جمجمتك هذا الصباح فتجمع نثار المعني وشتات الفكرة وتستجمع ألق صباحك ذاك... فتنجو بجلدك المصهود بالأنفاس المحرقة وبمحفظتك المكتنزة وبفكرة قصتك القصيرة بما حوت من أبطال وأحداث ومكان وزمان وأزمة وانفراج...
تحضنهم جميعا وتهرول نطا وركضا من الباب الخلفي للحافلة الصفراء اللعينة باتجاه أول كرسي وطاولة لم ينخرهما سوس الثرثرة واللغو، فتلقي بجسدك فوق الكرسي وتبسط على خشب الطاولة عتبتك اللغوية لتشرع في رفع أوتاد خيمتك القصصية...
من السهل عليك وأنت - من السواد الأسود – أن تفتح محفظتك العتيقة وصدرك ينشرح لسيلان القهوة الدافئة والتبغ الموشح بالضباب في عروقك، فتكاد تصيّر عين قلمك الراقص بين أصابعك كأوتار كمنجة قرطبية، مثل فوهة بندقية، يطارد حبره وبر المفردات...
من السهل ذلك ولكن من الصعب عليك أن تكتب جملة واحدة في قصتك القصيرة تلك، وأنت مزدحم ب«صباح الخير» و«يومك سعيد» ومكتض ب«كم الساعة من فضلك؟» أو«ولاعتك لو تسمح»... من الصعب أن تمسك بأول حروف قصتك وسط مقهى «l’univers» من الصعب عليك ذلك وأنت محاصر بعقارب التوقيت الإداري وبسخط رئيس التحرير على تأخرك الدائم... من الصعب.... من الصعب...
ولكن من السهل عليك مرة أخرى، وأنت ضاج بأزرار الحواسيب الجامدة داخل مكاتب عملك الباردة، ومشغول بخطى الموظفين رائحة غادية تلوك الوقت والهراء كما يلوك الجمل الكلأ، سهل عليك أن تشحذ قلبك بمساء هادئ في غرفة نومك لتزهق روح متنك السردي اللعين، تشحذ قلبك بالتمني وتشرع في اختيار مطفأة السجائر الأوسع والقطع الموسيقية الأنسب، وتتوعد الانتظار والازدحام والخوف من السرقة... أعداؤك الدائمين المتربصين بك وبقصتك وسط الحافلة الصفراء العجوز اللعينة... تشحذ قلبك ولا تنتبه لغبطة موهومة إلا على هدير محرك الحافلة...
من الصعب إذن عليك، وأنت من السواد الأسود، أن تجد الوقت الكافي والضروري لكتابة مسودة قصة قصيرة طيلة يومك، ولكن من السهل عليك مادمت تصر وتلح على فعل الكتابة، أن تسلسل أحداث قصتك في ليل المدينة...
من السهل عليك أن تتخلص من محنتك الحبرية هذه وأنت محاط بالمطفأة الأوسع وقلبك يتلاشى تحت سطوة الموسيقى الصامتة وساقاك يرفلان في الدفء تحت صوف الغطاء الشتوي... من السهل أن تكتب على الورقة البيضاء من دون أنفاس حارقة ولا روائح عطنة أو كعاب ثاقبة... من السهل... من السهل...
ولكن من الصعب عليك أن تجهز على عتبة الخروج من قصتك هذه وصوت المذيع الأجش يخرم هدوء غرفتك ونقاء فكرتك، وهو يقدم للنظارة الكرام مجموعة قصصية حديثة النشر، هي السادسة لأستاذ جامعي في عقده الثامن...
تطفئ الضوء الخافت وتشعل سيجارة يابسة لتؤنس صمتك أمام ثرثرة المذيع والأستاذ القابعين داخل الصندوق الملون... فتتيقن – وأنت المنهك – أن لا وقت لك وللسواد الأسود إلا للنوم... فتسحب الغطاء الصوفي إلى آخر رأسك وتشرع في كتابة قصتك القصيرة حلما أو كابوسا في انتظار منبه الساعة الخامسة فجرا وهدير الحافلة الصفراء العجوز اللعينة و«صباح الخير»... وفي انتظار عتبة دخول حبرية أخرى لرأس ورقة البارحة تنتظرك لتفك أزرار فستان عرسها الأبيض...

اسم مقهى كائن بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية أغلب روادها من الشريحة المثقفة

قصة قصيرة

غرق حبري


على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة
أوّل الحبّ عشب على حجر
سيّدتي استحقّ
لأنّك سيّدتي. استحقّ الحياة
محمود درويش

:همس في أذنها والفرح يشقّ صوته
- "اللّيلة سأنام على سرير من حنين... للّذي حدث بيننا هذا المساء."
صمت قليلا وأردف بتردّد
- "وللّذي سيحدث كلّ مساء... لديّ سرير يتّسع لجسدين من ماء... لجسدين من نرجس و نار... سرير يتّسع للّه و البحر..."
كانت هي في الجهة المقابلة تمسك بحفيف الحروف, و تخيّلته يحطّ على كحل أهدابها مثل عصفور يحطّ على ماء بحر... لم تنبس ببنت شفة. فقط ظلّ نفسها صاعدا مثل خيط رفيع نازل من السّماء...
تواطأ معها في هذا الصّمت و كأنّه لم يشأ أن يقاطعها و هي تقرأ له – في صمتها – قصيدة لم تكتبها بعد.
لمّا أحسّها أنهت قراءتها قطع صمت البوح بينهما وهو يقول لها:
- "أشتهي ما سيحدث مساء الغد... و لكنّي أخاف من خوفي وتردّدي..."
استرق نفسا قصيرا ليلتقط عبيرها في الأرجاء, ثم رسم قبلة على... سمّاعة الهاتف.
أقفل الخطّ و تمدّد على سريره. ظلّ مغمض العينين برهة من الزّمن ثمّ امسك مجموعتها الشّعريّة بأصابعه المرتعشة و شرع يتفحّصها ورقة ورقة و بياضا بياضا, تهجّاها سطرا سطرا إلى أن فطن بصوته المنفلت من حلقه يردّد مقطعا واحدا أعاده أكثر من خمسين ألف مرّة:
مستوحدان
أنا و ظلّي
نرسم إلى الحلم سلالم
لا وفي لنا
نسمي الدفاتر عمرا
(العمر خيول تهاوت
(1
طوى المجموعة و هو يقاوم فكرة قصّة قصيرة بدأت تراوده عن نفسها, و بلهفة وارتباك تناول ورقة مطروحة على المنضدة المحاذية للّسرير و خطّ فوقها: "... غرق"
ثمّ نام على سرير من حنين ... و من ورق

(1) مقطع من قصيد تسميات على مسامع الظل من المجموعة الشعرية حمى القصائد للشاعرة التونسية يسرى فراوس



قصة قصيرة

موعد النّرجس

العالم كلّه مسرح, لكلّ دخوله ولكلّ خروجه
و بين الاثنين حياتنا حيث نلعب عدّة ادوار

ويليام شكسبير
كما يحلو لك

كتمت رنين منبّه السّاعة وهي تقاوم ارتخاء جسدها و تقلّبها على الفراش, ثمّ نهضت خفيفة كنسمة هواء بحريّة تنطّ في ثيابها الشفّافة بين المطبخ و الصّالة و بيت الاستحمام مثل فراشة فجريّة.
صوت فيروز المنبعث من آلة التّسجيل ينساب طلقا بين أبواب الغرفة المواربة, ونوافذها. ورائحة البنّ, المدعوكة بحبّات الهيل, على نار الموقد الخافتة, تثقب سقف المطبخ الصّغير...
انتصبت خلف السّتارة الحريريّة لبيت الاستحمام تطرد الكسل عن مفاصلها و تداعب حلمتيها البنّيتين بلون الخرّوب الجبلي تحت دفق الماء الدّافئ. عادتها الّتي تربّي عليها جسدها منذ الصّبا ولم يترهل بعد.
جفّفت شعرها الذّهبي أمام المرآة وهي تلعق آخر قطرات القهوة من الفنجان.
داخل سيّارتها الحمراء واصلت الاستماع إلى صوت فيروز وهي تستمتع بطعم التّبغ الصّباحي وحبّات المطر الطّائشة تنزلق بحنوّ من السّماء الخريفيّة على البلّور راسمة خيوطا شفافة كالدموع...
في الشّارع الرّئيسي رتّبت عشرين زهرة نرجس أمام أوّل بائع ورد اعترضها. استنشقت الباقة بعمق وانطلقت باتّجاه مسرح المدينة مباشرة.
كلّ الكراسي شاغرة إلاّ مقعدها المحجوز في الصفّ الأمامي, منذ يومين... و ملامح الجمهور الشّاحبة لا تنبئ بأنّهم سيحضرون حفلا موسيقيّا...
الأضواء باهتة من الرّكح إلى السّقف. الكراسي أيضا بدت باردة على غير عادتها... هكذا أحسّتها... و الصّمت. صمت لا يطاق يلفّ أرجاء المسرح...
أخذت تداعب النّرجسات العشرين بأرنبة أنفها في محاولة يائسة للّتخلّص من حالة التّوجّس الّتي تملّكتها على غير موعد أمام مئات الوجوه الواجمة, وبدت تغرق نفسها في حالة من الاطمئنان الموهوم لفتنة هالتها بزهرات النّرجس, وكأنّها تقاوم فعلا خرس المكان الغريب أو سواد السّتار الّذي لم يرفع بعد.
كانت تقاوم تداعيا محموما تلبّس بذهنها وصار ينخره بجنون.
- إنّ الخوف من فعل محتمل الوقوع لهو أقسى من وقوعه في حدّ ذاته.
هكذا قالت بصمت وواصلت: ممّا الخوف إذا, وأصابعه لا تزال مغروسة في أسرار جسدك إلى الآن منذ ليلة أوّل أمس. أتذكرين كم راقصك, بعد منتصف الّليل, على عتبات السّماء, فوق نزل "الهناء". كم تلذّذت شفتيه المغمستين بطعم البيرّة الّتي شربها بحانة السّطح المطلّة على أطراف العاصمة وعلى مدارج هذا المسرح.
كلماته منذ ليلتين تلمسينها الآن, تدعكين حروفها بنفس الحرارة, تتدلّى مع قرطك العاجي هذا... ممّا الخوف إذن وأنت الموعودة بعزف منفرد مهدى لك وحدك... تماسكي أيّتها الغبيّة واطرحي هذا الخوف اللامبرّر, فالسّتار يرتفع.
بدأت مخاوفها تنقشع عن رأسها, تتبدّد كأكياس ضباب ثقبتها أشعة شمس لاذعة, بمجرّد أن سرّحت بصرها على مساحة ركح المسرح: العازفون يتوزّعون فوق الخشبة في شكل هلالي. كلّهم منحنون على ﭐلآتهم الوتريّة و الإيقاعيّة. صورته العملاقة تنتصب خلفهم. خطّ طويل من الورود مختلفة الألوان يسيّج أطراف الرّكح الأمامي. عوده, الّذي تغار منه, يتّكئ على الكرسيّ المعدّ له, كنجمة صيف مكابرة.
الجمهور لا يزال ينتظر دخوله, وهي تنتظر عزفها الموعود... والوقت يمضي. يمضي بطيئا قاسيا.
عادت تحدّث نفسها: لماذا تأخّر كلّ هذا الوقت؟ لا شك ّأنّه يجمّع شتاته أو هو يرتّب أصابعه ليجيد مراقصة الأوتار ومغازلة اجّاصته الخشبيّة...
كم هي مملّة لحظات الانتظار ومقيتة. هيّا ادخل وكفانا انتظارا. نطقتها بصوت مسموع !!!
ظلّت تنظر ساهبة إلى الجثث المنحنية على التّماثيل الموسيقيّة اللاّمعة تحت الخيوط الضوئيّة المتسلّلة من بين الرّؤوس المنشغلة بلحظات الانتظار. ذهنها لا يزال ينطّ فوق سطح نزل "الهناء" ولم تنتبه للّرجل الّذي انتصب في قلب الرّكح إلاّ عندما صدح صوته من المكبّرات الجانبيّة.
اعتصرت زهرات النّرجس العشرين بين يديها وضمّتهم أكثر إلى صدرها بارتباك وبدا العرق ينزّ من كامل جسدها بمجرّد أن بدأت شفتا الرّجل البدين الذي تقدم إلى طرف الركح من جهة الجمهور الأمامي, تتحرّكان:
- يؤسفنا أن نعلمكم أنّ هذا العرض قد ألغي. لقد ابتلعت مرآة النّزل الضّخمة عازف العود قبل لحظات من الآن لمّا همّ بتقبيل وجهه المنعكس على بلّورها!!!... يمكنكم استرجاع ثمن التّذاكر بداية من صباح الغد من شبّاك المسرح ونجدد لكم اعتذاراتنا وأسفنا.
لم تدر كيف انفرجت ساقاها بتلك السّرعة العجيبة وهي تشقّ الجموع الآخذة في التّحرّك عشوائيّا بين أروقة المسرح, صامّة أذنيها عن الصّراخ والصّياح المتعالي من أفواه النّساء والرّجال. لم تصدّق كيف لم تدهسها سيّارة وهي تشقّ شارع الحبيب بورقيبة راكضة نحو نزل "الهناء" المقابل للمسرح, ولا حتّى كيف اخترقت حشد المشعوذين والسّحرة والمنجّمين وبعض الأطباء المتكوكبين, إلى جانب رجال الأمن والفضوليين, أمام المرآة المنتصبة وسط بهو النّزل.
كانت ترتجف بصورة هستيريّة داخل المصعد الآلي صارّة أكثر زهرات النّرجس الّتي ازدادت تألّقا وطولا بين أصابعها وصدرها!!!.
على سطح النّزل كانت الحانة مفتوحة. لا احد بداخلها, الكلّ بالبهو الأرضي يتدافع أمام المرآة العجيبة. حلقها تيبّس تماما بفعل زجاجات البيرّة الّتي سكبتها داخل بطنها دون حساب.
سقطت أكثر من ثلاث مرّات وهي تكابد ثقل جسدها لتنقله من الحانة إلى طرف السّطح المطلّ على شارع الحبيب بورقيبة. لم تعد تقوى على الوقوف مستقيمة, ولا على التّركيز.
السّيارات تحتها تراها تصطدم ببعضها البعض, والمارّة صاروا ضئيلين بحجم حبّات الزّيتون وهم يتدافعون كالجراد الهائم في كلّ الاتجاهات وأشجار الشّارع بدت هي الأخرى تتراقص وتتنحّى عن منابتها المستطيلة.
كان رأسها متدلّيا كحبّة الرمّان النّاضجة من فوق السّطح العالي, وكأنها تقف على رأس جوف عظيم, وأخذ فخذاها في الاصطكاك بعنف على جدار السّطح الواطئ.
لم تستطع إمساك فمها, الّذي انفتح كبالوعة نفايات, عن القيء. قيء شديد يندفع من قاب بطنها الّتي تكاد تتمزّق ألما وتتناثر في سماء الشّارع. كان قيئا غزيرا كالمطر, ينقذف زخّات مدرارة من عل فيغطي رؤوس المارّة وأرصفة الشّارع دون توقّف, بل كان الدّفق يقوى باطّراد حتّى صارت تخشى – في لا وعيها- أن تغرق شارع الحبيب بورقيبة في قيئها المحموم, هذا الذّي يتضاعف كلّما لمحت واجهات المحلاّت البلّوريّة المتراصّة على طول الشّارع، لكأنها سكرت بالبلور...
همدت جثّتها قليلا. ارتخت مفاصلها على طرف الجدار, وظلّت بقايا القيء الرّغويّة تسيل لزجة من زاويتي شفتيها كالّلعاب قذرة داكنة. أمعاؤها تتموّج تحت جلدة بطنها ويعتصر قلبها بشدّة. شعرت بحالة من السّكينة والخدر وهي تفكّ يديها المضمومتين إلى صدرها, تركتهما يتدلّيان في الهواء مستلذة هذا الوضع برهة من الزّمن. بعدها لم تدر كيف انفرطت زهرات النّرجس العشرين من بين أصابعها وصارت تتساقط واحدة واحدة, نرجسة تلو نرجسة لتقع بحنوّ فوق جثّة العازف المسجاة أمام مدخل نزل الهناء, وفوق كاميرات السياح و آلات التّصوير وعلى قبعات رجال الأمن والأعناق المتطلّعة لجثّتها الآيلة للسّقوط من فوق النّزل

قصة قصيرة

المقالة الافتراضية


نؤكّد من جديد التزامنا بمبادئ حريّة الصّحافة, وحرّية المعلومات وكذلك بمبادئ الاستقلال والتّعدّديّة والتّنوّع, وهي عناصر جوهريّة في مجتمع المعلومات, ومن الأمور الهامّة في مجتمع المعلومات حرّية التماس المعلومات وتلقّيها وإذاعتها واستعمالها لإحداث وتراكم ونشر المعرفة

النقطة 55 من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات.
القمة العالمية جنيف 2003 منشورات الأمم المتحدة
والاتحاد الدولي للاتصالات


ينبغي لمجتمع المعلومات أن يحترم السّلم وأن يدافع عن القيم الأساسيّة مثل الحرّية والمساواة والتّضامن والمسؤوليّة المشتركة واحترام الطّبيعة
النقطة 56 من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات.
القمة العالمية. جنيف 2003 منشورات الأمم المتحدة
والاتحاد الدولي للاتصالات


لنفترض أنّه عندما طرق الصّباح باب غرفتي الباردة, حوالي السّاعة السّابعة إلا ّعشرين دقيقة, استقبلت يومي بكلّ تفاصيله. بدءا من صوت فيروز ينهمر على مسامّ جسدي من كلّ الجهات, إلى أن استقبلني رئيس تحرير الجريدة الوحيدة الّتي قبلت بنشر مقالتي دون أدنى تحفّظ.
بعد أن أعلمني رئيس التّحرير أنّ قرّاء الجريدة إفتراضيّون, ولا خوف لا من مقصّه ولا من الرّقابة الأمنيّة, وطمأنني أنّ عقابي - إن حدث - سيكون افتراضيّا. فإن طردت من عملي فافتراضا, وإن سجنت وحوكمت صوريّا فافتراضا أيضا... طمأنني بهذا إذا ما أنا كتبت ـ فوق ورقاتي الافتراضيّةـ أمورا تتعلّق بقمع الرّأي ومصادرة حرّية التّعبير, و إلجام الحناجر عن"الصّراخ" داخل أسوار الجامعات والكلّيات, وعن عسكرة الشّوارع وانتهاك الحرمات الجسديّة والمعنويّة للمواطنين العاديّين بترصّد خطواتهم واعتقالهم ومطاردتهم وحضر تجوّلهم وسط الشّوارع ومراقبة حركاتهم وسكناتهم داخل المقاهي وبين جدران الحانات... وإجبارهم ـ في المخافر تحت الرّكل والشّتم طبعاـ على الالتزام بعدم التّعبير عن آرائهم مطلقا وطلب العفو, كتابيّا, عن نيّتهم في التّظاهر سلميّا!!! ( من أوكد شروط استمرار الأنظمة الافتراضية مدى الحياة, الكشف عن نوايا المواطنين ومصادرتها فورا !!!).
طمأنني, بل شجّعني, رئيس التّحرير لئلاّ أتردّد في القيام بتحقيقات ميدانية عن العاطلين المنثورين في المقاهي, والمتسوّلين المبعثرين في المنعطفات والأزقّة, واللّصوص المترصّدين لفرائسهم في وسائل النّقل العمومي... بل نبّهني إلى إمكانيّة إجراء حوار مع فتيات الأرصفة ليتحدّثن عن تجاربهنّ ومغامراتهنّ في الملاهي اللّيليّة وتحت أشجار الطّرقات السّريعة... أو فوق سطوح البنايات المظلمة...
بعد أن أعلمني رئيس التّحريرـ إعلاما افتراضيّا ـ بكلّ ما أسلفت ذكره ( وما نسيه الرّاوي أو تعمّد نسيانه ربّما),تبدّدت هواجسي وتماسكت في ارتباكي الّذي كان يطوّقني. نهضت ومددت كفّي للسيّد رئيس التّحرير مهنّئا إيّاه على جرأته وشجاعته في الدّفاع عن حرّية التّعبير عن الرّأي واحتضان الأقلام الحرّة, والأفكار الحرّة والحرّية الحرّة... صافحته بحرارة أسطوريّة, حتّى أنّي لم أخجل عندما استدرت خلف مكتبه من الجهة اليسرى واتّجهت نحوه أقبّل جبينه بحرارة مضاعفة, وتلقائيّة لم أعهدها في نفسي من قبل.
لم أصدّق عينيّ وهما تشرئبّان نحو ذراعيه القويّتين, أراهما ينفتحان على إتساعهما ويضمّان صدري النّحيل إلى ربطة عنقه المتدلّية فوق بطنه المنتفخة, حتّى خلت نفسي سألجه من الأمام أو ستبتلعني أمعاؤه!!! ولم أصدّق حروفه القويّة المتناثرة مع بصاقه اللّزج تنسكب كالضوء في ثقب أذني اليمنى عندما قال لي" أنت الصّحفي الّذي تحتاجه جريدتنا, وتفتقده صحافتنا." حتّى خيّل إليّ ـ ونحن متعانقان هكذا ـ أنّنا سننخرط في نوبة بكاء فرحا بلقائنا, وكأنّنا عاشقان فكّا أزرار خجلهما وباحا بعشقهما شعرا ومجازا فوق صخرة سكّريّة دغدغت حبيباتها أمواج بحر شتوي...
عدّل ربطة عنقه الحمراء, عندما رنّ جرس الهاتف من فوق مكتبه العريض. تركه يرنّ طويلا, إلى أن استويت أنا في مقعدي قبالته ـ أين كنت أجلس ـ وانشغلت بمحفظتي الجلديّة أقلّب محتوياتها بشكل عشوائي لأتركه يحادث مخاطبه, ولم أتفطّن لانقطاع الرّنين و لا إلى الحركة السّريعة والمرتبكة لأصابع رئيس التّحرير فوق أزرار جهاز الحاسوب المنتصب حذوه.
رفعت بصري من أمام المحفظة المفتوحة وقلت له وأنا ألاحق الحروف المتطايرة من حلقي:
ـ مقالتي افتراضيّة لم أكتبها على ورق أبيض.
التقط كلمتي ورق أبيض من صوتي وقال:
ـ طبعا. طبعا, فجريدتنا افتراضيّة لا ترقن على الورق الأبيض.
صمت قليلا, وهو يتفرّس تبدّل ملامحي, وأضاف:
ـ بما أنّ قرّاءنا افتراضيين, فإنّ جريدتنا افتراضيّة ولا تقبل إلاّ المقالات الافتراضيّة.
لمح بريقا في عينيّ, فابتسم نصف ابتسامة كشفت بياض أسنانه, وأضاف:
ـ ولحسن حظّك أنّ مقالتك تخضع لمقاييس النّشر لدينا.
اتّسعت عينيّ أكثر حتّى لمحت بريقهما منعكسا كأشعّة شمس هذا الصّباح في عيني رئيس التّحرير, وكدت أن أعاود الرّكض خلف مكتبه, لكن لم أشعر كيف خفت بريقهما فجأة وانقبض قلبي بمجرّد أن سمعت وقع خطوات قويّة قادمة من الرّواق المفضي مباشرة إلى المكتب الّذي نحن فيه. خطوات واثقة وحاسمة, تقترب نحونا بسرعة.
حاولت أن أهدّئ من روعي باستئناف الكلام مع رئيس التّحرير, غير أنّي بمجرّد أن رفعت بصري نحوه لم ألمح لا وجهه الّذي كان مشرقا منذ ثوان, ولا ربطة عنقه المتدلّية فوق بطنه. فقط تراءت لي أصابعه الخشنة تمسك بطرفي جريدة كبيرة. أكبر من وجهه وبطنه, جريدة ورقيّة كتب أعلى صفحتها من جهة اليسار باللّون الأحمر "حرّية".
خطوات الأقدام أسقطت قلبي وسط أمعائي لهول وقعها الّذي صار كالطّبل يدقّ داخل ثقبي أذنيّ, وبعدها لم أتذكّر ما الّذي حدث.
تعالت أصوات محرّكات السّيارات والحافلات في الخارج, خارج غرفته. تقلّب فوق فراشه أكثر من ساعة تقريبا إلى أن رنّ جرس المنبّه المركون فوق المنضدة المحاذية.(جرس المنبّه صار يذكّره دائماـ على ما أذكرـ بهاتف رئيس التّحرير فيما بعد.). رنّ المنبّه في السّاعة السّابعة إلاّ عشرين دقيقة تماما. مدّ ذراعه من تحت اللّحاف وأسكت الجرس المصرّ على الرّنين, وبحركة آليّة شغّل قارئ الاسطوانات ليستقبل صوت فيروز يتسلّل إلى مسّام جسده ككلّ صباح.
انزلق رأسه تحت العباءة, ومعه صوت فيروز ليمضي العشرين دقيقة الفاصلة عن السّاعة السّابعة, محاولا كعادته دائما كلّ صباح, أن يمتصّ رغبته في الاستغراق في النّوم وطرد الكسل عن مفاصله المرتخية. لم تمض ثلاث دقائق تقريبا حتّى ألف نفسه محاطا بأكثر من عشرة أشخاص جلسوا كلّهم أمام أجهزة حواسيب ذات شاشات مسطّحة, داخل قاعة فسيحة قسّمت مساحتها بحواجز من البلّور الرّمادي اللّون, بلّور سميك يرتفع بين الحاسوب و الآخر, وكان يجلس حذو بابها رجل وسيم بملابس أنيقة, مرتّبة بعناية تنمّ عن ذوق رفيع, كان يملي ـ على ما يبدو - جملة أوامر من جذاذة حمراء بين يديه (عثر الرّاوي على نسخة منها في وقت لاحق وقد شحبت حمرتها واهترأت حواشيها.).
كانوا كلّهم يضعون آلات صغيرة, بحجم حبّة القمح, داخل آذانهم, تربطها أسلاك ذهبيّة بأجهزة الحواسيب المنتصبة أمامهم. كانوا يستقبلون بتلك الآلات أوامر الرّجل الأنيق, الّذي اختلط صوته مع صوت فيروز.
عندما أرهف السّمع, التقط جمل الرّجل الّتي تندفع من حلقه واضحة وحازمة. وقال:
ـ علينا أن نجعله أعجوبة لا تنسى, ليكون عبرة لمن يجرؤ على عرشنا ومملكتنا, ولهذا سنفصل, أوّلا, رأسه عن جثّته ونستبدله بمحرّك البحث "غوغل" أو"عجيب". ثمّ سنمزّق المتبقّي من جسده, في مرحلة ثانية, ونوزّع أعضاءه على مختلف المواقع الالكترونيّة الّتي أحدثناها.
صمت قليلا مركّزا بصره على الرّجال المتراقصة أصابعهم فوق أزرار الحواسيب, ثمّ استأنف كلامه:
ـ ولئلاّ نسيء إلى صورتنا, فإنّنا سنتركه ينشر مقالته الافتراضيّة تلك في أكثر من جريدة ومجلّة دون تتبّعه, وخاصّة خارج حدود مملكتنا, لنبرهن أنّنا فعلا نؤمن بحرّية الصّحافة وندافع عن القيم الأساسيّة لمجتمع المعلومات.
حوالي السّاعة الثّامنة إلا ّعشر دقائق صباحا, كان يحتسي قهوته مع زميل له داخل مشربة الشّركة الّتي يشتغل بها تقني إعلاميّة. تردّد قليلا ثمّ اقترب منه أكثر وأخفض صوته (وهنا قطع الرّاوي أنفاسه وأطرق السّمع قليلا ليلمّ بتلابيب الحكاية الّتي رواها لزميله)... أخفض صوته ودسّ له في إحدى أذنيه كلاما مرتبكا التقط الرّاوي منه هذه الجملة اليتيمة :" كلّ شيء يمكننا أن نصيّره واقعا افتراضيّا ما عدا صوت فيروز ووقع أقدام الجنود".


٭ إشارة أخيرة
إعلان افتراضي
لكلّ قارئ أن يضيف ما شاء إلى مسودّة هذه القصّة
ويرسل إضافته إلى عنوان الجريدة الافتراضي التّالي:
Iftaredhe @ yahoo.fr

قصة قصيرة

خطوة القط الأسود ٭

عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد نهض وتقدم بخطوات واثقة من المدرج المفضي إلى الأسفل. اعترضه النادل وهو يحمل بين يديه دلوا نحاسيا مملوءا بمكعبات الثلج، فلم يترك له فرصة ليثنيه عن إسقاط وجهه وسط الدلو وترك وجنتيه وأرنبة أنفه تتمسح بلذة فوق المكعبات الباردة ذات الأطراف الحادة مثل قطع البلور. عندما رفع رأسه امتلأ فمه بمكعبين من الثلج كانا قد عقدا لسانه برودة ولذة عن أي كلام. همهم بكلمات غير مفهومة، دفعها دفعا عسيرا من فرط طراوة الثلج وليونته، ثم ترك قدميه تنزلقان بحنو فوق الدرجات الرخامية المفضية إلى الأسفل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد مزق بعضا من أوراق الكتاب الضخم الذي لم يفارق نظره منذ أن جلس إلى طاولته المحاذية للمدرج المفضي إلى الأسفل ذي الخمس درجات. كان الكتاب رواية للكولومبي غابريال غارثيا ماركيز، وكان يحمل عنوان «أن تعيش لتحكي». لم يكن رواية خيالية، بل هو السيرة الذاتية لماركيز. مزق بعضا من أوراقه وشرع يلف في كل ورقة نوعا من السَُلَطَات التي طرحها النادل أمامه مع أول زجاجة نبيذ طلبها قبل ثلاث ساعة تقريبا. لف بقايا السلطات ودسها داخل جيب سترته السوداء بعد أن ألقى الكتاب الممزق وسط سلة الفضلات التي يمر بها النادل بين الفينة والأخرى. ضحك بأدب واضح عندما لاحظ دهشة النادل الممسك بسلة الفضلات من حركته الغريبة. قال له بنبرة هادئة ورصينة، أن متعته الحقيقية هي عندما يلقي بالكتاب الذي يقرؤه في سلة فضلات أو وسط بالوعة مياه قذرة، أو في مصب نفايات عمومي، وأنه يفعل ذلك حتى لو تطلب منه الأمر أن يمشي عدة كيلومترات بحثا عن مصب نفايات مفتوح. انصرف النادل بضحكته وسلته، وظل هو بنصف ابتسامة اجتهد أن تأخذ صبغة أرستقراطية. ضحك وهو يتذكر تلك العقوبة التي حرمته من استعارة الكتب من مكتبة الكلية طيلة مدة دراسته، والتي مُني بها لما اكتشف عميد الكلية مجلد «الرسائل الأدبية» للجاحظ يسد تلك البالوعة القذرة المسدودة أصلا خلف قسم العربية. أقيم حينذاك مجلس تأديب لا يزال يتحدث عنه الطلبة إلى الآن، وأستدعي هو ليدلي بأقواله بشأن التهمة الموجهة إليه والمتمثلة في إلقاء مجلد الجاحظ وسط بالوعة القاذورات. أجاب وقتها أمام المجلس الجامعي بأنه ألقى المجلد وسط البالوعة لارتباكه من حشود الطلبة القادمة نحوه في مسيرة ضخمة، ولأنه خاف أن يعنفوه لأنه لم يشاركهم هتافاتهم.
عندما انصرف النادل حاملا السلة، وقد تغطى غلاف الكتاب الأنيق ببقايا القواقع والصٌدف الفارغة، وبالهياكل الشوكية للأسماك التي استقرت في بطون الزبائن، ومأخوذا بدهشته، كان هو واقفا أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وجيب سترته ينز بقطرات الزيت مثل مزاريب السطوح التي تغمرها مياه الأمطار المفاجئة. ظلت قطرات الزيت تلتمع فوق الدرجات الرخامية التي خلفها وراءه.
عندما كانت معزوفة «خطوة القط الأسود» تبعث في الأرجاء مسحة من الشرود على كل الوجوه المتناثرة وسط المكان، كان هو ملكا في مملكته ذات الغطاء الأحمر. كان ملكا وهو يرفع كؤوس النبيذ بطريقة رفيعة ورشيقة تنم عن أصله الأرستقراطي. كانت الطاولة ذات الغطاء الأحمر بما حملت من أطباق وملاعق فضية وبمطفأتها المصنوعة من العاج الإفريقي الأصيل وبمزهريتها المصنوعة من الكريستال الخالص التي ترتشق وسط عنقها وردة حمراء هي مملكته، وكان هو ملكا أمامها يشرب نخب مُلكه ويطالع سيرة غابريال غارثيا ماركيز. كان منفردا بملكه، لا أحد يقاسمه فيه. طاولة واحدة وكرسي واحد. لا منافس ولا معارض ولا حاسد. وحده ذاك الجندي الثابت فوق حصانه يقابله ولا يتكلم. انه تمثال من البرنز الخالص، منحوت بصورة جد متقنة، حتى أنه خمن أن يكون الجندي يرتدي جوربين من القطن المبطن تحت حذائه المتدلي على جانبي بطن الحصان. لم يشغله كثيرا تمثال الجندي المنتصب أمامه ، لأنه كان يترصد أيا كان صاعدا من المدرج المفضي إلى الأسفل ليرفع الكأس بذات الحركة الرشيقة والرفيعة ويسكب ما فيه داخل جوفه، وعندما يكون المدرج خاليا من وقع الخطوات الصاعدة، كان يلتهم السَُلَطَات بنهم ويتوقف عن شرب النبيذ، فقط كان عندما يلمح ظل شخص ما قادما من الأسفل يستعد للحظة الحاسمة. لشرب النبيذ بذات الطريقة الأرستقراطية، رغم أنه كان مقتنعا تمام الاقتناع أن الشرب هو الشرب أيَُا كان شاربه، لولا هذه البشرية الحمقاء التي جعلت من هذه المتعة الحياتية مقسمة تقسيما طبقيا، واخترعت لها طقوسا مخصوصة وآداب بعينها تميز الشاربين عن بعضهم البعض... (الجاحظ واحد ممن كتبوا حول هذه الآداب والطقوس المخصوصة في رسائله الأدبية)...
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد وضع آخر متعلقاته داخل جيب سترته بعد أن ترك قليلا من النبيذ في القارورة الرابعة التي طلبها قبل ساعة تقريبا حسب ما تقتضيه آداب الشرب في الأوساط الأرستقراطية. عَدَُلَ نظارته. وضع هاتفه وعلبة سجائره والولاعة. لم يستطع أن يترك المطفأة العاجية التي أعجبته منذ جلس إلى طاولته. دسها مع علبة السجائر في جيب سترته الداخلي، ورغم أنه ظفر بالمطفأة العاجية إلا أن حسرته على المزهرية الكريستالية ظلت تنخر أصابعه لئلا تتراجع عن قطفها بوردتها الحمراء. لم يترك أي شيء فوق الطاولة ذات الغطاء الأحمر. حمل كل شيء ووقف أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وهو ينظر إلى ساعته اليدوية بعين ويتابع بالعين الثانية حركة النادل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، بعد أن كرَُرت لازمتها الوترية للمرة الخامسة، كان قد استنفذ كل الحيل الممكنة للهرب من الحانة الأرستقراطية دون أن يدفع حساب ما ألقاه داخل جوفه، وباءت بالفشل كل مخططاته في النفاذ ببطنه الممتلئة من قبضة نادل تلك الحانة الأرستقراطية، ولم يتوقع أبدا أن يطلب منه زجاجة نبيذ خامسة في تلك الساعة المتأخرة، ومعها كأس جديد مثلما تقتضي ذلك الطقوس الأرستقراطية.

(*) معزوفة موسيقية للتونسي أنور ابراهم

قصة قصيرة

كأني أشبه ظلكم

إذا رأينا شرطيا يقود مجرما إلى السجن
فلنتريث لكي نعرف من هو الشرطي ومن هو المجرم
جبران خليل جبران


عاد هيثم إلى الهذيان من جديد
كان صوته يأتي من بعيد, من أعماقه, وهو يصيح وينادي دون توقف " كل شيء بخمسمايا. فرصة وربي فرصة". عندما ركله الشرطي بحذائه ركلتين متتاليتين بعنف على بطنه استفاق مذعورا وتذكر أنه موقوف منذ ساعتين في مركز الشرطة. تماسك قليلا. استوى على الكرسي الخشبي, وبدأت أنفاسه تنتظم شيئا فشيئا وعندما رفع يديه ليمسح العرق المتصبب من جبينه, أحس بسائل ساخن متخثر تحت أذنه اليسرى. مرر أصابعه بحذر فوق السائل المنساب على عنقه فاختلط الدم المتخثر بالعرق وببعض الأوساخ المتجمعة فوقها من جراء الغبار الذي أحدثته عجلات السيارات وأرجل المارة أين كان يعرض بضاعته فوق " كردونة " في نهج الدباغين.
تذكر البضاعة. أين هي ؟ وتذكر الأموال التي استدانتها أمه من صاحب المصنع الكبير, الذي تشتغل في بيته غسالة, من أين سيرجعها ؟ وهو الذي وعد أمه أنه سيأتيها في المساء بالسلفة ومعها بعض الخضار والدواء لعينها, الذي انتهى منذ شهر وأيضا سيعطيها ثمن قارورة الغاز مثلما اتفق معها ليلة البارحة.
عندما كان يتذكر ما حصل له قبل ساعتين حينما هجمت سيارة "الحاكم" الزرقاء على الباعة المنتصبين شمالا ويمينا فوق الأرصفة المهترئة في نهج الدباغين, وفرقتهم يمينا وشمالا وهم يهرولون ويركضون باتجاه الأزقة والمنافذ ويختبئون داخل الدكاكين والمقاهي, بعضهم يحضن ما تبقى معه من بضاعته التي تبعثرت وسط النهج, والبعض الآخر يحمل "كردونته" بكلتا يديه ويحاذر في الجري بها وسط الجموع المتراكضة, خوفا من سقوطها, وآخرون لم يحملوا شيئا لشدة رعبهم وذهولهم من الطريقة المباغتة لهجمة الحاكم.
كان لفيف منهم يتتبع حركة صديقهم هيثم وهو يتهاوى على مؤخرة رأسه ويسقط فوق بضاعته التي تكسرت تحته وتحت أحذية رجال "الحاكم". كان البعض ينظر إلى المشهد وهو يلعن الحاكم وأبو الحاكم. وكان البعض الآخر ينظر باشمئزاز وقرف شديدين لقسوة هؤلاء "البشر". وهناك في الركن القصي لمقهى الدباغين تسمر صبيان يتداولان على عقب سيجارة وهما ينظران بشماتة لما يحدث لصديقهم هيثم لأنه سبقهم إلى المكان الذي رغبا الانتصاب به صباحا.
عندما كان يتذكر كل هذه المشاهد فاجأه صوت الشرطي الجالس فوق الطاولة وهو يضع ساقيه فوق الكرسي المحاذي لها. سأله بصوت غليظ من أين أتيت بالبضاعة يا ابن الزانية ؟
قفزت مباشرة إلى ذهن هيثم صورة أمه وهي جاثمة على ركبتيها, محنية الظهر , وسط فيلا الحاج إسماعيل, تمسح القاعة الفسيحة تارة وطورا تحك الجدران العالية. تذكر حالتها هذه وأجاب متلعثما بصوت مبحاح لكثرة صياحه في نهج الدباغين
اشتريت البضاعة بعرق أمي. بصبرها وشقائها وقلة نظرها. لقد باعت قوتها, كل قوتها, من أجل أن أشتري البضاعة
رفع الشرطي إحدى ساقيه من على الكرسي وضغط بها على بطن الصبي الفارغة ثم أمسكه بكلتا يديه من شعره الملبد وصاح في وجهه فتناثر بصاقه على عيني هيثم وأنفه قلت لك من أين أتيت بالبضاعة يا سارق يا ابن السارقة ؟
أنا لم أسرق أحدا. أنا لست سارقا, لقد اشتريت البضاعة من عند... من عند...
تلعثم هيثم ثانية وارتبك ثم صمت تماما وأغمض عينيه. نزل الشرطي البدين من فوق الطاولة واتجه صوب الباب. أغلقه بعنف ثم عاد إلى هيثم وصفعه صفعتين قويتين وبصق في وجهه الشاحب ملئ فمه.
_ من عند من ؟ انطق و إلا سأقطع لك هذا اللسان. وأمسكه من شدقيه بشدة ثم دفعه إلى الخلف بعنف.
كان هيثم كثيرا ما يسمع من عند أصدقائه الباعة في نهج الدباغين, عن غلظة "رجال الحاكم" وقسوتهم ووحشية معاملتهم. كما حدثه بذلك رفيقه الطالب سامي الذي تعرف عليه أيضا في نفس النهج, حيث كان يأتي كل يومين تقريبا رفقة بعض الطلبة, من كليات مختلفة أين يجلسون الساعات الطوال في مقهى النهج, وقد تطورت علاقة هيثم بسامي خاصة بعدما قدم الصبي ذات مرة للطالب نظارات شمسية دون مقابل لما اشترى من عنده ولاعة وعلبة سجائر مستوردة (مندية) وأجندة وحاملة مفاتيح وحافظة أوراق دفعة واحدة, فكان كل مرة يمر بالدباغين يعرج على نصبة هيثم وفي بعض الأحيان عندما يكون مفلسا يستلف من عنده ثمن كأس شاي أو ثمن بعض السجائر, ثم بدأ يعطيه كل مرة كتابا يقرأه أو مجلة يطالعها, عادة ما تكون سياسية أو أدبية, ثم بدأ يصطحبه بانتظام مرة كل أسبوع إلى بيته بباب الخضراء, حيث يطلعه على عدة كتيبات وصحف لم يسمع بها من قبل وأوراق... و كانت في بادئ الأمر تخيف الصبي ثم بدأ يتعود عليها فيما بعد لإحساسه أنها تتحدث عنه هو بالذات وعن أصدقائه الباعة بل وحتى عن أمه وأمثالها دون نفاق أو كذب, حتى أنه أصبح ينتظر بلهفة وبشغف كبيرين يوم يرافق سامي إلى بيته لعلمه أن هناك خبرا جديدا أو فضيحة أخرى سيطلع عليها.
ويذكر هيثم أن سامي سلمه مرة كراسا صغير الحجم من دون عنوان وقال له أن ذاك الكراس سيعلمه كيف يتعامل مع أسئلة "الحاكم" وكيف يحسن الجواب حين يقع في قبضتهم. ولكن هيثم في وضعه هذا, والدم ينزف منه ويختلط بالعرق والدموع والمخاط, كيف له أن يستحضر تلك القواعد التي قرأها ؟وهل فعلا ستنقذه من هذا الموقف ومن هذا الوضع المزري ؟ ألن تزيد الأمر سوءا وتعقيدا ؟ألن يتفطن الشرطي إلى طريقة إجابته ويشك في أمره فيضاعف عقابه ويضع رفيقه في ورطة ؟.
ماذا سأفعل ؟ كيف سأجيب هذا البدين, عديم الشفقة والرحمة ؟ ولكن ماذا لو قلت له الحقيقة كاملة, هل سيصدقني ويطلق سراحي ويعيد لي بضاعتي ؟ ... لا. لا تهم البضاعة, المهم سراحي قبل أن ينزل الليل وأتأخر عن أمي... لا يهم ثمن البضاعة, المهم سراحي, ستتوسل أمي للحاج إسماعيل لكي يخصم لها السلفة من مرتبها البائس, أو ستقترح عليه أن تشتغل عند ابنته في الليل بعد أن تنهي شغلها في الفيلا الكبيرة, لا يهم ستتعب أكثر ويزداد ظهرها تقوسا وستهترئ أصابعها من رغوة الصابون... لا يهم سوف أعوضها عن كل شقاء ومهانة تلحقها مني ومن هذه الأيام الزانية... سأتدبر أمري ثانية... سأستلف وحدي من عند سامي أو من عند أحد الأصدقاء من نهج الدباغين أشتري لها الدواء والخضار وقارورة الغاز وسأشتري لها أيضا قرطاس حنة لتزين بها أصابع قدميها ويديها. أعرفها إنها تحب الحناء كثيرا. إنها تذكرها بليالي الحب الخضراء مع أبي رحمة الله عليه...
لا يهم الثمن الآن, المهم سراحي وعودتي إلى بيتي.
أشعل الشرطي سيجارة جديدة ونفث دخانها نحو السقف, ملقيا عود الثقاب المشتعل في وجه الصبي, وصرخ فيه بأعلى صوته
_ من عند من اشتريت البضاعة يا قذر ؟.
وضع هيثم يده على رقبته المتسخة وكاد يقول للشرطي أنا لست قذرا. أنت القذر, بل أنت خنزير متعفن ولكنه تمتم بصوت خفيض متقطع
الحقيقة. الحقيقة اشتريتها من عند شرطي يشتغل في الميناء , وهو يسكن قريبا من حينا, تعرفت عليه مرة عندما أعنته على إغلاق باب المستودع الذي اكتراه من عند عم سالم منذ سبعة أشهر ليضع فيه بعض الأدباش المستعملة والأشياء القديمة مثلما قال.
عقد الشرطي حاجبيه وزم شفتيه وبدا, لهيثم, وكأنه يبتسم خلسة ثم أدار كرسيه إلى الحائط ربما ليستر ضحكته أو لينتشي بها بعيدا عن عينيه. زم شفتيه وقال له وهو لا يزال يدير ظهره إلى الحائط
عم سالم شنيب جزار حي السلام الذي يبيع لحم الحصان والحمير ؟ ثم ضحك هذه المرة بصوت مسموع.
ارتبك هيثم وتلعثم وهو يتذكر عم سالم الجزار وشنبه الطويل المفتول بدقة وبطنه المنتفخة تحت قميصه المبقع بالدم والمزرر حتى نصفه الفوقي دائما, صيفا وشتاءا, وتذكر أيضا صبيحة, تلك المرأة المطلقة... صبيحة التي كان لا يمارس عادته السرية إلا وهو يستحضر صورة مؤخرتها الرجراجة ونهديها المنتصبين دائما رغم تقدمها في السن... صبيحة التي كانت تشتري اللحم من عند الجزار أكثر من الأستاذ خالد مدرس العربية بمعهد الحي ورغم أن هذا الأخير يقدم دروس تدارك لأبناء الميسورين في بيوتهم ليلا وأيام الآحاد وفي العطل, فإن صبيحة المطلقة تشتري اللحم أكثر منه. لقد كانت كثيرة الضحك مع عم سالم ويبدو أنها كانت سخية عليه بلحمها الأبيض مثلما هو سخي معها باللحم الأحمر, لحم الحمير والأحصنة.
تذكر هيثم الجزار وبدا و كأنه يسأل نفسه : من أين يعرف هذا الشرطي ذو النجمتين عم سالم ؟ أهو من زبائنه ؟ أم تراه أمسكه سابقا متلبسا مع صبيحة ؟ هل يعرف شرطي الميناء ؟...
قطع الشرطي سيل الأسئلة المتدفق داخل رأس هيثم وقال له بنبرة هادئة
هل تدخن يا سار... ؟
ثم أردفه بسؤال ثان
ما اسمك ؟
أجابه هيثم بسرعة عن اسمه ونسي بنفس السرعة استغرابه ودهشته من تبدل لهجة الشرطي, بمجرد أن سمعه يسأله عن الدخان
أعاد السؤال
هل تدخن يا سي هيثم ؟
لم ينتظر إجابته وإنما قدم له سيجارة ومده بمنديل ورقي ليجفف به العرق ويمسح عن عنقه الدم ومن وجهه بقايا البصاق المختلطة بالدموع والمخاط.
التقط هيثم السيجارة بلهفة قبل أيأخذ المنديل. أشعلها بارتباك وسحب منها نفسا عميقا وطويلا, ثم زاد نفسا ثانيا وثالثا بنفس الشراهة وكأنه يعوض الساعتين اللتين ظل فيهما موثوق اليدين في مركز الشرطة.
تركه الشرطي يدخن قليلا ثم سأله بعد أن قام من كرسيه المقابل
اسمع يا هيثم انس الآن كل ما حدث لك في المركز ولا تهتم لأمر البضاعة التي تكسرت فسوف تعوض عنها بضعفها, فقط كن متعاونا معي ولا تخف مني فلن أضربك ثانية.
وضع علبة السجائر فوق الطاولة بعد أن سحب واحدة وأشعلها ثم قال
أمك تبيع قوة عملها لتشتري أنت البضاعة. جيد. كلام جميل بل كلام علمي ولكن هل تبيع قوة عملها أم قوة مؤخرتها
ود هيثم لو كانت في يده الآن عصا غليظة ليدكها في مؤخرة هذا الخنزير النتنة.
واصل الشرطي سؤاله
هل تعرف من قال أن العامل يبيع قوة عمله ؟
قفزت إلى مخيلة الصبي فورا صورة كارل ماركس وصورة لينين المعلقتين في بيت رفيقه سامي بباب الخضراء ومرت أمام عينيه عدة عناوين لكتب اقتصاد واقتصاد سياسي كان قد قرأها في بيت سامي وناقشاها سوية, ولكنه لم يكن مستعدا للإجابة عن سؤال الشرطي, بل إنه لن يكون مهيأ أبدا مهيئا للإجابة عن مثل هذه الأسئلة لأي كان, لا الآن ولا غير الآن. إنه لن يخون رفيقه حتى لو قتله الشرطي وكل "الحاكم" ضربا ولطما وركلا... حتى لو فتحوا له رأسه الصغير... واتلفوا كل بضاعته وحتى لو قدم له الشرطي علبة السجائر كاملة وعوضه عن بضاعته بأضعافها فلن يخون "الروح الرفاقية" التي جمعته بسامي وباقي الرفاق الذين عرفهم في باب الخضراء وفي مقهى الدباغين وفي أماكن مختلفة.
أموت ولا أنطق بحرف واحد. نطقها في سره وخرس.
طال صمته وذابت السيجارة من دون أن ينتبه إليها إلا عندما أحرقت طرفي إصبعيه, حينها تفطن للشرطي القابع أمامه فخرج من مخيلته التي أخذته إلى أزقة باب الخضراء ليعود إلى مخفر الشرطة.
رفس عقب السيجارة المحترق تحت حذائه وتجرأ وطلب سيجارة ثانية.
بعد أن أشعلها والتهم منها نفسين متتاليين قال متلعثما
_ صدقني سيدي أنا لا أعرف شيئا, لا عامل ولا قوة عمل, فقط أعرف أن "كل شيء بخمسميا" وأعرف أن أمي تنتظرني الآن وتنتظر الدواء لعينيها وأموال السلفة وبعض الخضار وثمن قارورة الغاز إن أمكن ذلك. صدقني سيدي هذا كل ما أعلمه. والله هذه هي الحقيقة.
وبدا وكأنه سينتحب.
طيب. حسنا.
أردف الشرطي ذي النجمتين ثم صمت قليلا وكأنه يرتب أفكاره. قام من فوق كرسيه المقابل لهيثم وأخذ علبة السجائر. فتحها ببطء وأشعل سيجارة ثم استدار من خلف الصبي وعاد إلى كرسيه وراء الطاولة, وشرع يتكلم وكأنه يواصل حديثا سابقا وكان هذه المرة يركز نظراته الحادة إلى عيني الصبي الصغير
اسمعني جيدا يا هيثم, دعنا الآن من قوة العمل وكارل ماركس ودعنا من نهب البروليتاريا واضطهادها واحتكارات البرجوازية وجشعها وانس أنك متهم بالبيع الموازي والانتصاب العشوائي من دون رخصة.
صمت قليلا. سحب من سيجارته أنفاسا متتالية ثم واصل كلامه
ما دمت تعرف قوة العمل فالأكيد أنك تعرف عقوبة مخالفتك وتعرف أنك ستسجن على الأقل ستة أشهر وتدفع خطية مالية ضعف قيمة بضاعتك وتعرف أيضا أننا سنحجزها هنا عندنا وسنقتسمها فيما بيننا
احجزوا البضاعة يا سيدي واتركني أعود إلى أمي
نطق هيثم الجملة الأخيرة وكأنه يتوسل الشرطي القابع أمامه, وتقافزت إلى مخيلته صور السيارات الفارهة والفيلات العالية وسط الحدائق الشاسعة وتخيل مالكيها رائحين غادين بين الطباخ والجنان والسائق والحارس الشخصي والليلي والمنظفة و... أليسوا هم الذين يجب أن يحجز سمومهم المستوردة ؟ أليسوا هم الذين يجب أن يحاكمهم لما اقترفوه في حق بلاد كاملة ؟...
قطع الشرطي شرود هيثم قائلا
اسمع جيدا يا هيثم ستأخذ كل بضاعتك وتعود إلى حضن أمك قبل مجيء الليل, بل سنمنحك مع بضاعتك رخصة للانتصاب والبيع بنهج الدباغين ومعها أيضا مبلغا محترما من المال لتقتني بها بضاعة أخرى وتوسع نصبتك وتجارتك. فقط كن متعاونا معنا.
صمت قليلا ثم أضاف
نريدك أن تأتينا فقط بأخبار رفيقك سامي لا أكثر ولا أقل

أفكار متقاطعة 19

في غرفة الإنعاش

تنتهي فعاليات الدورة العشرين لأيّام قرطاج السّينمائيّة اليوم نوفمبر ، ولن يختلف اثنان على أن هذه الأيام الثّقافيّة المشهديّة صارت تمثّل الفرصة الوحيدة ـ تقريبا ـ التي ماتزال تراهن عليها دُور السّينما لتنقذها من التّحوّل إلى محلاّت لبيع «الكفتاجي» أو»الفريكاسي» أو لتكديس «بالات الفريب» !!!
وهي التي امتهنتها فعلا أغلب الدُور بما تـطرحه على روّادها طيلة السنة من أفلام قديمة ومستهلكة في محاولة فاشلة لجلـب الجمهور السينمائي، الذي ولّى وجهته إمّـا نحو الفضائيّات المختصّـة وإمّـا نحو أجهزة الكومبيوتر التي تواكب فعليّـا أحدث الأفلام وذلك بفضل عمليّة «القرصنة» التي يمارسهـا أصحاب محلاّت «نحت الأقراص» (gravure cd) ويروّجونها بأقل من نصف ثمن تذكرة دخول لأحدى قاعات السينما، ويكفي أن نذكر ملايين النسخ لفيلم «آلام المسيح» أو فيلم «شيفرة دافنشي» التي بيعت عن طريق القرصنة قبل أن يدخلا القاعات!!! وقس على ذلك كل الأفلام ذات القيمة، الغربيّة منها والعربيّة.
هذه الظاهرة ساهمت بقدر كبير في ايصال دُور السّينما إلى حالة احتضار حقيقيّة لأغلب القاعات المنتشرة بالعاصمة وبالمدن الداخليّة، بل وتسبّبت في افلاس العديد منها... طبعا إلى جانب طبيعة توجّهات أصحاب القاعات التي تقوم في أغلبها على أفق تجاري مغلّف في ظاهره بتوجّه ثقافي سينمائي، وهو ما يتجلّى في نوعيّة الأفلام المعروضة وحتى في طبيعة المعلّقات الخاصة بالإشهار... هذه المعلقات التي تنهضُ أساسا على الإبتزاز العاطفي ومحاصرة الرّغبة ـ فقط ـ لدى المتقبّل/المشاهد من قبل المُوزّع /الباث، الذي يختار صورا «إيروتيكيّة» لجلب أكثر عدد ممكن من المشاهدين... وهذا طبعا على حساب القيمة الفنيّة والفكريّة للفيلم المعروض !!! وكأنّ السينما ـ في تونس ـ لا تستقيم إلا بالعراء والجنس المبتذل ؟!
هذا الإعتداء الرّمزي المتقاطع بين طرفين لا دخل لهما بالسينما وبالفكر والثقافة عموما، إلا بما اكتنزت به جيوبهما وأرصدتهما البنكيّة، هما اللذان وضعا القاعات على عتبة الإفلاس التجاري والسينمائي، وهما المتسبّبان الرّئيسيّان في تهميش المشاهد التونسي وجعله متأخّرا عن مواكبة الحركة السينمائيّة (باستثناء محبي السينما ومجانينها طبعا).
وَلَكُمْ أن تمرّوا أمام أيّة قاعة سينما داخل العاصمة وفي الدواخل على حد السواء بعد اسبوع واحد من انتهاء ايام قرطاج السينمائية، لتتأكّدوا من فنون الرّداءة والإبتذال التي صارت تطـوّق فضاءات الفن السابع، فإلى جانب المعلّقات الإشهاريّة الإباحيّة، تمتدّ لافتة عريضة مكتوب عليها: «ساعتان من الضّحك المتواصل» (حتّى وان كان فيلما كارتونيّا!!!) هذا طبعا إلى جانب أغاني «المزود» التي تثقب مسامعك عن بعد كيلومتر!!! وإلى جانب كل هذه الفنون يمتد طابور طويل من الفراغ والأشباح أمام شبّاك التّذاكر المغلق أسـاسا!!! فهل هناك ما يميّز قاعات السينما عن البيوت الأخرى !!! وهل مازالت تصحّ عبارة «قاعة سينما» على هذه الأماكن ؟!!
قد يواسيني أحد القُـرّاء ويقول لي مثلا أن ما ذكرته الآن ليس إلاّ مشهدا من مشاهد أحد الأفلام الجديدة التي تصوّر هنا أو هناك... أو يذكّرني مثلا بأن «المواصفات» التي أصبغتها على قاعاتنا لا تختلف عن «مواصفات» قاعات السينما بشارع «بيغال» (rue de pigalle) في قلب باريس (بكل دلالاته وايحاءاته التي تعرفونها)... أو يقول مثلا أنّني أبالغ فيما أكتب وأنّي لا أتقن إلا الكتابة بالحبر الأسود و أنّي لا أحسن المشاهدة إلا بعين واحدة... ولكن هي ذي حقيقة دور السينما فعلا في بلادنا، لاتنهض إلاّ على التّجارة ولا أفق لها أبعد من الرّبح المادي، وهي لهذا السبب بالذّات تعيش حالة احتضار قصوى ستنتهي بها حتما إلى «الموت» والخروج من دائرة الفعل الثقافي البنّاء الذي يضع نصب عينيه وقبل كل حسابات ضيقة مستقبل الثقافة السينمائيّة الوطنيّة، ويسعى جاهدا إلى تجديد تلك التقاليد الفرجويّة الرّاقية التي ميّزت المشاهد التّونسي في فترة الثمانينات خاصّة، عندما كان يدخل قاعة العرض وهو محمّل بالكتب والأفكار والرّؤى لمناقشة القضايا التي يطرحها الفيلم المعروض، والذي يتعامل مع «ظلام «القاعة بكل وعي وإلتزام باعتباره طقسا من طقوس العرض لا فرصة «ولائميّة» !!!.
ولأنّي لا أؤمن شخصيّـا بعرض الظواهر وتحليل تفاصيلها فقط، وإنّما أحاول أن أطرح حلاّ أومخرجـا عمليّـا للمسألة المطروحة، فإنّي لا أتحرّج البتّة من الدعوة إلى إغلاق كل دور السينما بالبلاد ـ على الأقل في هذه الفترة ـ ومحاسبة أصحابها على ما اقترفوه من تجاوزات في حق المُشَاهد أوّلا ، وفي حق السينما التونسيّة والثّقافة الوطنيّة ثانيّا، بل وتغريمهم عن أفعالهم المشينة بهذا القطاع، وبالمقابل ما ضرّ لو نفسح المجال أكثر أمام جامعة السينمائيّين الهواة والنوادي السينمائيّة المبثوثة في الفضاءات الثقافيّة والجمعياتيّة لتشارك كلها بما تمتلكه من رؤى وبرامج سينمائيّة لصالح هذا القطاع، خاصة وأن هذه الجامعة وهذه النوادي لها ما يكفي من طاقة وحماس ورؤىً مختلفة، لتنتشل حركتنا السينمائية من حالة الإنعاش التي يعيشها المُشاهد التونسي مرة كل سنتين، وكأني بنا نعيش في مستشفى كبير مساحته تبلغ كيلومترا، ونحن فيه نُزلاء بقسم الإنعاش أين يزورنا الطبيب مرّة كل سنتين ليضخّ في عروقنا الدماء بصدماته الكهربائية، تماما مثلما تضخ فينا وتصدمنا، (مشهديا لا كهربائيا) أيام قرطاج السينمائية، نفحات فنية جديدة ومُختلفة عن السائد المكرور والمُعاد المجرور مرّة واحدة بعد كل سنتين كاملتين

أفكار متقاطعة 17

غدا 10 ديسمبر

يظل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يوافق تاريخه يوم غد، الأحد 10 ديسمبر، رغم نواياه الحسنة، واقعا ضمن رؤية إيديولوجية أفرزتها طبيعة المرحلة التاريخية التي صدر فيها ()،
إذ ليس لحقوق الإنسان من معنى سوى حق رجل الأعمال الغربي في التسرب إلى كل ركن من أركان العالم للسيطرة على الأسواق والاستحواذ على الثروات واستثمار مواده الأولية وتحقيق الأرباح، وهذا هو جوهر كونية حقوق الإنسان بالمفهوم البرجوازي الإمبريالي، ظاهره إنساني أممي، وباطنه طبقي استعماري.أما اعلان حقوق المواطن في الدول العربية والذي أُقرّْ بقرار مجلس الجامعة عدد 668 بتاريخ 15 ديسمبر 1970 فقد ظل هو الآخر تنظيرا متعاليا ـ ولا يزال ـ عن الممارسة الواقعية، والعوائق تتعدد وتختلف، ويمكن حصرها في أربعة نقاط رئيسية، أولها الحلقات الاستعمارية الضاغطة، بمعنى التبعية العمياء للقوى الاستعمارية الأجنبية، ولا أقصد بهذا ضرورة الاستقواء بالأجنبي، لأن التبعية دائما ما تكون للدوائر الرأسمالية وللكمبرادورات الاقتصادية واللوبيات الاستعمارية في حين أن الاستقواء بالأجنبي هو الالتقاء الحر والواعي بالقوى الديمقراطية والتحررية في العالم من أجل ضمانة أكثر لإنسانية الإنسان.ثاني العوائق، فقدان التجارب الميدانية، بمعنى فقدان الصيغ التي تُطرح كبدائل أو أصول للنظم الديمقراطية، وسببه أن الشرائح التي تصل إلى سدة السلطة في أي قطر من البلاد العربية ، عبر كفاحها التحريري، هي الشرائح الوسطى أو الشرائح البرجوازية الصغيرة وهي بطبيعتها متذبذبة وغير مستقرة إيديولوجيا وسياسيا، ولهذا أسقطت ـ بمجرد نيلها استقلالا صوريا ـ برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية «الإصلاحية» لحساب مصالحها الطبقية وزجت بشعوبها نحو مطبات الفقر والجهل والقمع.ثالث العوائق هو ما يمكن أن نصطلح عليه بضياع العقل العربي بين جاذبية الأصالة/التراث من ناحية وجاذبية الحداثة/العولمة من ناحية ثانية، خاصة على مستوى التأويل الديني وتحليل العلاقات الاجتماعية وإنتاج الرؤى الاستشرافية.وآخر العوائق، وهو أهمها وأخطرها يتمثّل في الكيان الصهيوني وما استنزفه ويستنزفه من طاقات حيوية في مجالي التخطيط والعلاقات الدولية المُحتمل إقامتها بندية مع الطرف الآخر غير العربي.هذا على مستوى ما هو نظري، أما على المستوي التطبيقي الواقعي، فان الأسباب تختلف أيضا وتتعدد، فالبنية الانثروبولوجية للدولة تتسم عموما بطابعها الحصري القائم على الإقصاء، اذ السلطة تحتكرها جماعة محددة بشكل ضيق وهي أسرية، وفي الأعم اقتصادية ( نفطية، تجارية، صناعية، خدماتية...) وهي عموما تُغَيِّبُ دور المؤسسات وتوجه برامجها إن أوجدتها لالتزامات خارجية بطبيعة الحال مثل المنظمات الحقوقية غير الحكومية بصورة خاصة. وهذا الطابع الحصري يمنع أية عملية «ارتقاء» يطرحها من هو خارج إطارها ومنظومتها ولا تقبل به إلا إذا دخل منظومتها ( مثلها مثل نظام الموالي) مما يفضي عمليا إلى دفع هذا الآخر إلى المعارضة القصــوى ( التيارات المتطرفة). أما الحقوق والحريات الغائبة بشكل مفزع، فأهمها حرية الرأي والتعبير عنه شفاهة أو كتابة أو طباعة، وما حرية الرأي المزعومة إلا حرية الموافقة والإجماع المطلقين، وما تطور أجهزة الرقابة لدى مؤسسات الدول العربية أو تحديدا لدى الأحزاب الحاكمة إلا دليل قاطع على الانتهاك الصارخ لهذا الحق الرئيسي.أيضا الحق في التجمع السلمي سواء أكان ذلك في أماكن مغلقة أو في فضاءات مفتوحة، إلا إذا أوحت به أو نظمته السلطات الرسمية، كذلك حق تشكيل النقابات أو الأحزاب السياسية أو الجمعيات غير الحكومية، ولا يخفى على عربي واحد التباين الفاضح بين مقرات الأحزاب المعارضة التي تشبه المحلات التجارية أوالمساكن الشعبية وبين مقرات الأحزاب الحاكمة والتي تشبه النزل الفاخرة وهي المشيدة بأموال الشعب المنهوبة عنوة . ومن أهم الحقوق الغائبة أو المغيبة كليا في المجتمعات العربية هو حق المشاركة في إدارة الحياة العامة، إما مباشرة أو عن طريق ممثلين يختارهم بحرية الرفض والقبول فقط. أما أخطر الحقوق المغيبة فعلا خاصة منذ استفحال النظام الرأسمالي وتنامي آفة الخوصصة فهو حق الشغل ــ حق الحياة، ولا داعي للتذكير بجحافل المعطلين عن الشغل وآلاف المتعاقدين مع الموت والذل في كل المؤسسات والشركات. أعتقد أنّ هناك نقطتان مهمّتان يجب أن نضعهما في الاعتبار دائما وأبدا، الأولى تتمثّل في أنّ الدّفاع عن الحريات يعني القيام بهذا الدفاع في وجه المعتدي الحقيقي وهو لن يكون في معظم الأحيان سوى سلطة الحكم المنصبة من طرف القوى الإمبريالية، والراعية لمصالحها الاقتصادية والحضارية داخل أوطانها، والثانية هي أن نؤمن بأن كفالة الحريات وضمانتها مهمة نضالية مستمرة سواء أكان الحكم ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، فمادامت الديمقراطية ليبرالية في عمقها فإننا لن نضمن حقوقا متساوية لكل البشر.

أفكار متقاطعة 15

عــشــتُ لأروي
لم يتسنَ لي أن أعيشَ تلك التجربة الحياتية والوجودية الرهيبة التي ظفرَ بناصيتها الروائي الكولومبي غابريال غارسيا مركيز دون غيره، فكان جديرا بأن يدّونَ ما خزنته ذاكرته وزخرفَهُ خياله في كتاب تخيّر له من العناوين عشتُ لأروي
لم يتسنَ لي ذلك، وطبعًا لن يتسنَّى لحكمة نعلمها جميعًا، ولكني استسغت عنوان سيرته الذاتية «عشت لأروي» لأجعله عتبة لهذه البطاقة الأسبوعية التي توافق أول عدد من الجريدة بعد المؤتمر الواحد والعشرين لأعرق منظمة عمالية عرفها التاريخ الوطني... الاتحاد العام التونسي للشغل.استسغت العنوان لأروي بعضا من التفاصيل عن أول تجربة لي وأنا داخل «ماكينة» الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد أن حايثت فعاليات هذا المؤتمر الذي انعقد بولاية المنستير على امتداد 14 و15 و16 ديسمبر 2006...حايثتها لأني كنت من بين الصحفيين الملاحظين لسير العملية الانتخابية تصويتا وفرزا ... فتأكدت من أن «الديمقراطية» ممارسة مبدئية لدى نائبات ونواب هذا المؤتمر... وأن ما حدث خارج قاعة المؤتمر وخلف أسوار النزل الذي جمع مختلف الحساسيات السياسية وشتى الإيديولوجيات والتيارات الفكرية التي تشكل بالنهاية ملامح الاتحاد العام التونسي للشغل... هي أمور طبيعية وبديهية بل هي مؤشر صحي على انفتاح هذه المنظمة وتجانس تقاطعاتها واختلافاتها... ودليلي على ذلك القائمة الجديدة للمكتب التنفيذي المنتخب على إثر هذا المؤتمر...تنقلت إلى المنستير يوما قبل انطلاق المؤتمر ووقفت على مدى التضامن النقابي لما تعرض الأخ عبد الستار منصور الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بالمهدية والمرشح لعضوية المكتب التنفيذي الوطني لحادث مرور وهو في طريقه نحو المنستير... حيث أسعفه الأخ عبد الجبار الذهبي ثم خاطبه الأخ عبد السلام جراد في الحال ليطمئن على صحته والتحق به الأخ محمد شندول بسيارته لينقله إلى العاصمة... وصلت إلى النزل فوجدت تنظيما تضافرت جهود موظفي الاتحاد لإحكامه حتى تتم أشغال المؤتمر في أفضل الظروف وأطيبها... وهو ما شهد به كل ضيوف المؤتمر من الخارج والداخل...في بهو النزل وفي حمى القبل والتحيات مع النائبات والنواب وأعضاء المكتب التنفيذي المتخلي تأكدت أن المؤتمر سيكون ساخنا وفارقا في تاريخ المنظمة : بيانات تتهاطل، نشريات وصحف، اجتماعات في الغرف وجلسات في مختلف أركان النزل، قوائم انتخابية تهل بين الفينة والأخرى، حشود من النقابيين يرابطون خارج النزل، مرشحات ومرشحون «تزوجوا» هواتفهم المحمولة ...في قاعة المؤتمر، وأثناء الافتتاح تأكدت من استقلالية الاتحاد ... وتأكدت كذلك من أن حرية الرأي هي نبراس كل نقابية ونقابي، فكل متدخلة ومتدخل عبر عن رأيه بكل حرية ومن دون ضغط أو قمع... واستمعت داخل قاعة المؤتمر لتدخلات كنت أحسب أنني لن استمعَ إليها مطلقا بعد أن غادرتُ الجامعة...تحالفات وتجاذبات وتكتيكات، وقفت على بعض منها وهي تطفو بجلاء ووضوح يشوبه إبهام هنا وتردد هناك، وكل الوجوه تحمل ملمحا متشابها لم يخرج عن الخوف والتوجس أكدت لي بما لا يدع مجالا للشك أن كل الحظوظ متساوية وأن الفيصل الحاسم لن يكون إلا صندوق الاقتراع وانضباط النواب لمرشحيهم...من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ليوم السبت الموافق لـ16ديسمبر و إلى حدود الساعة الثالثة بعد الزوال ليوم الأحد 17ديسمبر 2006 تابعتُ عمليتي التصويت والفرز لانتخاب أعضاء المكتب التنفيذي الوطني الجديد للاتحاد العام التونسي للشغل لحظة بلحظة ـ مثلما فعلت جريدتنا على موقعها الالكتروني ـ فشاهدت بأم عيني الالتزام التام بشفافية وديمقراطية العملية تصويتا وفرزا... ومدى حرص لجنتي المراقبة والفرز ورئيس المؤتمر، الأخ مسعود ناجي، على إعطاء درس لكل العالم، عن حقيقة الشفافية والديمقراطية صلب الاتحاد العام التونسي للشغل...... وظهرت النتائج النهائية للمؤتمر 21 للاتحاد فانتصرت القبل والتهاني والأحضان على كل الأرقام والحسابات... و سقطت كل القوائم لتنتصر بالنهاية قائمة الديمقراطية والشفافية... قائمة القواعد العمالية... القائمة التي استشهد لأجلها الحامي وحشاد والتليلي وعاشور...وقبل أن أعود إلى العاصمة بعد اختتام المؤتمر الواحد والعشرين للاتحاد تأكدت أن «الحقيقة» لا يمكن أن تتاح لمن هو خارج إطارها... وأن الحياد هو ضامنها الوحيد الأوحد

بعد وفاة محمد شكري


طنجة تستريح من فاضحها

ليس هناك مكانٌ أكثراماناً من المقبرة. أعتقد أن الناس يحترمونأنفسهم أمواتً أكثر مما يحترمون أنفسهم أحياء
محمد شكري /الخبز الحافي
بين الشّهرة العالمية ومؤسسة المنع العربيّة عاش الرّوائي المغربي ،الطنجاويّ الأصل، محمد شكري وحيدًا بلا زوجة ولا أطفال بين مواخير وخمّارات مدينة طنجة التي كان يعتبرها بمثابة الزوجة والحبيبة والنّّديمة رغم أنها " مدينة ممسوخةٌ" كما وصفها هو في روايته الأشهر "الخبز الحافي"،وكان هو بالمقابل كاشف أسرارها والشّّاهد الحميم الذي عبّر عن روحها من دون مجاملة أوسترٍٍ،وهاهو اليوم يرحل عنها في صمت أو هي ترحّله رغما عنه ـ بعد أن أعياها فضحًا وهتكًا وانتهاكا وكشفًا لكل البُؤر المتعفّنة فيها ولكل زواياها المظلمة... وما طنجة إلا النموذج الأبلغ لكل المدن العربية من دون استثناء ـ بتفانيها في اختراع أساليب المنع والقمع،التّهميش والإفراد، التّقزيم والإدانة...التي مارستها السّلطة البطريركيّة ـ عليه وعلي رواياته ـ بمختلف تمظهراتها من جمعيات أولياء التلاميذ إلي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة ووزارة الدّاخليّة والإعلام وصولا إلي دُور النّشر التي تعضد هذا الطّغيان، مما جعل رواية "الخبز الحافي"مثلا ـ وهي التي رفض سهيل إدريس نشرها في بيروت وهي بكْرٌ ـ تُنشر بأكثر من تسعة عشرة لغة أجنبيّة منذ صدورها عام ،ماعدا اللغة العربية التي وصلتها بعد سنة!!!، ويترجمها الأمريكي بول بولز إلي اللغة الأنقليزية ـ بعد أن أعطي لمحمد شكري درهما ليشرب الزجاجة الطيّبة في حانة "روكسي" ـ ثم ترجمها الطاهر بن جلّون إلي اللغة الفرنسيّة وتعدّدت ترجماتها إلي مختلف اللغات فعاش محمد شكري ردحا طويلا من الزمن اسما عربيًا علي نص أجنبيٍ...هذا الاحتفاء العالمي قابله منع عربي لامبرّر له مما جعل محمد شكري يقول ـ وهو محقٌ في ذلك ـ : "إنّني أفضّل اليوم إحراق كل كتبي علي تسليمها لناشر عربي.لأنّ النّاشرين عندنا ليسوا جبناء فقط بل لصوص أيضا ومصّاصو دماء... ولو عوّلت علي النّاشرين العرب لمتُّ جوعًا." وطبعا ليس مُستغربًا ،بعد موت محمد شكري، أن يُسارع تجّار الورق إلي إعادة طبع كتبه وتصفيفها في الواجهات البلوريّّة للمكتبات لا لغاية تعميم فائدتها علي القارئ العربيّ وإنّما لمزيد الإستثراء فقط لا أكثر ولا أقلّ.رحل إذن محمد شكري ذاك المحارب الذي لم يتعب من الإقبال علي الحياة وطلب اللّذة والمتعة الماديّة والفكريّة. حياة لم يبحث لا عن عِبَرِها ولا عن قِيمِها ولاعن ماهِيتها، حياة نهمٍ ورغبةٍ وتعدٍ ومصارعةٍ ،إنها الحياة في ليل طنجة الأسطوريّ بكل مُباءاته وإجرامه المجانيّ... رحل ابن الفجر والمغامرة وابن الأندلسيّين الذين علّّموه كيف يكسب حياته بالعمل الوضيع والسّرقة والتحيّل دون خجلٍ أو ارتباك ، مثل صديقيه "جان جونيه وبول بولز" رحل محمد شكري الذي عاش أميًّا عشرين سنة قبل أن يتلقّي دروسه الأولي للُغة مضطهديه ( اللغة العربيّة ) قبل أن تصبح قدره الجميل... عشرة سنوات علي مقاعد الدراسة كانت كافيةٌ لتجعل منه كاتبًا استثنائيا. قصته الأولي "العنف علي الشاطئ" أعجبت سهيل إدريس فأعلن عبر نشرها عن ميلاد كاتب استثنائي، كاتب متمرّد، غاضب، يفضح الجميع بلغة عارية بالغة القسْوة. منذ أكثر من سنة لا يزال يسكن في نفس الشّقة، يصعد درجة نحو الطابق الخامس من عمارة "تولستوي"... العمارة بلا مصعد وشكري يقفز درجاتها و لا يشتكي منها ولا من أعداء الأدب...يصعد إلي أعلي ليفتح نافذة علي الحياة السفليّة وليضع أيقونة لحياة الحضيض ...لم يغّير شقّته أبدا لكنه كان يغّير حاناته باستمرار من "روكسي" إلي "نيكريسكو" إلي "إيلدورادو" و "ثقب في الجدار" وحانة "ريدز" حيث يمتصّ "الفودكا" كما الإسفنجة كل ليلة إلي الحادية عشرة ليعود إلي عزلته في شقّته أين كتب أغلب نصوصه: "مجنون الورد" ، "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء"، "وجوه"، "الشطّار"، "السوق الداخلي" ، " جان جينيه في طنجة" ، "تينسي ويليامز في طنجة" و "غواية الشحرور الأبيض"... هذا الكتاب الأخير الذي ضمّن فيه شكري مقالاته النقديّة والذي انتقد فيه نجيب محفوظ واتهمه بنقص التجربة و وصف شكسبير بالافتعال في وصف المشاعر الإنسانيّة... أما عن شكل موته فقد كان شكري يتمنّي أن يموت ذات يوما فجأة وكأس "الفودكا" أمامه علي الطاولة تماما كما يليق بكاتب من طينته، وقد كان يردد دائما مع أبيكور "مادمت أعيش فلا خوف من الموت. وإذا متّ فلن أحس بشيء" ويضيف "ما يُرعبني في الحقيقة ليس الموت بل المرض. أُفضّل أن أموت علي أن أمرض. أفضّل الموت الفجائي علي الموت البطيء. أن يموت المرء في الحانة وكأس الفودكا أمامه، أليس ذلك أفضّل له وللآخرين". "انه يري موته في النّبيذ" مثل "عزالدين قلق" كما صوّر لنا موته محمود درويش في قصيدته "الحوار الأخير في باريس."ومن يطّلع علي بعض كتابات محمد شكري سيكتشف احتفاء هذا المحاصر بلعنة طنجة بالموت، ففي "الخبز الحافي" ـ ذلك النص الذي كُتب أساسًا ضد الأدب لا لجرأته فحسب ولا ببذاءته وصراحته فقط بل أساسًا لتجاوزه لكل رقابة أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، وكتابته عن الجنس المثْلي والدّعارة والجوع بلغةٍ حرّة بلا كبتٍ ولا مواربةٍ ولا توْرية أو رمز أوكناية...حوّلته إلي ما يشبه وثيقة اعتراض أو مصدر لقيمٍ مضادة أو مدرسة أسلوبية ـ يقول "إنني الآن أحمل موتي علي كتفي" ونقرأ في موضع آخر من نفس الرواية "لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوي منا . لعبةٌ ُمُميتةٌ هي لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السّّابق لموتنا لإماتتنا: أن نرقص علي حبال المخاطرة نشدانًا للحيلة"، كما نقرأ عن الموت في رواية "الشطّار" ـ وهي الجزء الثاني من "الخبز الحافي" ـ "لكي نقهر فكرة الموت لا ينبغي لنا أن نتصوّر أنفسنا ميتين، انه مصيرك مع نفسك لا يخص أحدا ولا تنتظر أن يواسيك احد. اعتبر نفسك واهمًا ولو في الوهم. لا يقهر الموت سوي حب الحياة". كما يكتب في نفس الرواية "إن الإنسان هو كيف ينتهي لا كيف يبدأ".. وهو لا يخجل عندما ـ يعترف في كتابه "ورد ورماد" الذي جمع فيه مراسلاته مع الأديب محمد برادة في ما بين و ـ بأنّه فكّر في الانتحار مرّات عدة خلال الأسبوع الواحد...لن أقول أن موت محمد شكري يمثّل خسارة عظيمة للقارئ العربي، لأن القارئ العربي ميّتٌ أصلاًً، قتلته أدوات التكنولوجيا وأبعدته عن الكتاب، غرّّبته مظاهر التحديث الزّائفة فانبت عن كينونته وهويته ?.. وها هي فواجع الموت والرحيل النّهائي بدأت تمعن في تدميرنا كل مرّة، فبعد المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد جاء الدور علي الروائي المغربي محمد شكري والقائمة حتما ستطول والموت لن يستثني أحمد فؤاد نجم ومظفّر النوّاب ودرويش وأدونيس وسيأخذ وحيدر حيدر وخريّف والكوني وجبرا ، وكذلك لن ينسي محمد أركون والجابري والمهدي المنجرة وجابر عصفور و نصر حامد أبو زيد ومحمد الطالبي وجعيط... وإن رحل هؤلاء فلن نطمع بعد ذلك في هوية أو انتماء أو خصوصيّة ستحميها سلطة معرفية إبداعية ذات أفق أرحب من السلطة التسلّطيّة ذات الطّقوس الجنائزيّة التي تتقن جيدا إنتاج كل مبرّرات الموت والإفناء فقط وتعمل بالمقابل علي تلقيننا دروسا في الغباء حين تغيّب وتمنع عنّا كل وسائل الحّس الإشكاليّ والمساءلة النقديّة، بل إنها صارت تحتفي أكثر "بالميتوس" (الأسطورة ) والشعوذة واللاّهوت وتسعي جاهدة بكتّابها البلاطيّين إلي إقصاء "اللغوس" (العقل) لتوهمنا بقدريّة ما أوصلتنا إليه ولتُمعن في تقزيمنا أمام أنفسنا و إذلالنا أمام الآخر متناسيةً أن الطريق اللاّّهوتي هو الطريق المؤذن بفاتحة الخاتمة، بل إنّنا وصلنا إلي خاتمة الخاتمة بعد الذي حدث في العراق ويحدث في فلسطين وسوريا ولبنان وو.. فما الخراب الذي نحن فيه إلا نتاجٌ طبيعيٌ لمسار التخريب الذي تنتهجه السّلطة الرجعيّة ضد أطر الإسناد الإبستيمولوجيّة الإبداعيّة لا الاتباعية بدءا من قتل ابن باجة وتشريد ابن رشد والمعرّي وابن طُفيل وصولاً إلي إخصاء مظفّر النوّاب واغتيال حسين مروّة ومهدي عامل ومُحاكمة حيدر حيدر ونوال السّعداوي وغسّان كنفاني والحُكم علي منوّر صمادح بالجنون والانتهاء بمحمد شكري إلي مستشفي الأمراض العقليّة ..إلي أن قتله عشق طنجة ولم يقتل أسطورة "الخبز الحافي" التي لن تقتل ـ مع باقي رواياته ـ محمد شكري الأديب وكما يقول الشّاعر والرسّام "جان كوكتو" الذي كتب سيناريو فيلم يتصوّر فيه موته مسبقا فتوجّه إلي بيكاسو قائلا "لا تبكي هكذا، تظاهر فقط بالبكاء فالشّعراء لا يموتون إنّهم يتظاهرون بالموت فقط."