خطوة القط الأسود ٭
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد نهض وتقدم بخطوات واثقة من المدرج المفضي إلى الأسفل. اعترضه النادل وهو يحمل بين يديه دلوا نحاسيا مملوءا بمكعبات الثلج، فلم يترك له فرصة ليثنيه عن إسقاط وجهه وسط الدلو وترك وجنتيه وأرنبة أنفه تتمسح بلذة فوق المكعبات الباردة ذات الأطراف الحادة مثل قطع البلور. عندما رفع رأسه امتلأ فمه بمكعبين من الثلج كانا قد عقدا لسانه برودة ولذة عن أي كلام. همهم بكلمات غير مفهومة، دفعها دفعا عسيرا من فرط طراوة الثلج وليونته، ثم ترك قدميه تنزلقان بحنو فوق الدرجات الرخامية المفضية إلى الأسفل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد مزق بعضا من أوراق الكتاب الضخم الذي لم يفارق نظره منذ أن جلس إلى طاولته المحاذية للمدرج المفضي إلى الأسفل ذي الخمس درجات. كان الكتاب رواية للكولومبي غابريال غارثيا ماركيز، وكان يحمل عنوان «أن تعيش لتحكي». لم يكن رواية خيالية، بل هو السيرة الذاتية لماركيز. مزق بعضا من أوراقه وشرع يلف في كل ورقة نوعا من السَُلَطَات التي طرحها النادل أمامه مع أول زجاجة نبيذ طلبها قبل ثلاث ساعة تقريبا. لف بقايا السلطات ودسها داخل جيب سترته السوداء بعد أن ألقى الكتاب الممزق وسط سلة الفضلات التي يمر بها النادل بين الفينة والأخرى. ضحك بأدب واضح عندما لاحظ دهشة النادل الممسك بسلة الفضلات من حركته الغريبة. قال له بنبرة هادئة ورصينة، أن متعته الحقيقية هي عندما يلقي بالكتاب الذي يقرؤه في سلة فضلات أو وسط بالوعة مياه قذرة، أو في مصب نفايات عمومي، وأنه يفعل ذلك حتى لو تطلب منه الأمر أن يمشي عدة كيلومترات بحثا عن مصب نفايات مفتوح. انصرف النادل بضحكته وسلته، وظل هو بنصف ابتسامة اجتهد أن تأخذ صبغة أرستقراطية. ضحك وهو يتذكر تلك العقوبة التي حرمته من استعارة الكتب من مكتبة الكلية طيلة مدة دراسته، والتي مُني بها لما اكتشف عميد الكلية مجلد «الرسائل الأدبية» للجاحظ يسد تلك البالوعة القذرة المسدودة أصلا خلف قسم العربية. أقيم حينذاك مجلس تأديب لا يزال يتحدث عنه الطلبة إلى الآن، وأستدعي هو ليدلي بأقواله بشأن التهمة الموجهة إليه والمتمثلة في إلقاء مجلد الجاحظ وسط بالوعة القاذورات. أجاب وقتها أمام المجلس الجامعي بأنه ألقى المجلد وسط البالوعة لارتباكه من حشود الطلبة القادمة نحوه في مسيرة ضخمة، ولأنه خاف أن يعنفوه لأنه لم يشاركهم هتافاتهم.
عندما انصرف النادل حاملا السلة، وقد تغطى غلاف الكتاب الأنيق ببقايا القواقع والصٌدف الفارغة، وبالهياكل الشوكية للأسماك التي استقرت في بطون الزبائن، ومأخوذا بدهشته، كان هو واقفا أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وجيب سترته ينز بقطرات الزيت مثل مزاريب السطوح التي تغمرها مياه الأمطار المفاجئة. ظلت قطرات الزيت تلتمع فوق الدرجات الرخامية التي خلفها وراءه.
عندما كانت معزوفة «خطوة القط الأسود» تبعث في الأرجاء مسحة من الشرود على كل الوجوه المتناثرة وسط المكان، كان هو ملكا في مملكته ذات الغطاء الأحمر. كان ملكا وهو يرفع كؤوس النبيذ بطريقة رفيعة ورشيقة تنم عن أصله الأرستقراطي. كانت الطاولة ذات الغطاء الأحمر بما حملت من أطباق وملاعق فضية وبمطفأتها المصنوعة من العاج الإفريقي الأصيل وبمزهريتها المصنوعة من الكريستال الخالص التي ترتشق وسط عنقها وردة حمراء هي مملكته، وكان هو ملكا أمامها يشرب نخب مُلكه ويطالع سيرة غابريال غارثيا ماركيز. كان منفردا بملكه، لا أحد يقاسمه فيه. طاولة واحدة وكرسي واحد. لا منافس ولا معارض ولا حاسد. وحده ذاك الجندي الثابت فوق حصانه يقابله ولا يتكلم. انه تمثال من البرنز الخالص، منحوت بصورة جد متقنة، حتى أنه خمن أن يكون الجندي يرتدي جوربين من القطن المبطن تحت حذائه المتدلي على جانبي بطن الحصان. لم يشغله كثيرا تمثال الجندي المنتصب أمامه ، لأنه كان يترصد أيا كان صاعدا من المدرج المفضي إلى الأسفل ليرفع الكأس بذات الحركة الرشيقة والرفيعة ويسكب ما فيه داخل جوفه، وعندما يكون المدرج خاليا من وقع الخطوات الصاعدة، كان يلتهم السَُلَطَات بنهم ويتوقف عن شرب النبيذ، فقط كان عندما يلمح ظل شخص ما قادما من الأسفل يستعد للحظة الحاسمة. لشرب النبيذ بذات الطريقة الأرستقراطية، رغم أنه كان مقتنعا تمام الاقتناع أن الشرب هو الشرب أيَُا كان شاربه، لولا هذه البشرية الحمقاء التي جعلت من هذه المتعة الحياتية مقسمة تقسيما طبقيا، واخترعت لها طقوسا مخصوصة وآداب بعينها تميز الشاربين عن بعضهم البعض... (الجاحظ واحد ممن كتبوا حول هذه الآداب والطقوس المخصوصة في رسائله الأدبية)...
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد وضع آخر متعلقاته داخل جيب سترته بعد أن ترك قليلا من النبيذ في القارورة الرابعة التي طلبها قبل ساعة تقريبا حسب ما تقتضيه آداب الشرب في الأوساط الأرستقراطية. عَدَُلَ نظارته. وضع هاتفه وعلبة سجائره والولاعة. لم يستطع أن يترك المطفأة العاجية التي أعجبته منذ جلس إلى طاولته. دسها مع علبة السجائر في جيب سترته الداخلي، ورغم أنه ظفر بالمطفأة العاجية إلا أن حسرته على المزهرية الكريستالية ظلت تنخر أصابعه لئلا تتراجع عن قطفها بوردتها الحمراء. لم يترك أي شيء فوق الطاولة ذات الغطاء الأحمر. حمل كل شيء ووقف أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وهو ينظر إلى ساعته اليدوية بعين ويتابع بالعين الثانية حركة النادل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، بعد أن كرَُرت لازمتها الوترية للمرة الخامسة، كان قد استنفذ كل الحيل الممكنة للهرب من الحانة الأرستقراطية دون أن يدفع حساب ما ألقاه داخل جوفه، وباءت بالفشل كل مخططاته في النفاذ ببطنه الممتلئة من قبضة نادل تلك الحانة الأرستقراطية، ولم يتوقع أبدا أن يطلب منه زجاجة نبيذ خامسة في تلك الساعة المتأخرة، ومعها كأس جديد مثلما تقتضي ذلك الطقوس الأرستقراطية.
(*) معزوفة موسيقية للتونسي أنور ابراهم
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد نهض وتقدم بخطوات واثقة من المدرج المفضي إلى الأسفل. اعترضه النادل وهو يحمل بين يديه دلوا نحاسيا مملوءا بمكعبات الثلج، فلم يترك له فرصة ليثنيه عن إسقاط وجهه وسط الدلو وترك وجنتيه وأرنبة أنفه تتمسح بلذة فوق المكعبات الباردة ذات الأطراف الحادة مثل قطع البلور. عندما رفع رأسه امتلأ فمه بمكعبين من الثلج كانا قد عقدا لسانه برودة ولذة عن أي كلام. همهم بكلمات غير مفهومة، دفعها دفعا عسيرا من فرط طراوة الثلج وليونته، ثم ترك قدميه تنزلقان بحنو فوق الدرجات الرخامية المفضية إلى الأسفل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد مزق بعضا من أوراق الكتاب الضخم الذي لم يفارق نظره منذ أن جلس إلى طاولته المحاذية للمدرج المفضي إلى الأسفل ذي الخمس درجات. كان الكتاب رواية للكولومبي غابريال غارثيا ماركيز، وكان يحمل عنوان «أن تعيش لتحكي». لم يكن رواية خيالية، بل هو السيرة الذاتية لماركيز. مزق بعضا من أوراقه وشرع يلف في كل ورقة نوعا من السَُلَطَات التي طرحها النادل أمامه مع أول زجاجة نبيذ طلبها قبل ثلاث ساعة تقريبا. لف بقايا السلطات ودسها داخل جيب سترته السوداء بعد أن ألقى الكتاب الممزق وسط سلة الفضلات التي يمر بها النادل بين الفينة والأخرى. ضحك بأدب واضح عندما لاحظ دهشة النادل الممسك بسلة الفضلات من حركته الغريبة. قال له بنبرة هادئة ورصينة، أن متعته الحقيقية هي عندما يلقي بالكتاب الذي يقرؤه في سلة فضلات أو وسط بالوعة مياه قذرة، أو في مصب نفايات عمومي، وأنه يفعل ذلك حتى لو تطلب منه الأمر أن يمشي عدة كيلومترات بحثا عن مصب نفايات مفتوح. انصرف النادل بضحكته وسلته، وظل هو بنصف ابتسامة اجتهد أن تأخذ صبغة أرستقراطية. ضحك وهو يتذكر تلك العقوبة التي حرمته من استعارة الكتب من مكتبة الكلية طيلة مدة دراسته، والتي مُني بها لما اكتشف عميد الكلية مجلد «الرسائل الأدبية» للجاحظ يسد تلك البالوعة القذرة المسدودة أصلا خلف قسم العربية. أقيم حينذاك مجلس تأديب لا يزال يتحدث عنه الطلبة إلى الآن، وأستدعي هو ليدلي بأقواله بشأن التهمة الموجهة إليه والمتمثلة في إلقاء مجلد الجاحظ وسط بالوعة القاذورات. أجاب وقتها أمام المجلس الجامعي بأنه ألقى المجلد وسط البالوعة لارتباكه من حشود الطلبة القادمة نحوه في مسيرة ضخمة، ولأنه خاف أن يعنفوه لأنه لم يشاركهم هتافاتهم.
عندما انصرف النادل حاملا السلة، وقد تغطى غلاف الكتاب الأنيق ببقايا القواقع والصٌدف الفارغة، وبالهياكل الشوكية للأسماك التي استقرت في بطون الزبائن، ومأخوذا بدهشته، كان هو واقفا أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وجيب سترته ينز بقطرات الزيت مثل مزاريب السطوح التي تغمرها مياه الأمطار المفاجئة. ظلت قطرات الزيت تلتمع فوق الدرجات الرخامية التي خلفها وراءه.
عندما كانت معزوفة «خطوة القط الأسود» تبعث في الأرجاء مسحة من الشرود على كل الوجوه المتناثرة وسط المكان، كان هو ملكا في مملكته ذات الغطاء الأحمر. كان ملكا وهو يرفع كؤوس النبيذ بطريقة رفيعة ورشيقة تنم عن أصله الأرستقراطي. كانت الطاولة ذات الغطاء الأحمر بما حملت من أطباق وملاعق فضية وبمطفأتها المصنوعة من العاج الإفريقي الأصيل وبمزهريتها المصنوعة من الكريستال الخالص التي ترتشق وسط عنقها وردة حمراء هي مملكته، وكان هو ملكا أمامها يشرب نخب مُلكه ويطالع سيرة غابريال غارثيا ماركيز. كان منفردا بملكه، لا أحد يقاسمه فيه. طاولة واحدة وكرسي واحد. لا منافس ولا معارض ولا حاسد. وحده ذاك الجندي الثابت فوق حصانه يقابله ولا يتكلم. انه تمثال من البرنز الخالص، منحوت بصورة جد متقنة، حتى أنه خمن أن يكون الجندي يرتدي جوربين من القطن المبطن تحت حذائه المتدلي على جانبي بطن الحصان. لم يشغله كثيرا تمثال الجندي المنتصب أمامه ، لأنه كان يترصد أيا كان صاعدا من المدرج المفضي إلى الأسفل ليرفع الكأس بذات الحركة الرشيقة والرفيعة ويسكب ما فيه داخل جوفه، وعندما يكون المدرج خاليا من وقع الخطوات الصاعدة، كان يلتهم السَُلَطَات بنهم ويتوقف عن شرب النبيذ، فقط كان عندما يلمح ظل شخص ما قادما من الأسفل يستعد للحظة الحاسمة. لشرب النبيذ بذات الطريقة الأرستقراطية، رغم أنه كان مقتنعا تمام الاقتناع أن الشرب هو الشرب أيَُا كان شاربه، لولا هذه البشرية الحمقاء التي جعلت من هذه المتعة الحياتية مقسمة تقسيما طبقيا، واخترعت لها طقوسا مخصوصة وآداب بعينها تميز الشاربين عن بعضهم البعض... (الجاحظ واحد ممن كتبوا حول هذه الآداب والطقوس المخصوصة في رسائله الأدبية)...
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، كان قد وضع آخر متعلقاته داخل جيب سترته بعد أن ترك قليلا من النبيذ في القارورة الرابعة التي طلبها قبل ساعة تقريبا حسب ما تقتضيه آداب الشرب في الأوساط الأرستقراطية. عَدَُلَ نظارته. وضع هاتفه وعلبة سجائره والولاعة. لم يستطع أن يترك المطفأة العاجية التي أعجبته منذ جلس إلى طاولته. دسها مع علبة السجائر في جيب سترته الداخلي، ورغم أنه ظفر بالمطفأة العاجية إلا أن حسرته على المزهرية الكريستالية ظلت تنخر أصابعه لئلا تتراجع عن قطفها بوردتها الحمراء. لم يترك أي شيء فوق الطاولة ذات الغطاء الأحمر. حمل كل شيء ووقف أمام المدرج المفضي إلى الأسفل وهو ينظر إلى ساعته اليدوية بعين ويتابع بالعين الثانية حركة النادل.
عندما انتهت معزوفة «خطوة القط الأسود» عن السريان الهادئ في الأرجاء الدافئة، بعد أن كرَُرت لازمتها الوترية للمرة الخامسة، كان قد استنفذ كل الحيل الممكنة للهرب من الحانة الأرستقراطية دون أن يدفع حساب ما ألقاه داخل جوفه، وباءت بالفشل كل مخططاته في النفاذ ببطنه الممتلئة من قبضة نادل تلك الحانة الأرستقراطية، ولم يتوقع أبدا أن يطلب منه زجاجة نبيذ خامسة في تلك الساعة المتأخرة، ومعها كأس جديد مثلما تقتضي ذلك الطقوس الأرستقراطية.
(*) معزوفة موسيقية للتونسي أنور ابراهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق