بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/12/30

كل عام وانتم مقاومون

عمتم مساء أيها المدعوون إلى حفلات رأس السنة الميلادية الجديدة...

عمتم صباحا، أنتم أيها السكارى المنثورين فوق إسفلت المدن/الملاهي وأرصفتها...

مرحى لكم جميعا وأنتم تصلون ليلكم بنهاركم وسنتكم بلاحقتها... بالشمع المعطر والخمر المعتق... بنكات السنة الماضية وقبل السنة القادمة...

مرحى لكم وأنتم تخيطون النصف بالنصف بحكايات حذاء سندريلا ونواقيس الملاعق الفضية...

مرحي لكم أيها السكارى الساهرون داخل مخيمات الورد... أيها الآمنون بحسن الأمن...

مرحى لأصدقائي القدامى وهم يلفون قطع المرطبات بين أوراق صحيفة وشحت صفحتها الأخيرة بمقاطع من قصيد «ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة» لمظفر النواب...

مرحى لأصدقائي القدامى أيضا وهم يتدافعون أمام بائع البطاقات البريدية يرسلونها مضمونة الوصول إلى نيويورك... أو إلى نيو أصدقائهم...

مرحى لهم وهم يفعلون كل هذا ويتذكرون _ فقط يتذكرون _ مقطعا شريدا من أغنية «بنت الباي» للأزهر الضاوي (٭) : «... لا وسكي في الري فيون (٭٭) ...»

مرحى لكم بالوسكي الأمريكي...

عمتم صباحا مساء وكل رأس سنة جديدة أيها العروبيون، الوطنيون، التقدميون، الأبيقوريون حد الموت...

الموت...

صباح الموتى... مساء الموتى... كل عام وأنتم موتى...

عمتم مساء أيها الساقطون في اللهب... عمتم صباحا أيها الصاعدون من اللهب...

كل سنة وأنتم ناهضون من اللهب... قادمون من اللهب...

سائرون باللهب إلى الأمام... أعلى من اللهب...

عمتم مساء أيها الفلسطينيون المشردون في مخيمات الريح...

عمتم صباحا أيها العراقيون المذبوحون بين المشانق والزنابق...

كل عام وأنتم مقاومون... صامدون... عائدون... محتفلون بالقوارير والشمع شظايا في وجه الأمريكيين... الإسرائيليين... العروبيين... الوطنيين... التقدميين... الأبيقوريين حد الموت...

صباح المجازر... مساء الجنائز... كل عام وأنتم ناهضون من المجازر... كل عام وأنتم عائدون من الجنائز...

كل عام وأنتم مقاومون أيها الفلسطينيون...

كل عام وأنتم مقاومون أيها العراقيون...

كل عام وأنتم صامتون أيها العروبيون...

مرحى لكم أيها الفلسطينيون بالقذائف، بالمدافع، بالحرائق، بالمعتقلات، بالمذابح والمجازر...

مرحى لكم بالسنابل والكرمل والبرتقال...

مرحى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة بالحجر...

مرحى لكم أيها العراقيون بحزن النخيل، بسجن أبو غريب، بقبضة الطوائف، بالعرق العراقي، بالحفل ألأممي الذي دعي له النفط ولم يدع له العراق...

مرحى لكم بهويتكم توقعونها كل رأس سنة جديدة بالمتفجرات...

كل عام وأنت وطن أيا عراق...

كل عام وأنت وطن أيا فلسطين...

كل عام وأنت مستعمرة أيا جغرافيا المنافي...

كل عام والفلسطيني لا يخطئ عد السنوات :1948... 1948... 1948... 1948... 1948..

كل عام والعراقي لا ينسى عد السنوات :9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003... 9 أفريل 2003...

كل عام والعروبي يتقن عد السنوات:...2003...2004...2005...2006...2459...

كل عام وأنا أكتب بالحبر الأسود...

كل عام وأنت تقرأ بالنظارة السوداء...

(٭) فنان تونسي ملتزم.

(٭٭) تركيب شعبي للتعبير عن رأس السنة الجديدة والذي يقابله بالفرنسية (Nouvel An)

2008/12/17

عندما سمعني أدونيس أقرأ شعرا بالعاميّة قال لي أتمنّى لو أكتب بالعاميّة...

أنا لا أكتب الحوليات وأطول قصيدة أنجزها في ليلة واحدة...

كل ناقد يعتبر نفسه إلهًا يحيي ويُميتُ من يشاء...

أدين بجزء كبيرمن تجربتي الشعريّة إلى مدونّة الشعر التونسي...

عرفتهُ سماعا، ثم نصا، ثم احتككت به لماما منذ سنتين تقريبا الان اقتربتُ منه أكثر، لامستُ بعضا من روحه، من فكهه... تبيّنت قدرته الفائقة والعجيبة على حياكة صور شعرية وهو ينثر الحكايات العابرة...
صديق قديمٌ ومتجدّد للعديد من شعراء تونس، ومطلّع بشكل واسع على المدونة الشعرية التونسيّة... كثيرا ما زار تونس ليقرأ شعره واخر زياراته كانت ضمن استضافة من جريدة الشعب ليكون ضيف شرف على الدورة الرابعة لملتقى الشعراء النقابيين التي التأمت بمدينة سوسة...
هو صاحب احدى عشرة مجموعة شعرية هي على التوالي «واضحا، سلسا، غامضا» (99) ـ «الابحار والخوف»(99) ـ «ما بصالحْ» (99) ـ «سونيتات شاميّة» )2001) ـ «الأرض ترفع ساقها» (2002) ـ «الاســـماء» (2003) ـ «ذيب الشلايا» (2004) ـ «هذيان الجسد» (2005) ـ «حفيد النبات» (2007)ـ «قمصان اللجاة» (2007) ـ «ومائيل في وحامه الكنعاني» (2007)...
هو الشاعر السوري الدمشقي الشامي شاهر الخضرة...
كيف تقدّم تجربتك الشعرية او تحديدا كيف تصنّفها من داخل التجربة ومن خارجها ان صحت العبارة بعد عشرة مجاميع شعرية؟
ـ كوني بدأت بالنشر متأخرا اي في عام 2000 وبعد تجربة شعرية مرّ عليها ربع قرن لم انشر فيها كنت اكتب الشعر واحتفظ به في الادراج ولم اكن انشر منه الا القليل وأعتبر انني عشت مراحل شعرية في الربع قرن التي كانت صامتا فيها عن النشر.
اولا تلك التي ولجْتُ بها عالم النشر، نشرت قصائدي التي لم يُسمح بنشرها في فترة الثمانينيات، نشرتها كلها. وجدت نفسي ان تلك الحالات الشعرية السابقة والتي لن تعود كما كانت وضعت فيها حرارة الكتابة وان كانت اقل مستوى عمّا اكتبه الآن ولكن باحتكاكي بتجارب الشعراء العرب وغيرهم ممن التقيت بهم وجدتُ نفسي أنني عندما التقي بشاعر كأنما التقي باحدى حالاتي السابقة فيكون لقائي باعثا لحالة عشتها سابقا أو لنقل قادحا لفترة ما عشتها، فلمّا أخذت بالكتابة مثلا حول مخيال الاساطير في بلادنا الكنعانية والسومرية وجدت أن القصائد التي كتبتها ولم أنشرها في الماضي كأنها بذور لا تصلح لأن تكون مشروعا شعريا ولكنها تصلح لأن يُعتنى بها لتنمو بنفس الارض التي بُذرت فيها ولكن بمناخ يلائمها بعد اثراء التجربة، فوجدتني أكتب القصيدة مستخدما هذه الاساطير دون ارباك لتلك الافكار... يعني صرت قادرا أكثر على «شعرنة» تلك الاساطير فمنها ما أتقمصه وصار لدي جرأة كبيرة على الأسطورة والتراث وان كان دينيا فأقول ان مرحلتي السابقة هي مرحلة ارهاصات البذور عندما حان موعد قطافها جاءت بشكل طبيعي وكأني ولدت للتو، وكأني شاعر لا يعترف بالزمن فكل قصيدة هي عمرٌ بحاله وهذا لا ينفي ان لكل قصيدة عمرها الطبيعي، عمر كتابتها وعمر قراءتها وكذلك عمر نشرها... وأستغرب أحيانا من فكرة الاجيال في الشعر، السبعينيات الثمانينيات او التسعينيات في الحقيقة وبرأيي الشخصي لو قرأنا مثلا قصائد نزار قباني التي كتبها في الاربعينيات والخمسينيات والستينيات فهل يمكن لنا ان نقول انه شاعر من جيل الاربعينيات مثلا؟!! ام انه تجاوز بقصائده كل الاجيال وكأنه كتب لعجوز في ذاكرتها ولصبية نهدتْ للتوّ وبهذا فالشعر الحقيقي منفلت من الزمن ومن التجييل...
أصل الى القول، وربما لأناقض نفسي فيما قلته، أن القصائد التي كتبتها بعد احتكاكي بالتجارب الشعرية ولا أقصد قراءة وانما اقصد احتكاكا مباشرا بالشعراء هي التي جعلت قصائدي أكثر غنى من القصائد التي كتبتها وانا منعزلٌ بين الكتب وأكتب فيها ما يكتنفني مرّة ممّا أقرأ ومرّة ممّا أعيشه معتزلا...
كلامك الأخير يفترضٌ أن تحتك برامبو مثلا أو إليوت او المتنبيّ او المعريّ؟
ـ انا اقول في هذا تأثري فيما كنت اقرؤه كان واضحا وحقيقيّا أيضا ولكن كنت اقرأ وأتأثر وأكتب القصيدة من خلال القراءة والتأثر انما عندما سنحت الفرص لي بأن ألتقي بشعراء عرب وغير عرب وهؤلاء أيضا ممّن قرؤوا رامبو وإليوث والمتنبي والمعرّي وغيرهم من كبار الشعراء فأضيف لي تجربة اخرى متأثرة فأستفدتُ من حالتين أو أكثر من حالة، مرة من تأثري ومرة من تأثره فعندما أستمع لشاعر اعرف كثيرا من مصادر قصيدته كما أعرف مصادر قصيدتي مما جعلني اضع قصيدتي في عدّة معايير: كيف تأثرت أنا وكتبت وكيف تأثر هو وكتب فأجد نفسي اضعف احيانا فيما تمخضت به تجربتي إن من حيث الاسلوب او الشعرية قياسا بهذا الشاعر الاخر الذي اجده حاز السبق او نال حظا اكبر من حظي وتمخض نتيجة تأثره فأنتج قصيدة اجمل من قصيدتي وهذا ما يحفزني لاعيد النظر في بعض مما كتبت لأعمّقها أكثر وبهذا كنت أقول دائما كل من ألتقي به شاعرا او قاصا او روائيا او مفكرا اذا لم يضف لي شيئا جديدا فأنا لست بحاجة اليه لكي اضيع وقتي، لان هناك من الشعراء من تيسر لهم من الظروف ما لم يتيسر لي بأن التقوا بشعراء من العالم ومعرفة لغات كثيرة وأن يقرؤوا اضعاف ممّا قرأت ويتمتعوا بذاكرة حيّة وحس أرهف لالتقاط في الكثير من الاحيان ما لا أنتبه له، وعلى سبيل الذكر انا مثلا قرأت زوربا كما قرأها الكثير من الكتاب والقرّاء واجتمعت بأصدقاء ممن قرأها واخذنا نستحضرها فوجدت ان كل ما يذكرونه موجود في خزائن ذاكرتي دون ان انتبه أو افكر بحفظ تلك الجمل القوية فشعرت كأنني قرأت ونسيت والان جاء من يذكرني بما نسيت وهذ الامر ينسحب على العديد من الكتب...
أذكر مرة كنت في أمسية شعرية لشاعر كبير تربطني بشعره سنوات طويلة من القراءة فقد تأثرت بقراءته للقصيدة وطريقة القائه فظننت انها قصيدة من قصائده الجديدة التي لم اقرأها من قبل وعندما سألته قال عاتبا كيف تسألني هذا السؤال وأنت تقول انك قرأت ديواني ثلاث مرات المنشورة به القصيدة، أي أعني ان القراءة وحدها كثيرا ما اعتبرتها كالطعام آكل لأسٌد جوعي ولا اعرف بماذا احتفظ جسمي وما طرح من الآكل...
في صدد تجربتي الشعرية، ربما لانها مختلفة باختلاف حياة صاحبها عن باقي الشعراء، انا مثلا لا اعيش في اجواء شعرية مدى عمري، عشت مع العمّال سنوات من عمري،، ولا اقصد العمال المرتبطين بتنظيمات او نقابات فيها شيء من الايديولوجيا والثقافة العمالية بل عمال فحسب عشتُ مع السائقين... مع التجار حيث عملت في التجارة أكثر من عشرين سنة و كنت تاجرا ناجحا ووسط التجارة لا مجال سوى التفكير في المال والربح، كذلك مع الطبقة البسيطة من الفلاحين عشت ايضا لا شيء يُذكر سوى هموم الحياة الشخصية وإن اهتموا فبنوع من الحماس لبعض القضايا الوطنية وتنتهي، بينما كنت انقل حياتي مع كل أصناف الناس الى الورق لأجعل منها مادة ادبية. دون ان افكر في يوم من الايام ان اقرأ لهؤلاء قصيدة من قصائدي بل كنت اتحين الفرص ـ وما اقلها ـ لأقرأ ما كتبت على بعض الاصدقاء القلة حين التقيهم وربما يمر العام والعامان ولا ألتقي أحدهم فأكتفي بارسال نصوص لهم كرسائل شخصيّة وتنتهي المسألة بجواب على رسالة لا أكثر ولا أقل.
لكن بعد أن هيأت لي ظروفي الماديّة ان أتفرّغ للشعر قراءة وكتابة منذ عام 1999 تقريبا وبدأت بالسفر والسعي الى ألتقي بشعراء قرأت لهم منهم من كان اسمه يشغل الدنيا كأدونيس مثلا ومنهم من اعتبرهم مثالا لي في الشعر، بعد ان تم لي ذلك كانت الخسائر اكبر من الربح لانني شخص حساس جدا وقد يزعجني اي موقف فيه غرور من كاتب او شاعر وما أكثر تلك الامراض في كتابنا وشعرائنا فالكثير من هؤلاء يحبّون ان تكون دائرا في فلكهم أو مريدا لشعرهم وعليك ان تسجد لنجوميتهم أولا وتقر لهم باوليتهم وتميزهم حتى يقبلوك كمريد وهذا ـ كنت بسبب حياتي البعيدة عن هؤلاء ـ ما لا أستطيع أن أقدمه لاي اسم مهما علا شأنه وأذكر أنّني ركبت الطائرة على حسابي الخاص وذهبت الى بلد عربي كان يحتفي تكريما لشاعر كبير، وجلست اسبوعا كاملا أتابع نشاطات الشاعر وأمسياته ولكني ربأتُ بنفسي ان اقدم نفسي له وان اعرّفه إلى نفسي فرضيت بما كنت أرضى به من قبل أي بشعره فقط وأعتقد أنني لم أحبه شخصيّا ولكن هذا لم ينقص عندي من قيمة شعره وصرت بعده أقول أن الكثير من الكتاب كتبهم افضل منهم.
هذا في الجانب السلبي ولا ينسحب على كل الشعراء فهنالك كتاب وشعراء كبار لا يجبرونك على أن تبذل نفسك لتكون صديقا لهم والصداقة ليست مطلبا من طرف واحد فحسب بل هي من طرفين..
باعتبارك تكتب باللهجة العامة وفي نفس الوقت باللغة الفصحى كيف توازن بين الشكلين او الاسلوبين خاصة من ناحية بناء الصورة الشعرية وايقاع القصيدة؟
ـ صديقي ناجي مرّة قال لي أدونيس ـ وكنا معا في السيارة ـ بعد أن سمع مني قصيدة باللغة الدارجة، قال لي أتمنى لو كنت اجيد كتابة الشعر باللغة الدارجة وهو المعروف بموقفه الرافض للغة العامية وبتشدّده للغة الفصحى عندما قال لي هذا قلت له والله اني كنت اتمنّى أنني لا أعرف الكتابة في اللغة الدارجة وقصدي تلك المعاناة التي اعيشها في التشظي بين اللغتين وأعني أنّني لا اعرف مصدرا معرفيا ثقافيا شعريا باللغة الدارجة فكل ما اعتمدت عليه في حياتي كان عن طريق القراءة بالفصحى ولم أحصل من اللغة العامية سوى ما عرفته من المتحد الاجتماعي الذي عشت فيه طفولتي وجزءا صغيرا من شبابي الاول لأنني غادرت ذلك المتحد الصغير وأعني بها قريتي، غادرتها ولم أتجاوز العشرين من العمر الى مجتمعات عربية مختلفة في لهجاتها عن لهجة القرية التي عشت فيها مثل ليبيا وليس ليبيا الشمال وانما اقصى الجنوب وتحديدا في منطقة فزّان الليبية ومنها الى عمق الصحاري السعودية وليس المدن، وذلك لسنوات تفوق ماعشته في قريتي مرّة ونصفا على الاقل الا أن تلك الجذور القوية للغة الدارجة التي تجذرت في داخلي أبت الا ان تكون الاقوى فمثلا كنت اقلّد بسهولة طيلة عيشي في ليبيا اللهجات المحلية وكذلك في السعودية كنت اقلد اللهجات الخليجية ما عدا ثلاث حالات حين اكون غاضبا وحين أمارس حالة عشق وحين اكتب الشعر... في هذه الحالات تمحي كل اللغات واللهجات التي اكتسبتها وتطفو على تلقائية اللغة التي ولدت بها وفيها.... اقصد لهجة اهل القرية.
يعني هذا انك لا تتكلف اللغة وأنت تنتج قصيدة ما بمعنى انك تكتب ما يطلق عليه قصيدة الحالة؟
ـ لأكن صادقا في الاجابة عن سؤالك هذا بالنسبة لي قد يعتبره الاخرون او من قرأ لي ان هذا القول غير صحيح بسبب صعوبة اللغة وصعوبة اقتناص المعنى والاحاطة به في كلتا القصيدتين، الفصحى والعاميّة واجابتي عن هذا السؤال ببساطة انني لا اتكلم اولا أكتب القصيدة من لغة خام، فأنا استطيع ان اقول ودون غرور انني قرأت من الكتب قديمها وحديثها، وما وجدتُ لنفسي منهلا اكثر من الكتب الصعبة وربّما هذه القراءات تنعكس في قصائدي، أجدها بالنسبة لي امرا طبيعيا وغيري قد يجدني ناحتا او متكلفا وانا لا اكتب الحوليات من القصائد فأطول قصيدة كتبتها انجزتها في ليلة واحدة سوى بعض المطولات التي احتجت لليلتين او ثلاث.
قلتُ انك نهلت من الكتب الصعبة، وسأفترض ان هذه الكتب الصعبة هي كتب المتصوفة مثلا والكتب الفلسفية وربما ايضا الكتب التي ترصد حركة الاساطيرفهل يعني هذا أنّ مدونتك الشعرية تستند لهذا المنحى الصوفي والفلسفي والاسطوري؟
ـ الاجابة بكل تأكيد نعم، كثير من القصائد التي كتبتها اثر تلك الكتب التي قرأتها، ولا اخفي عنك، فقد كتبتها احيانا في الفصحى واحيانا في العاميّة، وكتابي «سونيتات شاميّة» يحتوي على تسع قصائد تحت هذا العنوان كلها إمّا من المخيال الصوفي او الاسطوري او من الفكر الانساني، وسمعت من اناس من بيئة لغة الدارجة يقولون لي لماذا تصعّب علينا حتى الشعر العامي واصبحنا لا نفهم قصائدك رغم انها مكتوبة بلغتنا الدارجة، وجوابي بكل بساطة تلك هي لغتي التي وصلت اليها ولم اصل اليها بسهولة فلا تقرؤوا شعري بسهولة...
لدي قصيدة في العامية عنوانها «خرير الماء» ترجمت الى عدّة لغات أجنبية مع قصائدي الفصحى لم يسألني قارئ بتلك اللغات ممن التقيت هل هذه قصيدة كتبت بالفصحى وتلك بالعامية لانها وصلت الى تلك اللغات كما يصل الشعر الصافي الى اي لغة اخرى بينما في ربوعنا مازال من يقول لمن تكتب قصيدتك العامية ولماذا هي صعبة وغيرها من الاسئلة التي تنتجها مفاهيم ابناء جلدتنا للشعر وكأنّه، أيّ كأن مفاهيمهم هي الشعر.
ومن المفارقات العجيبة ان قصائدي العامية وجدت آذنا صاغية ومحبين في غير بلاد الشام التي اكتب بلهجتها كمصر مثلا وكذلك دول المغرب العربي فاستغرب كيف يتقبل المتلقي المغربي شعري العامي ويعتبرني على أساسه شاعرا بينما الشعراء السوريون يضعونني بين قوسين حينما اذكر كشاعر.
لماذا لم تأخذ مدونتك الشعرية حظّها من النقد بشكل كاف؟

ـ لا بشكل كاف ولا بأي شكل. ما كتب عن شعري لا يتعدّى قراءات بسيطة أو تقديمات لدواويني. أعتقد ان اهم ما كتب كان تقديم المنصف الوهايبي لكتاب «الارض ترفع ساقها» وكذلك ما قدمه حاتم الفطناسي عن كتابي «الاسماء» وأيضا ما كتبه مصطفى الضبع عن كتابي «هذيان الجسد».
اما كدراسة نقدية فقليل ولايتعدّى بضع مقالات إلاّ أنّني استثني من هذا ما كتبه اصدقائي على الشبكة العنكبوتية وهي قراءات أعتبرها مهمة جدا كالكاتبة والشاعرة الصديقة عائدة النوباني والشاعر الصديق خالد الجبور والشاعر الكاتب أحمد ابراهيم وكذلك ايضا قرأت مقالتين نقديتين لرجلين لا اعرفهما شخصيا كتبا نقدا في قصيدة بعينها وهما من أهم من كتبوا عنّي.
ألا تعتقد ان حركة النقد الشعري قد ساهمت بشكل كبير في تحجيم المدونة الشعرية مقارنة بباقي الاجناس الكتابية؟
ـ انا أقول غير ذلك وربما فيما اقوله اتفق معك فيما طرحته في كل ما قرأت من نقد واقصد في النقد ما بعد التسعينيات يكتب الناقد وهو يظن نفسه إلها يُحيي ويميت فمن اقر له بالعبودية بك من الاشكال فسيحييه في نقده ومن لم يقر له بتلك الالوهية المزيفة فسيمحوه وكأنه يميته هذا عن الشعراء الذين يكتبون الشعر ولا مصلحة للناقد في الكتابة عنه اما ان كان هناك مصلحة فاعتدنا ان نرى الناقد يصنع من الزبيبة خمارة ومن الحبة قبّة!!!
وعلى سبيل المثال فقد قرأت لناقد تونسي نقدا يتجاوز عشرين صفحة ـ والله خمسين صفحة كاملة ـ في قصيدة لشاعر ليس تونسيا بالطبع ولا تسوى تلك القصيدة مثقال ورقها لكن الشاعر صاحب مجلة تدفع بالدولار وتحته كرسي قوائمه من النفط وتساءلت في نفسي اين هذا الناقد من الشعر التونسي ودون ان اسمّي الشعراء في تونس وانا اعتبر ان هؤلاء الشعراء لا يمكن ان تقارن قصائدهم باي شكل من الاشكال بقصيدة ذلك الشاعر النفطي.
وبسياق آخر ايضا في كل ما قرأنا ونقرأ من نقد نجده محدودا في تجارب الرواد وإن جنح قليلا الي تجارب ما بعد الرواد فهو جنوح خجول، وحتى لو كتب النقاد ضد شاعر من الشعراء الروّاد فإن نقده يظل يدور في نفس الفلك، وحتى الرسائل الجامعية التي ينال بها الطلاب شهادات عليا أكثرها حول شعر الرواد ايضا والاساتذة الذين جاؤوا بعدهم لان حالة الابهار للاضواء ظلت هي الطاغية فتجد النقاد سواء كان متخصصا ام دارسا لينال شهادة هو ايضا يريد نصيبه منالضوء فذهب اكثر الشعر الى العتمة وبقي من في الضوء لا يرى سوى نفسه.
انا مثلا أحب الشاعر محمود درويش وحزين ومتألم مثلي مثل كل من حزن وتألم وبكى على رحيل الشاعر المبكر رغم انه رحل وهو في قمة مجده الشعري، لكني أقول من الناحية الشعرية الجوهرية علينا ان ننتخلص من الحزن مع مرور الزمن وننحّي عاطفتنا سواء كانت الشخصية او التعاطفية مع تجربة درويش كشاعر قضية انساني، أي علينا ان نأخذ نفسنا ونستعيد ثباتنا العقلانيونجرّد الرجل من مفهوم اسطرته لنقرأ شعره ونحن على مسافة من تأثير الحالات العاطفية السابقة فنصل الى نتيجة خدم العشر الحقيقي سواء كان ذلك في صالح شعره كليا او في صالحه جزئيا لان العين لا ترى نفسها وهي تبكي.
على ذكر محمود درويش الا تعتقد ـ كشاعر ـ ان رحيله سيزيح غمامة عن اكثر من شاعر؟
ـ انا اعتقد غير ذلك لان هذا الكلام ينطبق فقط على من كانوا يعتبرون انفسهم في الشعر مظللين باجنحة محمود درويش ولكن الشعر العربي بأفقه الواسع والاكبر كثيرا من تجربةشاعر واحد فلا يمكن لي ان أجعله في ظلّ غمامة درويش لان تجربة درويش عند الشعراء الحقيقيين لا تتعدّى ابعادها من الناحية الشعرية فهؤلاء يعنون بالشعر لا بالاسباب التي جعلت الاسم محلقا في الكون وهي اسباب احدها الشعر وليس كلها فانا مثلا لو اخذت شاعرا كبيرا اخر ونظرت اليه كتجربة لا يبهر العالم بشيء آخر غير الشعر لوجدت ان ذلك الشاعر رغم أنه واجه العالم اعزل من كل دعم لوجستي أو نفسي او عاطفيّ ووصل الى أكثر من خمسين لغة فأنا حينها اقول هذه شاعرية خاطبت الانسان من داخلها، وهذا لا يعني مقارنة او مفاضلة بين تلك التجربة وبين تجربة درويش وكما سبق وقلت نحن بحاجة إلى ان لان نأخذ وقتا كافيا لنعود هادئين مطمئنين ونضع تلك التجارب الشعرية ذات الاهمية في تاريخنا المعاصر تحت أعين بصيرة في الشعر الصافي فحسب.
باعتبارك قريب من المشهد الشعري التونسي، حضورا وقراءة، كيف ترى ملامحه العامة وهل هناك تحولات عميقة في المشهد عموما؟
ـ قبل أن أجيب عن هذا السؤال أقول أن ما ينقص الشعر التونسي هو ما ينقص الشعر العربي عموما وهو مسألة ايصال الشعر خارج النطاق المحلي.
أنا ربّما بظرف شخصي استطعت التواصل مع الشعر في بلاد المغرب عموما ومع تونس بشكل خاص وقرأت لاغلب الشعراء واعتبر ان هنالك فارقا وتطوّرا حقيقيا بين ما كتبوا في الثمانينيات وفي التسعينيات وما كتبوا به الان واقصد جيل من اصبح في الستين من العمر او الخمسين ايضا.
وما ألاحظه ان تلك التجارب تحولت للكتابة بالدُّربة والحرفة اكثر منها في حرارة الدفق الشعري التي كانوا يكتبون بها في دواوينهم السابقة وربما اكثر الشعراء ينطبق عليهم هذا القول سواء في تونس او في غيرها، وأرسل استغرابي لمن يمثلون المشهد الشعري ان في تونس اوفي غيرها كيف ينسون ما عانوه حتى وصلوا الى ما وصلوا إليه من تجاوز عقبات ما يُسمّى اسماء طاغية بحضورها في المشهد الشعري العربي عموما والمغاربي خصوصا فاكتفوا بانفسهم وتركوا الآخرين من الاجيال الاصغر ثم الاحدث تعاني نفس ما عانوه من التجاهل والتهميش وربما المحو تماما وعلى سبيل المثال تعرفت الى كاتب كنت سمعت عنه كثيرا واعتقدت حين جلست معه أنه سيكون بفضل تجربته الغنية واتصاله بالشرق والغرب افضل حالا في التعامل مع الآخر كاتبا او شاعرا الا انني لم اسمع منه سوى احتقار تجارب الكتاب الاخرين وان ذكر كاتبا بخير فيكون ذلك الكاتب غير مستطاع ان يطفئ ضوءهُ!!! فهل هذه حالة ذاتية ام حالة عامة؟
اعتقد ان النجوم صغيرة كانت ام كبيرة هي نجوم مريضة الضوء وهذا عنوان لقصيدة كتبتها قبل سنتين من حالة مماثلة.
لك البياض المتبقي...؟
ـ في الختام اقول إنني أدين بجزء من تجربتي الشعرية للشعر التونسي الذي قرأته وأتمنى للتجربة الشعرية التونسية أن تزيدني ثراء وللحق في التجارب الشعرية الشابة ما أضاف لتأثري بتجارب الشعراء الكبار.

إيران بين نجاد المحافظ ونجاد الثائر

في احدى الخطابات التعبوية الحماسية، قال الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد " إن تغيير النظام التعليمي العلماني المهيمن على جامعاتنا منذ 150عاما سيكون صعبا، إلا انه علينا أن نقوم بهذه المهمة معا" داعيا طلاب الجامعات الإيرانية للاحتجاج على الفكر الليبرالي وعلى الاقتصاد الليبرالي باعتبارهما لا يوليان أية أهمية "لهويتنا"، قائلا لهم "على الطالب أن يحتج على رئيس الجمهورية لمعرفة لماذا لا يمنحه أستاذ جامعي علماني نقاطا كافية لطالب لا يشاطره آراءه".
إن مثل هذا الحشد الاصطلاحي الذي رصفه الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد ضمن خطاب لم يتجاوز زمنه أكثر من نصف ساعة -على أقصى التقدير- والحماسة المفرطة في تعبئة فئة بعينها من الشعب الإيراني، وهي الفئة الأكثر تذبذبا ( طلاب الجامعات والمثقفين عموما) والمنتمية إلى الطبقة الوسطى أو إلى البورجوازية الصاعدة، وان مثل هذا الطرح "الراديكالي" واستيقاظ الحاسة التاريخية فجأة لدى أحمدي نجاد المحافظ المتشدد بشأن الفكر الليبرالي وبشأن النظام التعليمي العلماني، يجعلنا نتوقف بكثير من التريث والتثبت فيما تلفظ به نجاد المحافظ أمام شعبه الذي سيصوت له لاستمرار حكمه من جهة ، ومن جهة ثانية نجاد الثائر الذي يركب موجة التحدي أمام إمبراطورية الشر المتمثلة في أمريكا (الشيطان الأكبر حسب تعبير نجاد) والكيان الصهيوني ومن حالفهما.
وإذا كان توقفنا عابرا وغير مستفيض، فان نقاط الاستفهام والإشارات التي سنوردها لها ما يكفي – ولو نسبيا – لإعادة النظر في صدقية هذا الخطاب التعبوي وفي مشروعية وقابلية تحقق هذا الطرح "الراديكالي".
فلو أردنا في البداية، تصنيف خطاب احمدي نجاد أمام طلبة جامعة طهران تصنيفا تاريخيا، فإننا سنصنفه ضمن تيار "الرفضية الفكرية"، هذا التيار الذي تغدي أكثر في فترة صراع النهضة العربية بين شقيها التوفيقية الإسلامية من ناحية والعلمانية المسيحية من ناحية ثانية، وهو تيار قام أساسا بموجب وجود منبهات/صدمات حضارية غير إسلامية وغير عربية، بمعنى أن التغيير الذي يدعو له احمدي نجاد ليس تغييرا نابعا من الداخل وليس مطلبا إيرانيا صميما بقدر ما يمثل رد فعل انفعالي مثار من الخارج، مثله مثل فكرة "الثورة الإسلامية الإيرانية" مع من سبقه.
كما أن هذا التيار الرفضي ينطلق أساسا من موقف أيديولوجي قائم على قطبي (ضد/مع) وهو بالضرورة لا ينسحب على الواقع الإيراني وعلى متطلبات الشعب الإيراني، أولا لنزعته التدميرية والفوضوية، وثانيا لأن كلام أحمدي نجاد بخصوص العلمانية كنظام تعليمي يكشف لنا نظر ميكانيكية لتحديد طبيعة الصراع القائم بين إيران تحديدا والعالم الإسلامي عموما من جهة وأمريكا تحديدا والعالم الغربي عموما من جهة ثانية، وهو بهذه النظرة يدور داخل سياج دوغمائي مغلق وسلبي.
أما السؤال الذي يطرح بإلحاح في خضم هذا الاحتشاد الاصطلاحي في خطاب نجاد، هو أية علمانية يبتغي الرئيس الإيراني أن تغيرها جماهيره الطلابية؟
أهي "العلمانية المسيحية" التي جلبت معها الفكر الاجتماعي التطوري الاشتراكي والنزعة اليسارية المبكرة في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات؟ أم هي "علمانية محمد عبده" التي انبنت على نزعة قبولية وروح مهادنة شبه مطلقة للفكر الأوروبي ولمقولات اللورد كرومر؟ أم هي "العلمانية التوفيقية" التي تولدت مع الأفغاني والكواكبي كامتداد لمحمد عبده؟ أم أن احمدي نجاد يقصد "العلمانية الأوروبية" المتجسدة في تجربة تركيا الكمالية؟ أم هي "علمانية علي عبد الرازق" المتجلية بالخصوص في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"؟ أم "علمانية طه حسين" في كتابه "الشعر الجاهلي" الذي اعتمد في متنه على منهج الشك الديكارتي وعلى منهج النقد التاريخي الأوروبي؟ أم أن نجاد يعني "علمانية اليسار اللبناني" مع يوسف يزبك الذي اتخذ من تاريخ الأممية الثالثة (1919) تقويما جديدا بدلا عن التاريخين الهجري والميلادي ؟ أم انه يقصد "العلمانية القومية" مع ساطع الحصري الذي أكد على أن قيام امة عربية غير مرتبط بالضرورة بمفهوم "دار الإسلام"؟...
إن الدكتور محمود احمدي نجاد هنا، لا يظهر لنا كرئيس دولة إسلامية له موقف فكري حاسم بشان النظام التعليمي العلماني بقدر ما هو يؤجج شعورا شوفينيا/ ارتودوكسيا يتلبس بلبوس حضاري ليدافع به عن تحد عسكري ومطمح حربي، كما أن ثورته الفردية – لا الوطنية – هي عبارة عن "ثورة فوقية" وليست "ثورة جذرية"، فهي لا تدعو لتأسيس خلايا ثقافية عمالية وتلمذية وطلابية... وإنما هي تدعو في أقصى "ثوريتها" إلى "احتجاج طالب على أستاذ جامعي علماني لا يشاطره رأيه"؟.
هذا فيما يخص مفهوم العلمانية وثورة احمدي نجاد المحتملة ضدها كنظام تعليمي تمتد جذوره إلى أكثر من 150 سنة في إيران، أما فيما يخص الفكر الليبرالي، فلا اعتقد أن نجاد يدعو طلاب جامعته إلى تقويض هذا الفكر على أساس انه "سلوك طبقي"، بقدر ما هو يدعوهم إلى تقويض الليبرالية – فكرا واقتصادا – باعتبارها موقفا مجردا.
فدعوته لتقويض الفكر الليبرالي باعتباره سلوكا طبقيا سيعود حتما عليه بالوبال من طرف المضطهدين الإيرانيين ومن طرف الإيرانيين الذين قمعوا وحرموا من حرياتهم الفردية والعامة. فاحمدي نجاد يظل بالأخير ليبراليا في نظام حكمه وبورجوازيا في سلوكه لم يمنح مواطنيه حرياتهم إلا بما يخدم مصالح طبقته (رغم انه من طبقة فقيرة أصلا) وهو لهدا يستعمل جمهور الطلبة كأداة ضمن صراعه السياسي ضد أمريكا وهو أيضا يطوع الاقتصاد الإيراني لبناء دولة عسكرية ستناوش أعداءها قليلا لتقمع شعبها كثيرا...
هكذا يظل محمود احمدي نجاد رئيسا إيرانيا بامتياز لا يختلف كثيرا عن الشاه الإيراني ولا عن الإمام الخميني، فهو مثلهما مليء بالتناقضات ومهووس بحلم العظمة والكاريزما الفردية ولو على حساب الشعب الإيراني بأكمله... ومثلهما يظل محمود احمدي تنازعه تارة "نجاد المحافظ" وطورا "نجاد الثائر" ليظل بالأخير الشعب الإيراني أمام الوجهين كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو كان الشاعر الإيراني رزبهان الشيرازي حيا لأعاد قوله "هذا الجنون إلى المستحيل" أمام حماسة نجاد وتعبئته لطلبة جامعاته.

2008/12/12

حوار مع المخرج الفاضل الجزيري


الحامي. الشابي، الدوعاجي، الحداد... هم الذين صنعوا حفيف الشعب التونسي...

ثلاثون يفتح نافذة في تاريخ مرحلة ولا يكتب التاريخ

اقترن اسم الفاضل الجزيري بفرقة المسرح الجديد باعتباره أحد مؤسسيها سنة 1976، وضمنها قدم الجزيري رفقة العديد من المسرحيين أعمالا مسرحية اكتسبت صفة المرجعية مثل مسرحية «العرس» و»التحقيق» و»غسالة النوادر» و»عرب» و»الورثة» و»العوادة» و»سيرة محمد علي الحامي»... اسم الفاضل الجزيري اقترن ايضا بالعديد من الأعمال الموسيقية ذات الطابع الروحاني مثل «النوبة» و»الحضرة» و»الزازا»... ولم يكن الفاضل الجزيري بمنأى عن الشاشة الكبيرة حيث شارك في اخراج فيلم «العرس» و»عرب» وكذلك فيلم «عبور»...
الآن يقترن اسم الفاضل الجزيري بأضخم عمل سينمائي في تاريخ السينما التونسية بعد ان بلغت تكلفته قرابة المليارين... فيلم «ثلاثون» يرصد ـ تاريخا وتصوراـ الخطوط العريضة من تاريخ تونس النقابي والسياسي والثقافي والشعبي لعشرية الثلاثينيات، أي ما بين 1924 و 1934 ... فيلم يرصد ولادة جامعة عموم العملة التونسيين مع الثائر محمد علي الحامي... ويصور تفاصيل الساخر علي الدوعاجي مع سهرت منه الليالي... ويرسم ملامح الحالم أبو القاسم الشابي مع الخيال الشعري عند العرب... وينقل حماسة الزعيم الحبيب بورقيبة مع جماعة الحزب الحر الدستوري القديم... فيلم ثلاثون يرصد عناء الحداثي الطاهر الحداد مع امرأتنا في الشريعة والمجتمع...
يقدم هذا العمل الجديد للفاضل الجزيري صورة تقريبية عن زمن بعيد جدا (رمزيا) عن موت النقابي والسياسي والمفكر والاديب والشاعر لتحيا تونس مستقلة وحديثة...
وٌصف فيلم ثلاثون بأنه «نشيد الشباب» وهو الذي صور عنفوان ثلة نيرة من شباب تونس الثلاثينيات باقتدارمن قبل ثلة نيرة من شباب تونس الألفية الثالثة، رامي عفانة (الحامي)، علي الجزيري (الحداد)، ماهر الحفيظي (الشابي)، وليد النهدي (الدوعاجي)، غانم الزرلي (بورقيبة) ...


أين نضع فيلم ثلاثون من التاريخ، هل قرأ الجزيري التاريخ أم كتبه في هذا العمل؟
ـ الفيلم لم يكتب التاريخي وإنما يفتح كوّة على تاريخ مرحلة من المهمٌ جدا ان يعرفها شباب اليوم، الهام هو ان نخلق من تلك الشخصيات صورة حديثة، صورة حيّة لأناس أثروا الحركة الوطنية بكل تمظهراتها، فلو نأخذ مثلا حضور محمد علي الحامي، كنقابي فان ظلال حركيته ونضاله تلقي بظلالها على بقية اطراف الحركة الوطنية، السياسية والفكرية والشعبية... في الواقع فيلم «ثلاثون» يدور اساسا حول دور المثقف وأهميته في تثوير المجتمع وتطويره وهنا نخرج من دائرة المثقف لندخل الى دائرة الفنان...
طريقة التعبير مرتبطة بمضمون ما قدمته في الفيلم لغة، تقنيات، مقاربة...
ما توفر لنا من معلومات تاريخية مثّل رافدا مهما من بنائنا الدرامي للفيلم واهم من ذلك اننا اشتغلنا على أدق دقائق الشخصيات، على تفاصيل حياتهم اليومية، لذلك كانت الكتابة متشعبة... خاصة اننا اشتغلنا على تقديم نص «متخلق» ان صح التعبير وابتعدنا عن كل ما له صلة بالعنف سواء المباشر او غير المباشر، فمثلا ان أقدم ان الشابي والدوعاجي والحداد يأكلون عنقود عنب فإنما قصدت الاحالة على شرب الخمر... يعني اني لم أكن مضطرا لفتح جبهة أنا في غنى عنها...اشتغلت على التكثيف في كل شيء وأعوّل على فطنة المشاهد وقدرته على التأويل...مثلا خطاب محمد علي الحامي دام 40 دقيقة في الواقع في حين اننا اختزلناه في دقيقة ونصف تقريبا واشتغلنا على تكثيف خطابه وقدمناه في لغة شعرية...العلاقة مع الشخصيات في السينما لا يمكن الا ان تكون حميمية ولذلك قدمناهم كذوات تحب الحياة وتسعى الى جعلها أفضل وأجمل...في المشروع ككل اشتغلنا اساسا على اللغة، اللغة كأداة تواصل حداثية، أهي لغة القرآن، أم لغة الشعر، أم اللغة الخشبية أم هي لغة الصورة.ثالوث «ثلاثون»، الحداد والدوعاجي والشابي كانوا مهوسين بتطوير اللغة، لا اللغة في حد ذاتها، اللغة كأهم أداة تواصل مع الشعب. وهذا ربما ما عبرت عنه على لسان الشابي بأنه تحرير الشكل من الاولويات؟ـ نعم، واهم من ذلك طريقة التعبير عن هذا التحرير،لقد أوردته في الفيلم بشكل مقطع سواء لغويا او في مستوى حركة الممثل... النص يعبر اساسا عن هواجس كل شخصية... وبالتالي عن الفيلم ككل... هناك صدق وحميمية في تقديم كل شخصية ولذلك ربما اخترت ممثلين ليعيشوا النص ومرحلته ولم أختر ممثلين لأنهم مشهورون ومعروفون...
لماذا اذن عدت للأرشيف؟
ـ أولا استعنت بالارشيف لمدة 3 دقائق و 47 ثانية من 111 دقيقة مدة الفيلم ككل وقدتم ايرادهم في فترات متباعدة، ثم إن لقطات الارشيف كانت من وجهة نظر المعمّر «goumant» وهي بالتالي لا تقارب حفيف الشعب التونسي...الشخصيات التي قُدمت في الفيلم يعيشون قطيعة في الظاهر مع عالمهم الاجتماعي ولكن باعتبارهم مستشرفين فانهم قادرون على خلق لحمة أقوى من القطيعة... حفيف الشعب حلقة لشخوص الفيلم، اي ابناء الشعب التونسي...
وايضا التجأت بشكل كبير الى صوت السارد؟
ـ لماذا السرد؟ لأنه أقدم طريقة عندنا، مهمة «الغنّاية» مثلا هي سرد الوقائع، والسرد ليس خاصا بنا فأول نص سري في التاريخ كان يروي وقائع حرب.السرد هو أداة لربط الاحداث وقد استعنت به لتأمين تماسك الفترات الزمنية المتباعدة... هناك أحداث مهمة في حياة كل شخصية استعذنا عنها بالسرد، ولكنه سردٌ موقّع ومكثف وأعود فأقول ان هدف العمل اساسا هو اللغة، لغة التواصل، ولذلك التجأت للسرد كشكل من أشكال اللغة...
هناك تناغم بين طرق التعبير في ثلاثون... اللغة، الصورة، الحركة، اللباس، الضوء، الألوان... كل التفاصيل تندمج في الشكل العام لكل شخصية وشكل كل شخصية، شكل حضورها تندمج كلها في الشكل العام للفيلم... في علاقة بالشكل أين تقف حدود المسرح من السينما في فيلم ثلاثون؟ـ ليست هناك حدود بالمفهوم المتعارف عليه وانما ربما السينما تمتلك طاقة أكبر في التنقل وتطوير الصورة وخلق عدد لا متناه من الصور...الخيال السينمائي ايضا ليس خيالا مسرحيا وكذلك التقنيات تختلف...
السينما هي فن التركيب... فن الغوص في كل ما هو حميمي والسينما ايضا هي فن المتعدد...
هناك عدة فوارق بين السينما والمسرح أما ثلاثون فقد كتب بلغة سينمائية وكذلك صوّر سينمائيا وهو فيلم وليس مسرحية...
وصف الفيلم بأنه «نشيد الشباب»؟
ـ شباب واع، ملتزم، مناضل، فاعل ناقد... ليس شبابا منحلا أو متفسخا معدوم الذاكرة ومنفصما عن واقعه...
أنا لا أومن بالمستحيل... كل شيء ممكن والدليل الفيلم... ليس مستحيلا ان تنجح مع شباب غير مشهورين او معروفين... بل ممكن وهو ما تجلى في الفيلم وكلما نعطي الثقة للشباب ننجح اكثر... ثم اهم شيء العمل والمجهود الذي بذله الممثلون الشبان هو الذي ساهم في نجاح العمل...
هل تعتبر «ثلاثون» وثيقة أدانة لكل خطاب سلفي في راهننا؟
ـ ربما الفيلم يمثل موقفا وحلما ورؤية ورهانا ضد كل خطاب سلفي ورجعي ومتقوقع على ذاته... ربما الفيلم يقارب طموح شخوصه وطموح مرحلته.
كيف ترى مستقبل السينما في تونس؟
ـ السينما مشروع يجب أن يتطور إذْ في المستقبل سيخرج مئات الفنانين والتقنيين يجب ان يتواصل مجهودنا في علاقة بالانتاج الذي لا مفر منه وعلينا ان نتحمل مسؤولياتنا كاملة... ولدينا كل الامكانيات لانجاح المشروع السينمائي في تونس...

2008/12/10

النّاشرُون الجُدُد



لا أحد ينكر أنّ صناعة الكتاب في تونس مازالت تقليدية وهشّة، ولم تواكب بقدر كبير تطوّر صناعة الكتاب في أغلب الدول الأخرى العربية منها وغير العربية.فنشرالكتاب التونسي مازال مُحتكرًا من قبل عدد قليل من بعض الناشرين الذين يستحوذون على سوق المنتوجات إلى جانب طبعا النشر الحكومي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة من خلال مؤسساتها، وقد ساهم «جمود» حركة النشر في تونس في تكريس أسماء بعينها خاصة في مجال الكتاب الابداعي سواء نثرا أو شعرا أو نقدا وهذا التكريس أيضا تغذّى بشكل واضح و»مفضوح» من خلال النشر الجامعي.. وهذا الوضع ساهم بشكل كبير في حصر الابداع التونسي وجعله محليّا بالأساس، بل هو «عاصمي» أي نسبة للعاصمة وبعض الولايات فقط.
ومن بين أهم أسباب قلّة نشر الكتاب في تونس تكلفته الباهظة التي دأب أصحاب دور النشر على التعامل بها حتى صارت ثابتة، وقاعدة مثلها مثل حقوق التأليف التي يمنحها الناشر للمؤلف والتي لا تتجاوز 10 بالمائة!!ومنذ عشرة سنوات تقريبا ظهر جيل جديد من الناشرين أغلبهم شبّان تجشّموا عناء فتح دار نشر بمقاييس جديدة تختلف عن تقاليد الناشرين السابقين، فهم لا يملكون مطابع وسيارات لتوزيع ما ينشرون وإنّما فتحوا مكاتب ضيقة، ومنهم من حوّل بيته إلى دار نشر وآخر جعل من الصندوق الخلفي لسيارته دار نشر!!! ولكن الأهم من ذلك أنّ هذا الجيل الجديد من الناشرين يسعى جاهدا لاحتواء واحتضان الجيل الجديد من الكتاب والمبدعين ومساعدته على دخول عالم النشر بتسهيلات ماديّة... رغم أنّ فيهم من مازال متأرجحا بين الاعتداد بنفسه كناشر أو كاتب وبين التذيّل لأسماء قديمة استهلكت وانتهت ابداعيا ومازال اسمها طاغيا على المشهد الثقافي بإرثه السابق فقط، أي حضورًا شرفيّا لا أكثر ولا أقل...ورغم وجود النشر الرقمي وما يمنحه من فرص علميّة تسهّل على المبدع نشر ابداعه وطرحه للقارئ الاّ أنّ هذا الجيل الجديد من الناشرين الجدد مازال يتحسّس ملامح وجوده ويبحث عن شكل اقامته في ظلّ تواصل هيمنة الجيل التقليدي من الناشرين وفي ظل قلّة الدعم الحكومي والاعتراف بمجهوداتهم ودعمهم ماديا رمزيا والتعامل معهم كعنصر ثقافي لا تجاريّ...فالخطير ـ في تقديري ـ أن يتحوّل الناشر إلى تاجر يلهث وراء الكسب السريع والاستثراء من نشر الكتب على حساب الكاتب وعلى حساب الثقافة الوطنية، ويكفي أن نقوم بعملية احصائية لِمَا نطالعه على واجهات المكتبات من كتب تافهة تتناسل يوميّا بسبب اضطراب حركة النشر وكثافة النشر على الحساب الخاص...إنّ نشر الكتب مهمّة وطنية وليست مسألة شخصيّة، تتظافر فيها جهود المبدع بتسهيلات الناشر وتُرفد بدعم الوزارة وإن لم ينسجم هذا الثالوث فإنّ الأمر سيبقى عشوائيا ومتخلّفا مقارنة بما تشهده عدّة دول أخرى مثل المغرب ومصر والجزائر والأردن من فورة في الانتاج الورقي المؤسس لملمحٍ ابداعي جديد يُساير عصره وزمانه...

2008/11/26

جورج عدة... جورج وسوف...

قد يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ أنني سأخطّ رسالة إلى صديق ما اسمه جورج فالعنوان الذي تخيّرته لهذه الأسطر يحيل بالفعل على كتابة الرسائل، وسوف أشاطرك التخمين الذي ذهبت إليه وأعتبر ـ معك ـ هذه البطاقة رسالة، غير أنني لن أكتبه لشخص ما اسمه جورج ولكن سأكتبها لك أنت ولكل شاب وشابة تونسية غرّبتهم «الثقافة المترديّة» وسطّحت عقولهم فصاروا يخلطون بين جورج عدة وجورج وسوف!!!«جورج» هو اسم يتردد كثيرا في المجتمعات الانقلوسكسونية لإحالته على الملوكية وشائع في تلك المجتمعات أن من كان اسمه جورج وكلّلت حياته بنجاح ما فإنه يسمّي ابنه «جورج» أيضا ليستمر في النجاح. وبالفعل كثيرون هم الذين تركوا بصماتهم في التاريخ الإنساني ممن حملوا اسم جورج ولكن للأسف الشديد أن اغلب جيل اليوم لا يعرفونهم ولم يسمعوا عنهم قطّ وقد اكتشفت ذلك مؤخرا فبمجرّد أن سمعت بوفاة جورج عدة بمجرّد أن سمعت بوفاته طفقت أرسل رسائل هاتفية والكترونية ـ كالمعتوه ـ إلى الكثير من أصدقائي وصديقاتي، وما لبثت أن أصبت بصدمة اعتبرتها اكبر من صدمة موت جورج... فواحدٌ يجيبني من هو جورج عدة وأخرى تقول لي هل هو حيٌّ وثالث هاتفني بصوته وقال لي بالحرف الواحد: «يا رجل لقد أفزعتني واعتقدت أن جورج وسوف هو الذي مات!!!».هو ذات الجيل الصاعد... الجيل الذي سيبني ويعلي... الجيل الذي لا يلبس إلا الماركة الشهيرة «جورج آرمني» وينتظر آخر تقليعات مصمّم الأزياء جورج شقرا ويتابع لمسات اللاّعب جورج وياه ويشاهد أعمال النجم الأمريكي جورج كولوني ويرتعب خوفا على صحة جورج وسوف ويفضّله هو وجورج الرّاسي في الغناء... الجيل الذي لا يفوّت حلقة واحدة من برنامج جورج قرداحي... انّه الجيل الذي يثق تمام الوثوق في مشروع جورج بوش لتحرير العراق وفلسطين وكامل المنطقة... هو ذا الجيل العظيم الذي يسمونه «شباب تونس» و»شباب القرن الواحد والعشرين»!!!إنّه عينه وذاته الشباب الذي لا يعرف جورج حبش ولا جورج حاوي ولا جورج باطاي ولا جورج قالووي ولا جورج طرابيشي ولا جورج عدّة ولا جورج لوكاتش ولا جورج برناردشو ولا جورج بيزيه ولا جورج أوريل أو حتى جورج مايكل...عزيزي جورج... عزيزي القارئ... ليست هذه جرسالة مضمونة الوصول لشخص بعينه وإنما هي زفرةٌ عابرة على ورق عابر في يوم عابر من أسبوع عابر في حياة عابرة هي حياة شباب تونس وشباب القرن الحادي والعشرين... ولست أغالي أبدا فالمعرفة هي المحرار الوحيد لمعرفة صدق الرهان على جيل ما

2008/11/25

غشاوة أوباما

كان لفوز مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة مفعول سحري على المهتمين بالشأن السياسي وغير المهتمين على حدّ السواء... وكان لنا نحن العرب النصيب الاوفر في الوقوع تحت سطوة نجاح الرئيس الجديد للولايات المتحدة الامريكية ولئن اشرت في مقالة سابقة بأننا سنصير نقوّم تاريخنا العربي بما قبل وما بعد باراك أوباما كما المسيح يقومون بما قبل وما بعد ولادة المسيح وكما المسلمين بما قبل وما بعد هجرة محمد، فإنيّ في هذه السطور سأشير الى أن فوز أوباما قد حجب على أعين العالم ضرورة محاكمة الرئيس الاسبق للولايات المتحدة الامريكية جورج دابليو بوش... ولا أخالني الوحيد الذي انتبه لهذه المسألة...
فمنذ ان انطلقت الحملة الانتخابية لأوباما والعالم يرصد حظوظ فوزه من عدمه، وكل طرف يستعرض مهاراته في اصباغ الرجل بهالة اسطورية او العكس، فهذه وسائل الاعلام تتنافس من أجل تقديم كل ما تعلق بسيرة حياة أوباما، وهؤلاء محللون سياسيون يٌعلون من شأن الرجل في مسار السلام العالمي وآخرون يعتبرونه حلقة جديدة في مسار الامبريالية، والعديد من رؤساء الدول أبرقوا بتهانيه لاوباما ليلة تسلّم مفاتيح البيت الابيض... وتلك شركات بدأت تنتج وتصنع منتوجات عليها صور الرئيس الجديد...
الكل بات يدور في فلك باراك اوباما... وفي فلك الديمقراطيين وعصاهم السحرية التي ستُنقذ امريكا من أزمتها المالية والعالم من تاريخه الحربي والدموي...جورج بوش الذي صيّر الارض كرة من الرعب وصيّر منبسطها كما مرتفعها جحرا لما أسماه «ارهابا» وصيّر جنوده وجنود اذياله كالجرذان تنبش الجبال والمغاور بحثا عن الارهابيين وجعل كل نقطة في العالم على كف عفريت رعبا من أنفه المعدّل على رائحة النفط، بوش هذا لم يلتفت أحدٌ لجرائمه، لعبثه، ولم يُشر أحدٌ الى ضرورة مقاضاته ومحاكمته مثلما حاكم هو آلاف الأبرار وقاضى رؤساء دول (صدام حسين والرئيس السوداني).. بل إن جورج بوش استطاع ببشاعته ان يؤسس تيارا فلسفيا كاملا يقوم على دولة بوش المارقة... جورج بوش الذي دمّر العراق و»نحر» رئيسها كأضحى العيد... وهدّد ايران وسوريا وأذلّ الخليج بكامله وخرّب افغانستان... عجن أحلام الشباب خلف قضبان أبو غريب وغوانتنامو... سمّم ياسر عرفات ولم يتخلّ أبدا عن معاضدة الكيان الصهيوني في جرائمه ضد الفلسطينيين وضد اللبانيين... جور بوش الذي انتهك حقوق الانسان وخرق القوانين الدولية ومواثيق الامم المتحدة اكدّ بما لا يدع للشك ان السمة الرئيسيّة للنظام الامبريالي أن الذات هي صرّة العالم، ونجح بشكل قاطع وحاسم في جعل امريكا صرّة العالم وجعل الجمهوريين صرّة أمريكا وطبعا بوش صرّة الجمهوريين...أعتقد أن اليوم، على كل المنظمات المدنية والجمعيات الحقوقية وعلى الحقوقيين والاحرار أن يلتقوا على ضرورة محاكمة جورج دابليو بوش وادارته ومعاقبته بما يلائم ما أحدثه من خراب وفوضى في العالم...بل إن على الامريكان شعبا وحكومة جديدة ان تنصب محكمة وطنية تنظر فيما ألحقه الرئيس الاسبق من أضرار مادية (الازمة المالية الحالية وارتفاع عدد المعطلين عن العمل وتضاعف نسبة الفقر والمديونية) ومعنوية (تشويه صورة الشعب الامريكي) وعليهم ان ينزلوا به العقاب العادل برجل غير عادل قبل ان يتعلّقوا بأوباما... علينا نحن العرب ان نطالب بمقاضاة بوش لما اقترفه في حق شعوبنا وحكوماتنا... قبل ان نبدأ بالتسبيح بحمد باراك أوباما...على باراك أوباما ان يطوي صفحة جورج بوش بالشكل المناسب الذي يمكّنه من دخول التاريخ كرجل تغيير فعلا لا قولا..

2008/11/18

وجوه الربيعي


«هزمتك يا موت الفنون جميعها... هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين» جملة شعرية ـ بمثابة الحكمة الكونية ـ رتق بها الشاعر الفلسطيني محمود درويش ثقوب الذاكرة الفلسطينية المنذورة لطوفان الموت والإماتة في مجموعته/القصيدة «جدارية»، وها هو الروائي العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي يُطرز عبارته السردية أمام ندوب الذاكرة العراقية ـ الجنوبية ـ ضمن مجموعته القصصية الحديثة التي وسمها بـ: «وجوه مرت» وأصدرها عن در الفرقد السورية في شهر ماي.2008«وجوه مرت» أشبه بدرع لغوي تمترس خلفه الكاتب عبد الرحمان مجيد الربيعي لينقّي لقارئه من بين «القنابل العنقودية» عنقودا بشريا من أهل العراق طوّق رقبة الموت حتى أفناه وركب جناح الخلود...«حسين مردان» (أبو علي) ذاك الوجودي بالفطرة وجهه مرّ إلى حجب القبر ورسخت دكتاتوريته مع الأدباء «المجربعين»، «خيون راشد» ذي القامة القصيرة والكرش الممتلئة أفنى الموت إدارته المهابة وفشل في حجب «سوانحه» على مجلة «الهاتف» و «الأديب» وجريدة «الأهالي»... «كوزان» بطل القصة الثالثة في مجموعة الربيعي مات هو الآخر ومات معه اسمه الحقيقي المسجل بإدارة الحالة المدنية ومع ذلك خلدت جمله الدعائية لأفلام «الطاق طيق والجيق ميق» وظلت حركاته القردية اكبر من الموت والنسيان... «مدلول» ذهبت أعضاؤه الى دود الأرض وظلت جملة «مدلول يده... باس المخدة» تذكر بمجنون شيما رغم صواريخ «التوماهوك»... «حامد جمعة» أتلف الموت المائة والثلاثين كيلوغراما التي كان يزنها وظلت قصائده حديث مقهى الزهاوي وعارف آغا ولا أخال من يرفع كأس العَرَق إلى شفتيه ـ مِن مَن عرفه ـ إلا وانتظر الوحي الشعري...«خالد الحداد» «جابر الخطاب»، «عبد الكريم الفياض»، «عفّون»، «محسن ريسان» هم بقية الوجوه التي مرت بذاكرة عبد الرحمان مجيد الربيعي ورسخت سيرهم، ولئن غيّر الكاتب بعض أسماء وجوهه، مثلما أشار إلى ذلك ضمن مدخل المجموعة القصصية، إلا انه «صاغ سير تلك الوجوه ضمن مناخ عراقي واحد فكانت مجموعة بورتريهات نادرة التكرار نظرا لفرادتها» وهذه البورتريهات ـ المهمشة والمنسية ـ في تقديري ـ ما هي إلا جزء ضئيل من رواق متحف كبير اسمه العراق... وجوه من بلاد ليست أشبه بمشكاة فنون وإنما هي الفنون ذاتها التي هزمت وتهزم إلى اليوم فنون الموت وأشكال الإماتة...قبل أن أكتب إن سبب رهبتي من تقديم هذا المتن القصصي إبان صدوره وحصولي على نسخة منه، وهو أن «وجوه مرت» من أروع ما قرأت ـ متنا وشكلا ـ أود أن أشير إلى أن مجموعة عبد الرحمان مجيد الربيعي حققت فعلها الخطابي لان دعامتها التواصلية استفادت وتغذت من رغبة حقيقية في التواصل فأصابت المرسل إليه... أصابتني أنا القارئ وأصابت قبلي الموت وهي تثقب رداءه الأسود...

2008/11/08

التقويم الأوبامي


يبدو أننا نحن العرب مجبولون على التعلق برقاب غير تلك التي تحمل رؤوسنا، ومنذورون للتأرجح كربطات العنق على صدور غير صدورنا ومصابون بالانزياح العاطفي لغيرنا...
نقبع في اماكننا مقرفصين أو متكئين أو واقفين ننتظر ان يحصل أمر ما خارج ارضنا لنتعلق به ونبني عليه ما تيسر من الأحلام والآمال ونسند عليه خسارات أيامنا ونكبات أرضنا... ننتظر ونبني ونحلم ولا نجني مع الزمن الا الانكسارات والخيبة تلو الأخرى ونظل نسبح في الاحباطات وفي القلب تعاود بذرة الاتكاء على الآخر تسامقها ونموها... ولا نتوب ولا نتعلم الدرس...
ذهب جورج بوش وجاء باراك حسين أوباما... خسر الجمهوريون الانتخابات أمام ديمقراطية الديمقراطيين... وبدأنا نحن العرب نرصف الأحلام والآمال ونعلي من شأن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية ليعم على يديه السلام وتنتهي بلباقته الحروب في أرضنا العربية وفي غير الأرض العربية...
باراك أوباما المشغول بسياسات التأمين على المرض والصحة والتعليم والبطالة داخل الولايات المتحدة الامريكة، أو باراك – حسين – أوباما كما يحلو للعرب وحدهم أن ينادونه ويسمونه وكانهم يتبركون باسم حسين ويعلنون عن صلة الرحم والقرابة بينهم وبين الرجل، يبقى بالأخير رقما في منطق اللوبيات المتحكمة في الولايات المتحدة الامريكية والعالم برمته، اللوبيات السياسية والعرقية والاثنية والاقتصادية والثقافية...
أوباما قد يحدث تغييرات جوهرية داخل بلاده، وهذا امر وارد جدا زمنطقي جدا لم يتمتع به الرجل من كاريزما ومن اصرار على فكرة التغيير ويكفي أن نذكر شعار حملته الانتخابية نعم نستطيع yes we can ، نعم يستطيع باراك أوباما ان يحدث نمطا جديدا في نظام حياة الامريكان، ولكن، في نطاق السياسة الخارجية فان الرجل لن يحيد عن مسار سابقيه بخصوص الملفات الملتهبة في العالم كالحرب على العراق وتهديد سوريا وايران والتحالفات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني... ومهادنة الدب الروسي ومسايرة التنين الصيني...
أوباما لا يمثل السياسة الامريكية كما أن السياسة الامريكية لا تقف على رجل واحد أو على مدة نيابية واحدة... سياسة أمريكا تعتمد على استراتيجية الرجل الابيض المعني بتخليص الكرة الارضية من سواه، الرجل الاسود، المتخلف، العربي، الاسلامي، الارهابي... كل هذه التصنيفات يضعها الأمريكان في خانة الزوائد التي يجب أن تكف عن الحياة فوق هذه الارض لتستمر نجاحات الرجل الابيض واحتفاءه بالأرض والسماء... فباراك أوباما لا يمكن أن يكون معزولا عن فلسفة فرانسيس فوكوياما...
سافترض أن اوباما سيقوم بتغييرات ايجابية في مسار السلام العالمي... سيلتفت لنا نحن الزوائد... سينظر في ملف العراق وفلسطين وايران وسوريا وحزب الله وأزمة المياه... والبطالة ... وسنطير نحن بالفرح ونصير نأرخ لتاريخنا بالتقويم الأوبامي أي ما قبل وما بعد باراك أوباما، كما المسيح يقومون تاريخهم بما قبل وما بعد ولادة المسيح، والمسلمون بما قبل وما بعد هجرة محمد...

2008/11/04

حوار مع بطل فيلم "ملح هذا البحر" الفلسطيني صالح البكري


* تحصلت على التانيت الذهبي في مطار قرطاج الدولى

الفلسطيني الذي لا يقاوم عليه أن ينتحر لأن حياته كالموت تماما


الممثل الشاب صالح بكري هو ابن الممثل القدير محمد البكري، تقمص دور البطولة في فيلم "ملح هذا البحر" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر. هذا الفيلم الذي نال في اختتام الدورة 22 لايام قرطاج السينمائية جائزة المرحومة رندة الشهال يروي بطريقة مختلفة اصرار الفلسطيني على حق العودة الى أرضه المستلبة...

*كيف يقدم الممثل صالح البكري نفسه للقارئ التونسي؟
* فيلمي هذا مع آن ماري جاسر هو فيلمي الثاني وهو بعنوان "ملح هذا البحر" وهو فيلم واقعي. يحكي عن واقعنا وعن ماساتنا كفلسطينيين. كما أشارك في هذه الدورة بفيلم ثان بدور صغير للمخرج الفلسطيني رشيد مشهرواي، ومع والدي أيضا محمد بكري والفيلم بعنوان "عيد ميلاد ليلى". كما سبق لي وان مثلت على خشبة المسرح ومن بين مشاركاتي المسرحية تمثيلي في مسرحية جنون لجليلة بكار حيث قمنا بإعدادها بلهجتنا المحلية وقد لعبت دور "نون" (الدور قام به في العمل الأصلي الممثل محمد علي بن جمعة). وقد حققت المسرحية نجاحا كبيرا في بلدنا وخاصة في يافا وفي حيفا وفي رام الله وفي الضفة، وفي غزة لم نعرضها لأننا ممنوعون من العرض هناك.
* باعتبارك بطل فيلم "ملح هذا البحر" كيف تمت عملية اختيارك للعب دور البطولة من قبل آن ماري جاسر؟
* حسب ما حكت لي المخرجة فان اختيارها لي لبطولة فيلمها "ملح هذا البحر" هو مسحة الحزن البادية في عيني "عماد" الاسم الذي لعبت به دور البطولة.
* هل يعني هذا أن الفيلم يدخل في خانة الميلودراما؟
* ربما. ولكن السمة الرئيسة للفيلم والخانة التي يمكن أن أصنفها ضمنه هو أنه فيلم حياة أي فيلم واقعي، وكل ما شاهده المتفرجون نعيشه يوميا في فلسطين، ولذلك أيضا ربما يمكن تصنيف هذا العمل في جانب منه إلى عمل توثيقي لدرجة أني لم شاهدت الفيلم أحسست باني لم أقدم عملا سينمائيا وإنما عشت ما أعيشه يوميا في بلدي وما يعيشه كل فلسطيني في الداخل والخارج على حد السواء. لم اشعر أن هذا الفيلم عمل معزول عني ولم أتعامل معه بحرفية بقدر ما تعاملت معه بسجيتي وعلى سريرتي. الفيلم هو جزء من واقعي ومن وجودي.
* هل يمكن أن نصنف الفيلم في إطار الثقافة المقاومة ؟
* وهل تعتقد أن هناك فيلم ما أنتجه فلسطيني لا يدخل في فعل المقاومة؟ بالطبع هذا الفيلم هو فعل ثقافي مقاوم لكل أشكال الاستعمار والانتهاك السافر لحرمة بلدي وشعبي ومصير دولتنا. كل إنسان في الأرض الفلسطينية وفي ارض ما يسمى دولة "إسرائيل" واع بأنه مجبور على أن يكون نفسا مقاوما لأن طبيعة حياته ووجوده تفترض أن يكون مقاوما، نحن لم نختر أن نكون كذلك بل الكيان الصهيوني هو الذي أجبرنا بممارساته على فعل المقاومة. الفلسطيني الذي لا يقاوم عليه ان ينتحر لأن حياته كالموت تماما. من لا يقاوم مغتصبه هو يحيا حياة الأموات.
* ولكنك في الفيلم قمت بدور الفلسطيني الهارب من وجه فلسطين. كنت مهووسا في الفيلم بالسفر إلى كندا وعدم العودة إلى رام الله لولا قصة الحب التي عشتها مع البطلة؟
* صحيح كنت مهووسا بالخروج من فلسطين والسفر إلى كندا أو أي مكان من العالم. هذا دوري في الفيلم إلى أن التقيت "ثريا" البطلة وقصة الحب التي عشتها معها هي في جوهرها قصة حب الأرض الفلسطينية فهي قد عادت من الولايات المتحدة الأمريكية من أجل يافا وأنا عدت من هوسي بالسفر إلى كندا إلى رام الله...
شخصية "عماد" التي شاهدناها في الفيلم تنزع إلى هروب ولكن ليس بالمفهوم الذي نعرفه عن الهروب. يمكن أن نسميه الهروب إلى الداخل... الهروب إلى الأعماق... الهروب إلى كل ما افتقده والى كل ما انتزع منه عنوة. هروب البطل في الفيلم هو هروب من السجن ومن الحصار الذي وجد فيه وهو ليس هروب خوف. كان يرغب أن يعيش بأمان ومن دون صوت بنادق ولا حواجز تفتيش. "عماد" لم يستطع أن يصل إلى البحر مدة 17 سنة بالرغم أن البحر بجانبه ومع ذلك لم يصله بسبب الصهاينة... فخروجه وتوقه للسفر هو في حد ذاته فعل مقاومة ومحاولة لكسر الحواجز. وأنا أتفهم رغبة عماد وأعرف ما معني أن يكون البحر حذوك على بعد كيلومترات ولا تستطيع أن تتمشى على شاطئه.
أنا عمري 32 سنة ومنذ أن كان عمري 18 سنة تقريبا بدأت أفكر يوميا بالخروج من فلسطين وكل مرة أخرج فيها من فلسطين أفشل في مقاومة حنيني إلى العودة إليها ولم أكن اعرف آكل ولا أضحك ولا حتى أعيش حياة طبيعية خارج فلسطين. عشت في باريس وفي فيانا وعدة أماكن أخرى ومع ذلك أعود دائما إلى رام الله... إلى ارضي وأكلي وأصدقائي والى صوت طلق النار...
* الفكرة الأساسية لهذا الفيلم هو مفهوم العودة بين الحق والواجب وكذلك طرح شكل العودة ؟
* بالفعل كل الفيلم يحكي عن العودة ... العودة كواجب والعودة كحق، ومسألة العودة صارت الآن تطرح بشكل جدي ودائم لكن المحاولات الصهيونية متعددة لضرب حقنا كفلسطينيين في العودة إلى أرضنا. أنا شخصيا لا أؤمن بفكرة ما يسمى الدولتين . بالنسبة لي منذ 1948 قام هذا الكيان ببتر أطرافي واحترف تشريدنا وتهجيرنا لذلك من حقي ومن واجبي وبأي شكل كان سلمي أو عنيف علي وعلى كل لاجئ أو مهجر أن ينام ويفيق على حق العودة. بالعودة والمقاومة يمكننا أن نسترد أرضنا كاملة ونبني دولتنا كما نشاء.
* بدا لبعض المشاهدين أن الفيلم مستمد من قصة غسان كنفاني "عائد الى حيفا" هل هذا صحيح؟
* أحداث الفيلم تتمحور حول العودة الي يافا ودعني اقل لك أن الفيلم ليس مستمدا من قصة غسان كنفاني فقط بل من كل من كتب وصور وغنى وأطلق رصاصة لأجل حق العودة. وعلى فكرة عنوان الفيلم "ملح هذا البحر" هو مستمد من أحد قصائد الشاعر الراحل محمود درويش. والفيلم بالأخير أهدته المخرجة آن ماري جاسر إلى النكبة والى مذبحة الدوايمة التي هي مدينة "عماد".
* كيف كانت ظروف التصوير خاصة في المناطق "الإسرائيلية"؟
* ظروف التصوير كانت متميزة وجيدة جدا في كل المشاهد التي قمنا بها في رام الله فالطاقم كله ساعدنا وكذلك المواطنون والسلطات الفلسطينية كلهم ساعدونا في تصوير المشاهد، ولكن منذ أن اتجهنا إلى يافا، إلى إسرائيل أولا الطاقم التقني الفلسطيني منع من الدخول ولذلك اضطررنا أن نغير الطاقم التقني وهناك بعض التقنيين الفلسطينيين الذين تسربوا خلسة إلى يافا لمواصلة التصوير معنا مثلما فعلنا نحن في الفيلم وفي كيفية دخولنا عبر البوابات الإسرائيلية . وكل المشاهد المصورة فيما يسمى دولة إسرائيل هي مشاهد مصورة خلسة. ولو عرف الكيان الصهيوني بهذا الفيلم لما تم انجازه. ولعلمك المخرجة آن ماري جاسر ممنوعة الآن من الدخول إلى فلسطين وهي تعيش الآن بعمان وبيتها برام الله مغلق وهذا طبعا بسبب الفيلم. والعديد من المشاهد التي تابعها الجمهور حصلت لنا مع الجنود الإسرائيليين ومثلا تلك اللقطة التي نزعت فيها بنطلوني وبقيت عاريا هي حقيقية وليست تمثيلية لأنها لم تكن في السيناريو.
* كيف تنظر للسينما الفلسطينية الشابة خاصة أنك مثلت دور البطولة والمخرجة أيضا شابة ؟
* في الحقيقة نحن كجيل جديد في السينما الفلسطينية مازلنا نتحسس طريقنا ومازلنا نبحث عن ذواتنا وعن الطاقات الكامنة فينا. صحيح أن لنا إرثا إبداعيا مهما تركه لنا المبدعون الكبار ولكن نحن كشباب نريد أن نبني إبداعنا ونصنع واقعنا الذي نعيشه وفقا لمقوماته المتغيرة. مثلا جيل اليوم اغلبه أو لنقل النسبة الأكبر منه تؤمن بالدولة الواحد ولا تعترف بفكرة تعايش دولتين جنبا إلى جنب، وهذا في حد ذاته مختلف ومغاير . أيضا يتجلى الاختلاف في النسبة الكبيرة للشباب الذين يتجهون إلى السينما والى المسرح والفن التشكيلي.
* كيف تفسر المقولة التي تعتبر أن المبدع الفلسطيني دائما يدفع ضريبة انتمائه من خلال قضية شعبه وأرضه؟
* الثابت أن القضية الفلسطينة مثلت وما تزال تمثل العمود الفقري وجوهر كل الإبداعات الفلسطينية : المسرح والسينما والشعر والأدب والرقص والغناء .... وهذا قدرنا وربما من زاوية أخرى أقول لك أن القضية الفلسطينية في حد ذاتها قد تمثل عبء على المبدع ولكن القضية بالمفهوم الشامل هي جوهر الإبداع. أنا مثلا وغيري كثيرون نرغب في التعبير عن مسائل وجودية وعن مسائل فلسفية ولكن لا يمكنني أن أتجاوز مسائل الاستعمار والاستيطان والقتل والتشريد على الأقل كمرحلة من تاريخ شعبي ومن تاريخ أرضي ولكن هذا لا ينفي أن الكثير من الإعمال الإبداعية توفقت في التحرر بالفن من أجل الفن وهذا طبعا ساهمت وتساهم فيه العديد من المتغيرات وخاصة منها السياسية بالنسبة لنا نحن الفلسطينيون...
* لننهي هذا الحوار الخاطف بحظوظ فيلم "ملح هذا البحر" في الفوز بتانيت ضمن هذه الدورة 22 لأيام قرطاج السينمائية؟
* أصدقني القول إن قلت لك أن التانيت الذهبي قد حصلت عليه شخصيا منذ وطأت قدماي مطار تونس قرطاج الدولي... صدقني بالنسبة لي التانيت أو الجائزة هي أن أرى دولة ترفع الإنسان فوق جواز السفر... ترفعه فوق الوثائق والأوراق الرسمية التافهة... ثم أنا أول مرة أشارك بأيام قرطاج السينمائية وهذا في حد ذاته جائزة .

2008/10/31

تحرك سينمائي

لستُ مؤهلا لتقييم واقع السينما التونسية وآفاقها لأنّي أفتقد الأدوات اللازمة والمناهج الضروريّة لذلك، ولكن أعتقد أنّه من حقي ومن واجبي أيضا أن أسوق بعض الملاحظات والهواجس والخواطر التي تنتابني كل مرّة تهلّ فيها علينا أيّام قرطاج السينمائية باعتبار هذه الأيّام المحرار الأهم للوقوف على مدى مواكبتنا للمشهد السينمائي الوطني والاقلمي والعالمي...
فهذه الأيّام تمثّل الزّفرة الوحيدة (في حجم اشعاعها) التي يتنفسها أهل السينما ومحبّوه، وبعدها تتناسل الأيّام متشابهة متكرّرة فيما عدا بعض التظاهرات السينمائية المتناثرة هنا وهناك...
فالمشهد السينمائي التونسي في عمومه مازال يسير مسيرة التحرّك الروتينيّ والتململ العشوائي غير المدروس والفاقد لأي أفق تأسيسي...فلا صوت يعلُو على صوت الأقفال الحديديّة التي تُضرب على أبواب القاعات.. ولا صوت يرتفع أمام قلّة الانتاج السينمائي وفوضويّة توزيع الدعم وندرة الحصول على الجوائز...
لا أحد ينكر أنّ هنالك من الأسماء التي تشتغل ليل نهارً للخروج من عنق الزجاجة، ولكنّهم قلّة قليلة وبصماتهم تظلّ بسيطة ومتفرّقة.. وربّما لهذا بالذات لم يتغيّر الواقع السينمائي بشكل جذري أو حتّى في مستواه الأدنى.. المستوى الأدنى، ربّما، يتمثّل على الأقل في الحفاظ على ما تبقّى من قاعات السينما والذّود عن أبوابها ومقاعدها بما ملكوا من ايمان...
ماذا سيحصل لو شاهدنا يوم افتتاح هذه الدورة الجديدة من أيّام قرطاج السينماذية حركة احتجاجيّة يُعلنها المخرجون والممثلون والتقنيون والمشتغلون بقاعات السينما ومعهم الاعلاميون، يحتجون من خلالها على الوضع المتردّي لقاعات السينما وعلى الغلق الدائم والمدروس للعديد من القاعات.. ماذا سيحدث؟! قطعا سيسجّلون موقفا للتاريخ أولا وثانيا قد يوقفون نزيف القتل الرمزي الذي ينتهك قاعاتنا...تخيّلوا النوري بوزيد وفريد بوغدير، سلمى بكار، يونس الفارحي، الناصر خمير، محمد علي النهدي، محمد علي بن جمعة، لطفي العبدلي، لطفي الدزيري، محمد أمين بن سعد، الناصر الصردي، رؤوف بن عمر، المنصف ذويب، بهرام العلوي، نجيب بالقاضي، إلياس بكار، حلمي الدريدي، سناء كسوس، تخيّلوا تجمّعا بهذه العناصر وغيرها ممّن نسيت في قلب شارع الحبيب بورقيبة أو في نهج ابن خلدون حيث قاعات السينما...
تخيّلوهم يتحرّكون والجماهير خلفهم.. يعضدهم أهل المسرح وبعض الكتاب والفنانين والشعراء والإعلاميين... ومعهم ضيوف الدورة خالد يوسف وياسمينة خضرا وعزت العلايلي واسماعيلو وخالد النبوي...
تخيّلوهم حتى بشكل سينمائي...
المهم أن نتخيّل أنّ السينما دون موقف وتحرّك كهذا لن تدوم طويلاً...

2008/10/23

صديقي العربي نصرة


لفْتًا لانتباه الرجل المعنيّ بمضمون هذه الأسطر رسمتُ حروف اسمه عنوانًا لهذه البطاقة الأسبوعيّة.. ورفعًا للكلفة والتكلّف اللتين تفترضهما الخطابات الموجهة للمسؤولين الرسميين ناديتُ الرّجل بصديقي وأنا الذي لم أُلاقِه الاّ مرّة واحدة عندما جلست إليه في مكتبه بقناة حنبعل قرابة الساعتين أنجزت معه حوارًا كنتُ نشرته السنة الفارطة على أعمدة «الشعب»...
السيد العربي نصرة ليس صديقًا شخصيا لناجي الخشناوي ولكن أعتقد أنّه أصبح صديقًا لكل مشاهد يتابع برامج فضائياته الثلاث: حنبعل TV وحنبعل الشرق وحنبعل الفردوس، وواضحٌ أنّ منبع هذه الصداقات الافتراضية هي تلك المادة الاعلامية والترفيهية والتثقيفية التي يحرص الرجل على تقديمها إلى المشاهد والتي لن أضيف جديدا إن قلت أنّها أحدثت «رجّة مشهدية» في الاعلام التونسي.ليس تقييم برامج حنبعل هو محور حديثي ولا هو أيضًا داعٍ من دواعي ادّعاء صداقتي للعربي نصرة ولكن تحديدًا أرغب من وراء هذه الأسطر أن ألفت انتباه الرّجل إلى امكانية احداث قناة جديدة ضمن باقته المُزمع فتحها في قادم الأيّام..«حنبعل الثقافة» أو «حنبعل الثقافية» أمنية قد يكون لي السبق في التصريح بها وقد تكون أمنية تأججت في صدور مئات المثقفين في هذه البلاد ومن ينوسنا بالهم الثقافي..قناة تونسيّة تُعنى بالثقافة وحدها مشروع مهم وفارقٌ وتأسيسيّ.. مشروع نفتقده في مشهدنا الاعلامي وفكرة تأخّرت كثيرا عن التحقق والانجاز...مشروع أقدمه إلى السيد العربي نصرة رأسًا وقلبًا ربّما لأنّه الرّجل الأوّل المؤهل لذلك لما عُرف به من طموح مجنّحِ ومن روحٍ مُغامرة لم تصله الاّ إلى أرض النجاحات المتواصلة.. لن أبدي رأيي في قناة «حنبعل الفردوس» لأنها لا تعنيني بالمرّة ولا تضيف لي جديدا في ظلّ الطوفان الملائكي الذي يُغرقنا يوميّا بدءًا من الاذاعات الدينية وصولا إلى أطفال الشوارع الذين يبيعون كتيبات دينيّة مرورًا بالمعارض الرسمية وشبه الرسميّة التي تروج لكتب الدين وصكوك الغفران...شخصيا أعتبر قناة «حنبعل الفردوس» قناة كميّة تدخل في باب التكاثر العددي وبالمقابل أعتقد جازمًا أنّ فتح قناة ثقافية يُعتبر انجازًا نوعيّا وتأسيسًا ايجابيّا...إنّ تأثيث ساعات بث يومي بمادة ثقافية عميقة ليس بالأمر الصعب ولا المستحيل ذلك أنّ المادة التوثيقية متوفّرة ولا أخالها باهظة الثمن هذا فضلا عن المواكبات والمتابعات المطوّلة لمختلف الفعاليات الثقافية الوطنية والعربية والدولية، وطبعا إلى جانب احداث برامج حواريّة مع مبدعين ومثقفين بشكل تأسيسي لا بشكل تهريجي وعشوائي كالذي نراهُ في برامج تدعي أنّها ثقافية وهي إلى التهريج أقرب، وأهم من كل ذلك الايمان بأنّ المثقف ليس المُكرّس من قبل وسائل الاعلام، بل المثقف هو الباحث الذي لا نراهُ وهو المبدعُ المشغول بابداعه وهم كثُرٌ في بلادنا غير أنّ الضوء لا يطالهم بعد ان استأثرت به أسماء معلومة أخاف أن تموت وتظلّ أيقونة أبدية في الشاشات وعلى الأثير...صديقي العربي نصرة لست مُلزما بتنفيذ هذا المشروع ولست ملزمًا بفتح قناة ثقافية ولكنّك ملزما بالحفاظ على احترام الملايين الذين يتابعون برامج قنواتك...

2008/10/19

أربـــــــــعون


بين صمت وكَلام تَتدحرَجُ الفكرةُ من سَديمها نحو قَرَارَة قلبك أو دمَاغك. تُباغتك على غَير موعد، وأنَّى لهَا ذلك... فتَتدفّقُ كالدَم في شَرايينك الأخطبُوطية...
أن تَقبَل الفكرَة وتَستسيغَها أو تَرفضَها وتطرحهَا جانبًا فتلك مسألة لاَحقة، ولكن الثابتَ والمؤكد أنهَا ـ وهي تبَاغتك ـ تمنحك حرارة ودفء تنسي معهما أن تقف على إمكان تحققها على أرض الواقع من استحالتها...
«أربعون» لا تحيل بالمرة لا على «خمسون» الفاضل الجعايبي ولا على «ثلاثون» الفاضل الجزيري، ولكنها عنوان تخيرته لفكرة باغتتني على غير موعد بإيعاز إعلامي تكثف في الآونة الأخيرة من خلال المنابر والومضات الاشهارية والأخبار والمتابعات اليومية والفورية ومن خلال البرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات الصحفية والالكترونية المحتشدة حول «سنة الحوار مع الشباب».
سأسرد الفكرة التي باغتتني على علاّتها بكل تجرّد تماما مثلما وردت عليَّ... سأطرحها بين يدي القارئ على بساطتها ... وأترك له فسحة التأويل علّه يقف على عمق ما بين تلافيفها أو جدية محتملة فيما خامر دماغي ورجَّ قلبي...
قالت لي الفكرة على لسان خيالي في سياق يوم تونسي شبيه بأمسه وقد لا يختلف عن غده، ماذا لو يُعْلنٌ بشكل قطعيّ وحاسم على أن يصير السقف الأقصى العُمُري لكل مسؤول «أربعون» سنة لا أكثر؟؟؟
هكذا قالت الفكرة العَابرة تاركة خيالي سابحًا في أقانيمهَا القريبة والبعيدة حيث انبريتٌ أعدّد المسؤولين الإداريين والسياسيين والثقافيين والمدنيين والرياضيين... و...و... وأراهم دون الأربعين حولا... يعلنون ويدشنون وٌيمضون ويقررون ويوافقون ويدعّمون ويرفضون و...
رَأيتُ وزراء دون الأربعين سَنة ورؤساء مديرين عامين كذلك والأمناء العامون للأحزاب السياسية والمنظمات المدنية دون الأربعين سنة... وتخيلتُ مديري القنوات التلفزية والإذاعات الوطنية ورؤساء تحرير الصحف والمجلات ومديري دور الثقافة والشباب ومدير مدينة الثقافة دون الأربعين سنة... وكذلك المجالس النيابية والاستشارية والاقتصادية...رأيتُ عٌمداء الجَامعات والكليات والمعَاهد العليَا دون الأربَعين سنة... وبالمثل رؤساء البلديّات والمعتمدين والولاّة... ومعهم تخيّلتُ مدير مكتب التشغيل أربعينيّ هو الآخر...
مدير بيت الشعر والمسرح البَلَدي ومهرجاني قرطاج والمدينة وكَذا مدير الوَكَالة الفنية للانترنت ورؤساء الجمعيات الرياضية ومعهم ممرنو المنتخبات الوطنية لمختلف الرياضات... رأيت الجميع دون سن الأربعين...
أوصَلتني الفكرة بعيدا فرأيتُ آن زمان التَّنصيب والتَّعيين قد مضى بلا رجعة، وان من سيتحمل مسؤولية ما في أي هيكل كان عليه أن يبرهن قبل الأربعين جدارته بما عُهد إليه لا بما يرصفه من مدح مجاني... وذكرتني الفكرة ذاتها أن مقولة الشباب هو شباب الروح والقلب والفكر لا شباب العمر هي مقولة لا تنسحب إلا على نسبة ضئيلة جدا ممن تخلص فعلا من عقدة التكلس والأبوية والبطريركية والدوغمائية...
أَلَم يُعلن محَمدًا نُبُوءَتَهُ في سنّ الأربعين؟

2008/10/06

درجة أولى

ألقىبجسده داخل العربة وهو يلهث دون أن يتثبت منها, بعد أن فاجأته صافرة القطار منذرة بانطلاق الرحلة. أنزل الحقيبة الثقيلة من فوق ظهره وركنها حذوه, فوق الكرسي الفارغ, ثم رفع رقبته إلى الأعلى حيث يندفع الهواء باردا من مكيف العربة.لما انتظمت أنفاسه شرع يتفرس ملامح المسافرين المنتشرين داخل العربة الواسعة. لم يكونوا كثرا: سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وأزرار آلة التصوير الرقمية تداعبها تارة أمام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء وشاب يلاحق إيقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه, وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية.كانوا ثلاثة وهو رابعهم صامتين وسط عربة القطار الواسعة والمكيفة وكانت باقي المقاعد شاغرة المقاعد كانت من الجلد الخالص وسليمة من آثار التخريب أو التمزيق وفي طرف كل مقعد ثٌبتت مطفأة سجائر.ـ إذن التدخين مسموح به في هذه العربة.أشعل سيجارة وعاد يمشط العربة ببصره عله يعثر على خربشة بالقلم فوق أحد المقاعد أو تصادفه مُلصقة اشهارية ممزقة الأطراف فوق البلور المفتوح على الخارج.توقف القطار في المحطة الأولى. انزلق باب العربة على اليمين والشمال ولم يصعد أحد, وإنما تناهى إلى سمعه ضجيج وصياح تعالى من ذيل الثعبان الحديدي.في المحطة الثانية نزلت السائحة وصعدت فتاة تحتضن بين ذراعيها جروا أبيض اللون ومن عنقه تدلت قلادة ذهبية. ظل ينقًل بصره بين صدرها الناهد وذيل الجرو الملتصق بإحدى حلمتيها برهة من الزمن ثم فتح حقيبته وأخرج سكينا ومقصا. وضعهما فوق المقعد بجانبه، وعاود النظر إلى الفتاة... ثم شرع في تجميع وترتيب زهرات الفل والياسمين و يلفها بالخيط الأبيض الرفيع، بحركات بهلواني. سريعة ودقيقة.عندما كان مشغولا بما بين أصابعه لم يتفطن إلى مراقب التذاكر وهو يدخل من الباب الخلفي للعربة ويتجه نحوه مباشرة بعد أن وزع ابتسامته للفتاة وتحيته للشاب والمرأة.ـ التذكرةـ تفضلسحبها من جيب سترته وهو يغلق حقيبته كيفما اتفق ويجمع حبات الياسمين والفل المتناثرة فوق ركبتيه.ـ ماذا تفعل هنا ؟ إنها تذكرة درجة ثانية.ـ لم انتبه, فاجأني القطار فصعدت من أول باب مفتوح.توقف القطار في المحطة الثالثة. نزل مراقب التذاكر حاملا الحقيبة المملوءة بأزهار الياسمين والفل وهو يتبعه من الخلف ويتوسله أن يخلي سبيله.بعد أن خرج من مخفر الشرطة أين حجزت حقيبته بما حوت، قطع السكة في اتجاهها العكسي. اقتطع تذكرة للعودة من حيث جاء وغاب طيفه في الضجيج المتعالي أمام العربة درجة ثانية.

2008/10/04

ايقاع الصدفة لمنذر العيني

... لولا القصائد حين تأتي

قد لا أتجنى على الديوان الشعري الجديد للمنذر العيني اذا ما كثفت متنه كاملا في السطر الشعري الوارد في أولى قصائد الديوان والذي يقول ضمنه الشاعر «أشياؤنا نتف كنثار الدواخل» فتيمة هذا الاصدار الجديد الصادر منذ اسابيع قليلة عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع تنهض اساسا من الانصهار الكلي بين التفاصيل اليومية او العادات السيئة العابرة من جهة وايقاع الذاتي الداخلي المثخن بأحاسيس مختلفة ومتضاربة في الغالب...
فالشاعر المعزول في أرضه الشاحبة يتدفق عالمه الداخلي بنجوم اخر الليل... بالاصداء تسقط وترا في يديه... لنلمحه من بعيد مترنحا بين عالمين / ايقاعين... مادي عابر زائل ورمزي استوطن عريشات قلبه وحاصر ذاكرته من كل الجهات... ومن يطلع على اعمال المنذر العيني السابقة لايقاع الصدفة، فاتحة لمدار الريح وظلال المسافة سيكتشف ان العيني زرع «زهرة النرد» وانبرى يعتني بوريقاتها وزهرة النرد عند نيشته او مالارمي هي اخصاب للتعدد حيث تضحي اللغة ملعب الشاعر لاثبات كينونته التاريخية او هي جسد التاريخ بعد العود الابدي لجوهر الكائن في العالم المحيط به... ذلك ان لغة الشاعر تلعب لعبة الذات في الحضور والتخفي وفي الفعل واستحضار الفعل... انها لغة «على مقربة من سان جون بيرس، على مرأى وسمع من قفانبك. لغة للميعاد في التيه اصداؤك» كما يصفها منذر العيني في قصيدة «موعد النار» من ديوانه «ايقاع الصدفة»...ضمن هذا الاصدار تتأكد لدى الشاعر منذر العيني تلك القدرة على اضفاء الهيبة والقدسية وأسطرة الاشياء العادية والاحداث العابرة من خلال الزوايا الدقيقة التي يبني عليها متنه الشعري، وايضا من خلال توليد الرؤى وترتيب التداعيات والصور حول النواة الاولى لكل نص شعري والتي غالبا ما تكون تجربة حسية او نفسية عاشها الشاعر او كذلك أحالت او ارتبطت بحدث تاريخي لكأنه أقرب الى الروح التأملية العميقة ولعل ذلك ما يفسر تنوع الايقاعين الداخلي والخارجي لنصوص هذا الديوان وتواتر النصوص النثرية المشبعة بالروح الشعرية...كتب الشاعر في الصفحة 84 من «ايقاع الصدفة»:«تنبت الذكرى على راحتها حين أريد الامحاء، لن تمّحي الآن مازال لك الآهات ـ أحلامك في الريح ـ وأيامك ثكلى ايها المنثور في الارجاء هنا في «رأس بوغاز» قبلة السور الأغلبي بسوسة أين ضوء الفنارات.

2008/10/03

ذاكرة المحو الدرامية


حفظ الذاكرة من أمر صاحبها واتلاف حياتها واخماد نبضها كذلك من صنعه هو، وصاحب الذاكرة قد يكون فردا كما يمكن ان يكون مؤسسة، وكذلك هما الاثنان معا يشكلان ما يسمى الذاكرة الجماعية لشعب ما أو أمة ما.والذاكرة هي مجموع الاحداث والمحطات التاريخية التي يصنعها اعلام وشخصيات يدوّنون ويؤثثون حاضرنا فيما مضى من زمنهم فتصير مشتركا عموميا نعود الى تفاصيلها المضيئة ونعتبر من نكساتها وهزاتها...وتتفنن الشعوب بأفرادها ومؤسساتها في حفظ ذاكرة أيامها وتخليد اسماء من بصموا التاريخ بأفعالهم ومواقفهم التي تبلغ حد الاسطرة.
وكانت اشكال حفط الذاكرة، في القديم، تتمثل اساسا في بناء المتاحف وصقل التماثيل وانشاء الساحات العامة وبالخصوص على الذاكرة الشفوية بزخمها الحميمي وفائضها الرمزي...أما أشكال حفظ الذاكرة حديثا فتتمظهر أساسا ـ الى جانب الاشكال التقليدية ـ في التعويل على ما تقدمه التكنولوجيا من محامل الكترونية وأيقونات رقمية اين نقف على الاعمال التوثيقية وعلى الاعمال المستلهمة من من فورة الماضي ومن ذاكرة الشعوب، ومن بين هذه الاعمال المنجزات الدرامية كالافلام والمسلسلات والتي صارت تمثل شكلا مهما من اشكال التوثيق وحفظ الذاكرة وانعاشها...ولنا في الدراما المصرية والسورية واللبنانية عشرات الاعمال التي تخلد وتحيي أعلامها وتاريخها ويكفي ان نذكر اعمالا لجمال عبد الناصر وأنور السادات وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ واسمهان ولحرب الايام الستة وناجي العلي والاجتياح الصهيوني والكثير الكثير من الاعمال التي أحيت ذاكرتنا...أما درامتنا التونسية فهي غارقة في اجترار حكايات الريف والبلدية، حيث تهدر المليارات سنويا لسيناريوهات بائسة وبسيطة وساذجة، تطالعنا حكاية أزمة النص والسيناريو بعد كل خيبة يناله المشاهد التونسي، في حين ان تاريخنا زاخر بأكثر من حدث واكثر من اسم يمكن الاشتغال عليه وانجاز عمل محترم يمكن ان يتحول الى مرجع ويكفي ان نذكر معركة الجلاء وأحداث ساقية سيدي يوسف وأحداث الخبز أو نذكر حبيبة مسيكة وصليحة والهادي الجويني والحبيب بورقيبة والدغباجي ومنور صمادح وتجربة التعاضد وفرحات حشاد ومحمد علي الحامي، الى جانب المدونة الروائية للعديد من الكتاب التونسيين التي يمكن تحويلها الى اعمال سينمائية أو درامية...

2008/09/30

جمهورية البن

جمهورية البنّ هذه التي سأكتب عنها لا علاقة لها بجمهورية أفلاطون الفاضلة ولا بجمهورية الفرابي ولا بجمهورية ماركس، فهي لم تسبق بتظير فلسفي او بتفكير عقلاني في مقوّمات وجودها ومسوّغات استمرارها، وإنّما هي تفرّدت بخيارات اقتصادية وبمناهج تدبير تربوية وسياسية واجتماعية وثقافية أبلى مدبّروها البلاء الحسن ليجعلوا منها نموذجا عالميا لا يُقارن، وجمهورية فارقة في تاريخ تشكل الامم وتكوّن المجتمعات على مر العصور...جمهورية البنّ هذه شعارها المركزي يتكوّن من ثلاثة قيم رئيسية ثابتة في «بن ـ سكّر ـ معلقة»، وأهل ديارها متساوون جميعهم في الحقوق والواجبات، هم في الحقيقة والواقع يتمتعون بحق واحد وواجب واحد ايضا هو حق احتساء القهوة وواجب دفع ثمنها.كما تتميّز جمهورية البنّ بعدالتها الاجتماعية اذ وفرت لجميع «رعاياها» وظائف مناسبة مثبتة على ظهر هوياتهم الشخصية عبرت عنها بتركيب لغوي بسيط وذو دلالة موحية: «زَبُونُ مَقْهَى».كما ان جمهورية البنّ هذه تخطّط في السرّ لبناء مركّب للتكوين والتأهيل سيدرس فيه دكاترة وجامعيون آداب الجلوس في المقاهي وآداب شرب أنواع من القهوة دون غيرها ومناهج دفع حساب النادل، ويشاع ايضا أن بعض المتنفذين في ادارة دواليب جمهورية البنّ ينوون اقامة مسابقة وطنية مفتوحة لجميع رعايا البلاد من اجل التنافس على الفوز بجوائز وأوسمة ذهبية ثلاثة ستوزّع على الأكثر إدمانا على الجلوس الى المقاهي، والأكثر إحتساء لفناجين القهوة المرّة وايضا للأكثر إذعانا لمشيئة النادل!!!وتجدر الاشارة الى أن جمهورية البنّ هذه قد تعدّل دستورها بمناسبة أحد احتفالاتها الوطنية مسايرة لتقدمها الباهر وإزدهارها المنقطع النظير حيث رأى الساهرون على أمرها ضرورة منع بعض العادات والممارسات التي قد تضرّ بفرادتها كوجود جمعية الدفاع عن المستهلك ووجود بعض الطلبة والمثقفين الذين يطالعون اثناء أداء مهنتهم وفقا لبطاقات هويّة الجمهورية وغيرها من السلوكات التي سيقع النظر فيها...

2008/09/24

الواقفون على الربوة


«الوقوف على الربوة أسلم...» مقولة قديمة رسّخت ذهنية الاستسلام والتواكل والهروب من المواجهة بتعلة وهم السلام والامان.مقولة قديمة جدا صارت مطية مريحة لأكثر من عشرة ملايين مواطن ومواطنة يركبها الواحد منهم بكل فخر واعتزاز ليمضي كالسهم في سبيل الغد ـ بمفهومه الكرونولوجي الضيق ـ مطمئن البال مادام واثقا من تحقيق البعد «الأرقى» لديه أي البعد البيولوجي!!! وكأن النمط الوحيد لوجود التونسي (اكثر من ثمانين بالمائة على الاقل) ومشاركته في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية هو الاستهلاك البيولوجي وعلك الوقت كما يعلك الجمل الكلأ!!!
فالموظف يمضي ما توجب عليه من ساعات عمل لا بعقلية المساهمة والاضافة وانما للتخلص من ثماني ساعات عمل ذلك ان اغلب موظفي الوظيفة العمومية يجيدون جيدا استنباط الحيل والمبررات للتملص من أدائهم واتمام واجبهم المهني هذا فضلا عن قناعتهم الراسخة بأن وظائفهم اميتازات وليست واجبا وطنيا تفرضه سيرورة البلاد وصيرورتها التاريخية، وهو ما يشرّع لأغلبيتهم الساحقة انتهاج سلوك المعاملات الخاصة والمحاباة والتي صارت تمثل مورد تمعش مواز للوظيفة بل ان مدخولها صار يفوق لدى العديد من الاداريين أجورهم الرسمية...والاستقالة او الانهزام والصمت صار تيمة «المثقف» بعد ان تخلى عن دوره الطلائعي وصار اغلب المثقفين كالدجاج يبحث عن حبات القمح المتناثرة في الأمسيات والندوات والتظاهرات وغيرها من الولائم الادبية... ولم يعد احد معنيا بالرؤية الجماعية والمشروع الوطني فيما يخص الثقافة بل الكل يتنازع وجوده على ساقيه بمفرده سواء كان في السينما او المسرح او الفكر او الموسيقى...وكذا المجتمع السياسي والمدني تناثرت حباته على أديم المواعيد المألوفة والمكرورة لتصبح التحركات والنضالات بطاقات وجود واشعار بالحياة لا اكثر ولا أقل...أراهم جميعا، اولئك الثمانين بالمائة من المجتمع التونسي منحشرين فوق ربوة صغيرة يتدافعون ويتصايحون كل يوم رافعين شعار الامان والسلم ماداموا رابضين يعدون ايامهم فوق ربوة السكر المطوّقة بمياه هادرة من كل مكان...

2008/09/23

شوارع محظوظة


حالفني الحظ فزرت عددا من الدول الاوروبية والامريكية وتجولت في شوارعها وساحاتها العمومية فوقفت مشدوها امام نظافة هذه المدن وجماليتها ولن أغالي ان وصفت بعضها بأنها خيالية كتلك التي نشاهدها في أفلام الصور المتحركة، ذلك ان المتجول فيها لا يكاد يعثر على عقب سيجارة ملقى على رصيف ما، او يجد حجارة واحدة منزوعة من مكانها بهذا الرصيف او ذاك الممرّ... فالحاويات الأنيقة تتلاصق في كل الشوارع وتنتصب امام المحلات التجارية والمقاهي والملاهي والشركات، وحتى المناضد تجدها امام كل باب باعتبار ان التدخين ممنوع في الاماكن المغلقة...واهم من توفر شروط النظافة من حاويات ومناضد وعمال هو الذهنية النظيفة، ذهنية العيش في فضاء جمالي تتوفر فيه جميع مقومات البهجة، وهذه الذهنية تتأكد لدى المواطن الغربي من خلال ايمانه العميق بمسؤوليته الفردية إزاء المجموعة قبل ان يُلقيها على عاتق الدولة باعتبارها مهمة من مهامها يدفع لأجلها معاليم محددة سلفا...هذا الايمان بالمسؤولية والمعرفة بالحق والواجب هو عين الاختلاف بيننا وبينهم، فإيمان المواطن التونسي بالنظافة وهاجسه بالمساهمة في تجميل مدينته باهت وشاحب بل هو منعدم تماما، ولن أغالي ان قلت اننا نعيش اليوم وسط مزبلة كبيرة تمتد من شوارع العاصمة ومراكز الولايات وتصل الى الحقول والضيعات المنتشرة داخل الجمهورية، فضلا عن المناطق الصناعية...فشوارع عاصمتنا ومثلها شوارع كل الولايات ترزح تحت وطأة قشور البيض المسلوق وعلب السجائر وأعقابها والاكياس البلاستيكية وقوارير المياه المعدنية والغازية وعُلب الجعة وبطاقات شحن الهواتف وحجارة الارصفة وأكداس الرمال واشارات المرور المنزوعة من أماكنها...وحتى الاثاث القديم تجده مركونا امام المنازل، وكل هذه الاوساخ يلقي بها المواطن عن وعي وعن غير وعي على أمل ان يحملها العامل البلدي، غير ان هذا العامل يقوم بعمله بالتقسيط، فالى يوم الناس هذا لم أصادف عاملا بلديا واحدا يقوم بعمله على وجه الاتقان بما يمليه عليه ضميره المهني بل إن الكثير من جرارات التنظيف ومن العربات المدفوعة تساهم في تلوث الاماكن التي تمر بها.وقد يُعذر العامل البلدي عن هذا التقصير لعدة اسباب لعل اهمها أجره المتدني وارهاقه المتواصل وقلة الامتيازات التي يتمتع بها وخاصة الحماية من الامراض وغيرها، لكن هناك ظاهرة خطيرة جدا تكاد تكون أبدية وتقليدا جاري به العمل تتمثل في النظافة الجزئية، تلك التي تخطط لها المجالس البلدية وتنجزها بإتقان مدهش ويمكن لأي مواطن ان يكتشف هذه الظاهرة إبان الاستعداد للاحتفالات والاعياد خاصة منها الوطنية، اذ نلاحظ كيف تتجنّد الدوائر البلدية بعمالها وأدواتها ومسيريها لتنظيف وتلميع وتزيين مدخل مدينة ما سيزورها مسؤول ما أو القيام بحملة نظافة بشارع رئيسي لان مسؤولا اخر سيمر بسيارته من هناك وبعد العيد تترك للاهمال والاوساخ.ومن المفارقات العجيبة ان الاوساخ التي تجمع من الشوارع المحظوظة تُلقى في قلب الشوارع غير المعنية بجولة المسؤولة وتترك هناك أكداس ونُثار امام المنازل وفوق الارصفة لكأنها هدية من بلدية المكان بمناسبة الاحتفال الوطني.إن مثل هذه الممارسات والاعمال لا يمكن ان تؤوّل الا بتأويلين وحيدين، الاول ان النظافة هي حكر على المسؤولين وعلى اماكن اقامتهم واعمالهم وزياراتهم، والثاني ان المواطن لا قيمة له ولا قيمة لحياته ولا ضرر ان يعيش أبدا وسط المزابل ومع جيوش الحشرات والامراض البيئية لأجل ساعة من الزمن سيقضيها مسؤول واحد وهو يمر بشارع ما مرة واحدة في السنة.ان تبليط الارصفة والعناية بالانارة العمومية وتنظيف كل الشوارع دون استثناء وحماية المساحات الخضراء والحفاظ على جمالية المباني ومداخل المدن حق لكل مواطن دون استثناء مثلما هي واجب عليه، ونحن بالاخير نعيش في وطن واحد وليس في وطنين، واحد نظيف وثان ملوّث ومتسخ، وكل شوارع الجمهورية هي ملك لكل الاقدام التونسية، أقدام العامل والعاملة وأقدام المسؤول والمسؤولة...

2008/09/22

القطار المغاربي


صادف أن سافرت منذ سنوات قليلة إلى الجزائر الشقيقة عبر القطار الذي كان يربط أرضنا بأرض المليون شهيد... فتوفرت لي فرصة اكتشاف سلاسل جبال خمير والمجرى العظيم لوادي مجردة واكتشفت أيضا عدة مدن تونسية وأخرى جزائرية مثل مدينة سوق هراس وعنابة وخاصة تلك المدينة الأسطورية المحروسة بقناطرها وجسورها، تلك المدينة التي عشقتها الروائية أحلام مستغانمي وما وفت في عشقها... لقد مكنتني سفرتي بالقطار من اكتشاف مدينة قسنطينة الجزائرية.
ولئن زرت أيضا المملكة المغربية في إطار المنتدى الاجتماعي المغاربي ولكن كانت سفرتي وقتذاك بالخطوط الجوية فاني أيضا اكتشفت سحر المدن المغربية ولفحتني روائح التشرد وعبق الكتابات المغربية المارقة... ولكني أيضا ظللت مسكونا برغبة عميقة في معاودة السفر إلى المغرب عبر القطار الذي كان يطوي الجبال والوهاد ويشق الحدود وهو يتمايل بأحاديث وأغاني المسافرين والمسافرات...
القطار الذي كان...ما عاد اليوم يسافر والسبب قلة المردودية المالية، وهذا سبب في اعتقادي واهن يمكن حله ببساطة كبيرة. فمثلا لو يتم الإشهار لرحلات القطار في البلدين، تونس والجزائر، ويقع تنظيم رحلات مدرسية وجامعية وسياحية، ويتم التنسيق مع المبيتات الشبابية وبعض النزل وتبرمج مثلا رحلة واحدة في النصف شهر وتكون في نهاية الأسبوع، ليتمكن الموظفون والطلاب من السفر خاصة أن سعر التذكرة ذهابا وإيابا لا يتجاوز 23 دينارا فقط... لو توفرت بعض هذه الشروط البسيطة لحقق القطار مدخولا محترما ولتمكن الشعبان من التواصل الحقيقي، مثلما يحصل في الاتحاد الأوروبي من خلال القطارات الدائمة الحركة في ربط أوصال الفضاء الأوروبي...
ففي الاتحاد الأوروبي يمكن لشاب مثلا أن يسافر من بلد لآخر لقضاء سهرة بليلة واحدة مثلما يمكن لطالب أو مجموعة من الطلبة السفر لحضور ندوة علمية او محاضرة في جامعة ببلد آخر، خاصة أن تذاكر سفرهم مدعمة من قبل الدول...
إن مراقبة الرحلات التجارية والحد من مظاهر العنف المسمى إرهابا، من قبل الدوائر الرسمية من شأنه أن يجعل القطار المغاربي فعلا مجسدا فوق دروب الأجزاء الخمسة للفضاء المغاربي، وأعتقد أيضا أن مشكلة الصحراء الغربية، قد يساهم هذا القطار في التخفيف من حدتها، بل قد يساهم في حلها نهائيا إذا ما تواصلت الشعوب تواصلا حقيقيا، تواصلا حضاريا وثقافيا خلاّقا يقوم على التبادل الفعلي...
إن مدّ الجسور الحقيقية بين أقطار المغرب الكبير لن يتحقق من خلال الخطب الرنانة أو اللقاءات الرسمية أو بطاقات التهاني الموسمية، بقدر ما يتحقق كلما تواصلت الشعوب مع بعضها البعض:الكُتّاب والسينمائيون، المسرحيون والشعراء، الطلاب والتلاميذ، العائلات والأصدقاء... فإذا ما توفرت وسيلة النقل التي تؤمن رحلات لتونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا، القطار المغاربي، فان مثلا التجارة العشوائية أو المهربة ستخفت لأن كل مواطن سيصير قادرا على اقتناء ما يرغب فيه من دون محتكرين أو مهربين، واعتقد أن تكلفة مدّ سكة حديدية على مساحة المغرب الكبير لن تفوق ميزانية ثلاثة أو أربعة لقاءات رسمية لن تخرج إلا بقرارات جبرية...

2008/09/20

télécommande


أعتقد أنّ الآلة الأكثر استخداما هذه الأيّام في المنازل التونسيّة هي آلة التحكم عن بعد في جهاز التلفزيون والمتعارف عليها بــ:»التيلي كوموند».
فهذه الآلة الصغيرة تمثّل أهم وسيلة للمشاهد التونسي للهروب من كوابيس قنواتنا التلفزية الوطنية الذّاهبة في استهتارها بانتظارات جمهورها ومزيد استبلاهه، وأعتقد أنّ قنواتنا التلفزيّة تتبنّى شعارًا موحدا تمثّل في «خُذ وهم على قد عقولهم» أي نحن المواطنون الذين يدفعون الأموال لهذه المؤسسات.فالغُبْنُ الذي يسبح فيه المشاهد التونسي وهو يتابع ما تقدمه له التلفزة التونسيّة لا يمكن أن نقدّر حجمه ذلك أنّه يتضاعف كل ليلة ومع كل برنامج أو سلسلة أو مسلسل ولولا أزرار آلة التحكم عن بعد لخرجت في شوارع البلاد مسيرات شعبيّة حاشدة تطالب باغلاق مؤسسات الارسال التلفزي.ولو قام المعهد الوطني للاحصاء بعمليّة سبر آراء لمتابعات المشاهد التونسي لوجد أنّ واحدا بالمائة ـ أو أقل ـ يتابعون البرامج التونسيّة وحتما سيكون ذلك الواحد بالمائة هم الممثلون والتقنيون والمخرجون والمنشطون وعائلاتهم وأعتقد أنّ لا غرابة في ذلك خاصة أنّنا صرنا اليوم نطالع في «جينيريك» بعض الأعمال عشرات الأسماء التي تنتمي إلى نفس العائلة مثل أحد المسلسلات الذي كُتب على البعض أن يُشاهده عنوة هذه الأيّام، حيث نجد أنّ مخرجه ومنتجه واحد ونطالع في «جينيريكه» أكثر من عشرة أسماء من نفس العائلة منهم الممثل ومنهم التقني!! لكأنّ الأمر بات ترفا ثقافيا، فيكفي الواحد أن يكون متنفّذا وله الملايين ليجبرنا على تقبّل نزواته!!!أعود إلى آلة التحكم عن بعد فأقول أنّ المحطّات التلفزية اللبنانية والسورية والمصرية ـ وطبعا الفرنسية ـ جميعها صارت الملاذ الحقيقي للمشاهد التونسي لجديّة ما تقدّمه من أعمال دراميّة هادفة ومن برامج جادة...ويكفي أن نذكر مسلسل «باب الحارة» مثلا أو مسلسل «اسمهان» للمخرج التونسي شوقي الماجري لنقدّر حجم الفارق بين الطرح الذي تقدّمه هذه الأعمال مضمونيا وتقنيا وبين المكتوب علينا أن نشاهده على تلفزتنا التونسيّة بطرحه البسيط والساذج...

2008/09/19

درجة اولى

القىبجسده داخل العربة وهو يلهث دون أن يتثبت منها, بعد أن فاجأته صافرة القطار منذرة بانطلاق الرحلة। أنزل الحقيبة الثقيلة من فوق ظهره وركنها حذوه, فوق الكرسي الفارغ, ثم رفع رقبته إلى الأعلى حيث يندفع الهواء باردا من مكيف العربة।لما انتظمت أنفاسه شرع يتفرس ملامح المسافرين المنتشرين داخل العربة الواسعة. لم يكونوا كثرا: سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وأزرار آلة التصوير الرقمية تداعبها تارة أمام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء وشاب يلاحق إيقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه, وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية.كانوا ثلاثة وهو رابعهم صامتين وسط عربة القطار الواسعة والمكيفة وكانت باقي المقاعد شاغرة المقاعد كانت من الجلد الخالص وسليمة من آثار التخريب أو التمزيق وفي طرف كل مقعد ثٌبتت مطفأة سجائر.ـ إذن التدخين مسموح به في هذه العربة.أشعل سيجارة وعاد يمشط العربة ببصره عله يعثر على خربشة بالقلم فوق أحد المقاعد أو تصادفه مُلصقة اشهارية ممزقة الأطراف فوق البلور المفتوح على الخارج.توقف القطار في المحطة الأولى. انزلق باب العربة على اليمين والشمال ولم يصعد أحد, وإنما تناهى إلى سمعه ضجيج وصياح تعالى من ذيل الثعبان الحديدي.في المحطة الثانية نزلت السائحة وصعدت فتاة تحتضن بين ذراعيها جروا أبيض اللون ومن عنقه تدلت قلادة ذهبية. ظل ينقًل بصره بين صدرها الناهد وذيل الجرو الملتصق بإحدى حلمتيها برهة من الزمن ثم فتح حقيبته وأخرج سكينا ومقصا. وضعهما فوق المقعد بجانبه، وعاود النظر إلى الفتاة... ثم شرع في تجميع وترتيب زهرات الفل والياسمين و يلفها بالخيط الأبيض الرفيع، بحركات بهلواني. سريعة ودقيقة.عندما كان مشغولا بما بين أصابعه لم يتفطن إلى مراقب التذاكر وهو يدخل من الباب الخلفي للعربة ويتجه نحوه مباشرة بعد أن وزع ابتسامته للفتاة وتحيته للشاب والمرأة.ـ التذكرةـ تفضلسحبها من جيب سترته وهو يغلق حقيبته كيفما اتفق ويجمع حبات الياسمين والفل المتناثرة فوق ركبتيه.ـ ماذا تفعل هنا ؟ إنها تذكرة درجة ثانية.ـ لم انتبه, فاجأني القطار فصعدت من أول باب مفتوح.توقف القطار في المحطة الثالثة. نزل مراقب التذاكر حاملا الحقيبة المملوءة بأزهار الياسمين والفل وهو يتبعه من الخلف ويتوسله أن يخلي سبيله.بعد أن خرج من مخفر الشرطة أين حجزت حقيبته بما حوت، قطع السكة في اتجاهها العكسي. اقتطع تذكرة للعودة من حيث جاء وغاب طيفه في الضجيج المتعالي أمام العربة درجة ثانية.

carte de fidélité



تكتظ جيوب أغلب المواطنين اليوم بتلك البطاقات الأنيقة ذات الألوان الزاهية التي تمنحها الفضاءات التجارية الكبرى والمتوسطة والصغرى ومحلات الماركات العالمية لحرفائها الدائمين، والتي تٌعرف ببطاقة وفاء (carte de fidélité)، وهي وان كانت تعبر في ظاهرها عن العلاقة المحترمة بين أصحاب تلك المحلات والمغازات من جهة وزبائنهم أو حرفائهم من الجهة المقابلة، فإنها أيضا تعبر عن تطور علاقة الناهب بالمنهوب، فما تلك البطاقات إلا شكلا من أشكال تأبيد العبودية والتبعية والاستنزاف المقنن والمغلف باسم الوفاء، باعتباره هبة عليا لا تٌمنح إلا للحريف الأكثر مواظبة على عبوديته ولا يخفى على احد أن الأكثر عبودية هم دائما الأشد فقرا لان من يحصل على بطاقة وفاء هو بالضرورة قد ضمن بطاقة إفلاس يومية وشهرية وموسمية وسنوية... وأبدية...والوفاء، تلك القيمة المنعدمة، لم تعد تٌتبادل بين كائنات بشرية تتعلق ببعضها البعض بذاك الخيط الشفيف الذي يسمى الحب والذي يتساوى فيه الأخذ بالعطاء، حيث لا ناهب ولا منهوب... لم يعد الوفاء قيمة متبادلة بقدر ما صارت ممارسة جافة وباردة تٌمارس أو تٌمنح بمجرد توفر جملة من الشروط والالتزامات، والتي عادة ما تكون من طرف واحد هو المواطن /الحريف /المنهوب /الوفي...إذ أن ذهنية الاستهلاك الميكانيكية التي دربوه عليها ولقنوه إياها، جعلته يفقد بصره وبصيرته أمام ارتفاع الأسعار مثلا أو فساد البضائع المستهلكة، أو افتقادها لمواصفات الجودة...بطاقات الوفاء هذه صار يتباهى ويتفاخر بامتلاكها المواطن التونسي، وبتتويج مسيرة استنزاف أمواله ببطاقة الحريف الوفي، حيث يمتلك كل مواطن هذه البطاقة بعد أن يثبت وفاءه الدائم خاصة لعلب الطماطم ولأكياس العجين ولقوارير الزيت والمشروبات الغازية والكحولية... ولحفاظات الاطفال...إن امتلاك مثل تلك البطاقات والوفاء لما ذكرت دون سوها من المتاع الزائل قد يغرقنا من حيث نعلم ولا نعلم في حالة جفاء انسانية وعطالة عاطفية... اذ أننا كلما انحدرنا نحو العبودية كلما نأينا عن الانسانية، فالانغماس في «الوفاء التجاري» والإذعان البضاعي التسلعي سيكلّس لا محالة مشاعر الوفاء نحو بني جنسنا ويجعل علاقاتنا فاترة باهتة لا تحكمها الا المصالح الآنية...قد يكون المثال مجردا وبعيدا في التأويل... ولكن الاكيد انه يلقي بظلاله بشكل أو بآخر على طبيعة علاقاتنا البشرية ويحدد من قريب او من بعيد أفق تعالقنا الانساني وطبيعة مبادلاتنا الرمزية والقيمية...إن الوفاء للمبادئ والقيم لا يتطلب بطاقات أنيقة وزاهية نحشوها داخل محافظنا الجلدية لنسحبها كلما دعت الحاجة الى ذلك، فمبادئ وقيم مثل الحرية والاستقلالية والديمقراطية وحقوق المواطنة لا تقيد المؤمن بها ببطاقات وإلزامات... وان كانت كذلك لدى الدول الضعيفة والتابعة التي لا تنفك تتباهى ببطاقة وفائها للدول التي تقودها وتسيّرها وتملي عليها شروطها وبرامجها... كاشفة بذلك عن عجزها الذاتي في الذود عن حريتها واستقلاليتها وعدم فهمها لمعنى الديمقراطية الحقيقية وعن مزايداتها بمثل هذه المبادئ الانسانية أمام شعوبها...إن الحرية والكرامة الانسانية والوفاء لهما، في عُرْف الانسان الحر، لا يستوجبان بطاقات وفاء لا للدول ولا لشركاتها التجارية التي نتجول في أروقتها ومحلاتها صباحا مساءً وكل بداية شهر...

2008/09/18

حكمة السمكة


لم يدر من أين انهالت عليه كل تلك المعلومات حول أنواع الأسماك وفوائدها, وفي أي البحار توجد أنواع بعينها بكثافة دون غيرها, وما هي مواسم تكاثرها وتزاوجها, وأشهر طرق طهيها وشيها...
كان يسرد على مسامعهم المعلومات بثقة كبيرة أمام انشغالهم الشديد بما أمامهم وهمهمتهم المتقطعة التي تلفظها أفواههم كلما كفت عن حركتها المركزة.
حتى طريقة ممارسة الحب بين جنسي السمك شرح تفاصيلها و"حميميتها" تحت الماء.
بيٌن لهم كيف أن الفم الذي نحركه نحن في أغلب الأوقات لنبصق به أو نسب ونشتم أو نثرثر فيما لا يعني، هو ذاته الذي ينجب لنا كائنا جميلا وذا فائدة نسميه سمكا.
وحدها أوقفت فمها عن الحركة و أصاغت السمع لمعلومته الأخيرة بانتباه جلي. رفعت حاجبيها مندهشة وقالت له :
– ونحن أيضا نفتتح الحب بالقبل وبها ننجب.
ثم استأنفت تحريك فمها بنفس النسق المتسارع، بعد أن أرخت جفنيها على الطبق الماثل أمامها
أعجبته ملاحظتها وكأنها شجعته أكثر على الاستمرار في الثرثرة والانشغال عما أمامه.
رفع كأس البيرة إلى شفتيه وقبل أن يسكبه في جوفه قال لها :
- صحيح أننا نفتتح الحب بالقبل ولكننا الآن صرنا نمارس الجنس أساسا ولا نأبه لفعل الحب.
ألقى بمحتوى الكأس في جوفه وواصل حديثه الذي صار ثنائيا بينه وبينها تحديدا.
قال :
– الواحد منا صار مهووسا باللهاث وبأفضل الأوضاع المريحة في إتمام عملية الجنس وينسى حتى أن يهمس في أذن من معه بكلمة حب واحدة أو حتى إطالة قبلة حالمة.
رفع بصره إليها، بعد أن أشعل سيجارة ونفث دخانها بعيدا عن الطاولة، فوجدها منهمكة بما أمامها, ولما أجاله بينهم واحدا واحدا ألفاهم هم أيضا منشغلين عن ثرثرته بأطباقهم التي بدأت تنفذ, فانتهى إلى السمكة الممددة وسط طبقه هو. نظر إليها مليا وإلى قطعة الليمون بجانبها.
نظر إليه مليا، ثم شرع يلتهمها بعينيه فقط تماما مثلها يلتهم كتب علوم الأحياء وروايات الحب, وظلت الشوكة والسكين نائمتين حذو الطبق لم يلمسهما حتى بطرف أصابعه خجلا من مضيفيه لئلا يفطنوا إلى أنه لا يجيد أكل السمك بالشوكة والسكين مثل أغلب الناس البسطاء.