2008/05/17
بورتريهات حية من مجتمع ميت
غالبا ما تأخذنا حالة من الاندهاش والتعجب المتلبسة بالإحساس بالحسد المقيت والغيرة من ذاك الرسام الذي يتقن، حد التماهي، ويجيد جيدا رسم ملامح صورة شخص ما، عادة ما يكون مشهورا، وغالبا أيضا ما تجمعه به علاقة حميمة، قرابة أو صداقة أو إعجاب...
وغالبا ما تعرض تلك الصور التي تسمى أيضا بورتريهات، في المزادات العلنية وتباع بأثمان خيالية... وهذا أمر طبيعي، أولا لشهرة المرسوم وثانيا لإتقان الرسام وايجادته في إخراج البورتريه...
أما مجموع البورتريهات التي سأعرضها تباعا، فهي ليست لمشاهير ولا لنجوم أو لعظماء البشرية الذين عاشوا وأفادوا وماتوا وما ماتوا، إنما هي لأشخاص أحياء يعيشون ويتنفسون بيننا، نراهم كل يوم تقريبا، وتصلنا أخبارهم إن غابوا عن أنظارنا.
كما أن هذه البورتريهات التي ستكتشفون ملامحها لم تكلفني البتة لا قلم رصاص ولا ممحاة، ولا مرسم تنهمر على أركانه الموسيقى الهادئة وشلالات الضوء الخافت... فقط طوعت لملامحها وأنفاسها بعضا من الحبر اللغوي ومن التصنيف الوظيفي لوجودها بيننا...
بورتريه 1
يركٌن سيارته «الفورد» وسط المأوى المحاذي لمحلات «ماكدونالد»، ويتجه مباشرة إلى ركنه المعتاد ليحتسى قهوته الصباحية المفضلة من نوع «ناسكافيه»، ويدخن معها سيجارتان لا أكثر من نوع «مالبورو»، ثم يمضي بعدها إلى ساحة الاجتماعات الكبرى ليلقي خطابا رنانا أمام الآلاف من الكادحين والعمال المتعاقدين وغير المضمونين اجتماعيا.... ويتناثر بصاقه على المصدح وهو يلح على ضرورة مقاطعة البضائع الإمبريالية باعتبارها تمثل سلاح أمريكا والدوائر الصهيونية والشركات العابرة للإنسانية الخطيرة التي تدمر الاقتصاد الوطني النامي!!!
بورتريه 2
لم يمض أكثر من ربع ساعة تقريبا وهو متسمر خلف ظهر سكرتيرته التي تشتغل لديه منذ أربع سنوات بعقد شغل. أملى عليها خاتمة الكلمة التي سيلقيه في المؤتمر العربي لتجمع الأحزاب المعارضة، وكاد يكسر لها عنقها عندما أخطأت رسم كلمتي الديمقراطية والتعددية الحزبية. عندما أنهى حصة الإملاء غادر مقر الحزب مباشرة نحو بيته حيث ألحت عليه زوجته وابنه وابنته بالحضور فورا. لما فتح له الخادم الباب، دلف إلى الصالة الفسيحة، أطفأت أنوار القصر ولاحت له من بعيد ثلاثون شمعة بالتمام والكمال. كانت عائلته تحتفل بذكرى توليه رئاسة الحزب منذ سنة 1976. أطفأ الشموع الثلاثين وقبلته زوجته وابنه وابنته وتمنوا له أن يظل رئيسا لحزبه الديمقراطي ثلاثون سنة أخرى!!!
بورتريه 3
لم يتلعثم أمام الكاميرا وهو يتحدث في البرنامج التلفزيوني، الذي يبث مباشرة، عندما انطلق في حديث مشحون عن فناني «الغلبة» الذين يتقافزون في الفضائيات والذين يغنون أي كلام بأي لحن وفي أي مكان، ويظهرون لنا وله أيضا مثل الكوابيس المزعجة وهم عراة حفاة ينطون كالقردة السائبة...كان حديثه متوازنا ومشحونا إلى أن انتهت الحصة المخصصة له.
أسبوع واحد، يظهر نفس الفنان على فضائية أخرى حافي القدمين، نصف حليق وهو يقدم للسادة النظارة «روميكس» نصفه ثغاء ونصفه الباقي قرع أرعن، ويصرح بعد نصف دقيقة – الزمن الكامل للأغنية الروميكس – بأن النسق أقوى من المبادئ، وأنه يلبي رغبة جمهوره «السميع»!!!
بورتريه 4
يشاهد بأم عينيه أن عدد المتسولين في الشارع يضاعف عدد حجارة الأرصفة، ويتابع بانتباه شديد آلاف المومسات يلقين حبالهن أمام أعين الأمن، ويمر بمظاهرات الطلبة المعطلين عن العمل منذ سنوات، ويقتني من السوق المركزية سمكة واحدة بنصف راتبه تقريبا. ينفض قميصه قبل أن ينام علً شرطيا يسقط من جيبه لكثرة ما شاهدهم في كل الزوايا يثقبون الظهور والبطون بأعينهم...
يعيش كل هذه الوضعيات يوميا ثم يرفع الكاميرا فوق ظهره ويخرج لنا فيلما عن الحب والأمان والراحة والعيش الرغيد!!!
بورتريه 5
يضع نظارته السوداء فوق عينيه عندما يشاهد منحرفا يفتح وجه فتاة بمدية حاد، ويرفع عصاه الغليظة في وجه ذاك الصبي الذي يبيع السجائر والعلكة بمحطات الحافلات. يرفع التحية للسيارة السوداء الفخمة المارة بالشارع ثم يوقف سيارة شعبية ليضع في جيبه ما غنمه بفضل امتياز زيه... يمطر جماهير الطلبة الهادرة أملا وألما بالقنابل المسيلة للدموع ثم يحمي الصعاليك والمنحرفين المتجهين نحو ملاعب كرة القدم... يرفع كل الحواجز الممكنة ليمنع المارة من الانعطاف نحو مقرات المنظمات الحقوقية ثم يفتح أبواب الحافلات والسيارات الخاصة والقطارات ليقل الناس إلى حيث يأتي الزعيم... يمارس كل تلك الأفعال وهو يلمع الشعار الوطني الذي يتدلى فوق صدره!!!
بورتريه 6
يأتي إلى الجامعة محملا بالأفكار والكتب والشعارات ويموت لأجلها طوال سنوات دراسته داخل أسوار الجامعة، يضرب عن الطعام ويسير في المصفوف الأمامية للمظاهرات ويلقي خطبا عصماء أمام الرفاق... يلعن النظام الذي حرمه من حقه في مجانية التعليم وجعل الكتب باهضة الثمن (مثل السمك) والسكن الجامعي غير متوفر ومنحة الدراسة لا تمنح... يفعل كل ذلك وتختلط دماؤه بجدران الجامعة استبسالا ومقاومة لأي بذرة خيانة لمبادئه...
عندما يتخرج ويحصل على إجازته، يترك كل الأفكار والكتب والمبادئ والشعارات والشهائد العلمية خلف أسوار الجامعة ويدخل إلى وظيفته ببطاقة حزبية وربطة عنق قزحية!!!
آخر بورتريه
ظل وحيدا داخل مرسمه يرفع الألوان في وجه البياض الصامت، راسما الأوجاع ومصورا الملامح مثلما هي. لم يتقن أبدا فن الخداع والتزييف. ظل وفيا لرأسه وريشته، رغم انه لم يشارك في أي معرض فني، فكل من شاهد رسومه ابتأس لفجاجتها وفضاعتها. في الحقيقة لم تكن رسومه فجة وفظيعة إلى درجة حرمانه من عرضها للعموم، وإنما كانت فقط رسوما حية... أو بالأحرى بورتريهات حية لملامح ميتة...
المرة الوحيدة التي دعي فيها للمشاركة بستة بورتريهات في معرض عالمي، لم يدر من أين انهالت على مرسمه تلك الجرافات العظيمة التي صيرته في لحظات معدودة ركاما هائلا من الحجارة والألوان، ولم يشعر بأي الم وهو يرى ذراعيه الاثنين ينعجنان مع الحجارة والألوان في محاولة يائسة ليظفر ولو ببورتريه واحد... وإلى الآن مازال ذاك الرسام معطوب الذراعين ويأس من التدرب على الرسم من جديد بأصابع ساقيه...
عندما زاره الزعيم وشمله برعايته وعطفه، منحه ذراعين من خشب، فرسم ستة بورتريهات مميزة لمناضل ثوري ورئيس حزب ديمقراطي ومطرب ومخرج سينمائي ورجل أمن وطالب جامعي، وقد نال على أعماله تلك وساما تقديريا وصار يعرض بورتريهاته في كل مكان!!!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
excellent ! rien à dire en plus ...
ردحذفje viens de découvrir votre blog. ravie de l'avoir croisé. je vous souhaite une bonne continuation.