إن اللغة، كما نعلم جميعا، هي المادة التعبيرية التي تنهض عليها الرسالة الإبداعية والإيديولوجية التي يروم أي كاتب إرسالها إلى المتلقي، حيث يصوغ الكاتب مادته اللغوية من خلال عدة تمظهرات سردية ووصفية ومشهدية وبلاغية وحرفية... ويشتغل على ناصيتها وقواميسها الحرفية والمجازية لاستثمارها ضمن السياقات التواصلية والتداولية المراد تبليغها، وقد عرفت اللغة تطورا جوهريا خاصة مع الشكلانيين الروس وتحديدا مع ميخائيل باختين الذي تجاوزت معه اللغة الكلمات القاموسية والألفاظ المفردة إلى تعدد الأصوات والمنظورات السردية والأجناس وتداخل الخطابات والأساليب اللغوية، وهي التي تتوفر في الرواية "البوليفونية" إلى جانب الحوار الداخلي والوصف والحوار الخالص والرسالة والسرد بمختلف تمظهراته واستعمال اللهجات المحلية وسجلات مختلف الشرائح والفئات المجتمعية، وما يعنينا ههنا ضمن نص أحمد الخميسي البعيد كل البعد عن جنس الرواية – وعن أي جنس أدبي آخر - من حيث الشكل ومن حيث المضمون، ما يعنينا، هو استعمال اللهجة المحلية المصرية في جميع المقامات التخاطبية التي قدمها الكاتب على ألسنة سائقي سيارات الأجرة (التاكسي) وخاصة ضمن الحوارات التي تدور بين السارد/الكاتب/ الراكب وبين سائقي التاكسي/الشخصيات، ومعلوم أن الحوار الجيد هو ما حسن تركيبه وسهل قوله واتضح معناه وانداحت فيه الكلمة ذات الجرس والرنين لحساب الكلمة المحددة والقوية.
وقد تعددت مستويات استعمال اللهجة المصرية حيث نجد المفردات من قبيل:(حواديت/حهرب/وسطينا/برضه/جوز/العربية/بالتلاتة/وش/كمان/بقة/غلاسات/طرمخوها/لبش/دول/يجيصوا/أونطة/البوجودي/كدابة...).
والجمل التامة من قبيل:
* وح القى العيال مش واكلة وامهم حايسة ولايصة (ص27)
* وبيسألو الاقتصاد بايض من ايه؟؟ (ص29)
* واحد ماشي معاه موبايل وفي بقة سيجارة (29)
* الكلام اللى ولابيودي ولا بيجيب (32)
* لخبطة جامدة بتخللي الواحد يتمخول (ص93)...
كما أدرج الكاتب جملة من المصطلحات الدخيلة على المحكي المصري والعربي عموما من اللسانين الانجليزي والفرنسي – وهما من مخلفات الاستعمار الغربي – من قبيل:(بيزنس/البروجرام/الشوز/الدش/النيون/بربريز/تيرموماتر/الفيتيس/موبايل/
البوكس/فيفتي فيفتي/يتكود/الكلوب/جاتوه...).
هذا التعويل على اللهجات المحلية وعلى الكلمات الدخيلة من شأنه أن يهمل القيمة النصية التي تتأتى - كما أسلفنا الذكر - من المحمل اللغوي بدرجة أولى، إلى جانب مختلف المكونات التقنية والجمالية الأخرى لأي نص سردي واضح المعالم مثل الرواية والقصة القصيرة والأقصوصة والنص المفتوح، فما بالك إذا كان النص الذي يطرحه علينا الكاتب أحمد الخميسي لا يندرج في أي جنس من هذه الأجناس السردية.
ولنا أن نقف على الهنات التي قد تلحق المعنى المراد إبلاغه من خلال توظيف مثل تلك المفردات المحلية والدخيلة والجمل. فكلمة "عربية" التي يقصد بها المصريون السيارة قد يفهمها قارئ غير مطلع على المحكي المصري العامي بأنها تعني اللغة العربية، وكذلك كلمة "كمان" التي تعني في العامية المصرية "أيضا" قد تٌفهم في النص على أنها اسم الآلة الوترية المعلومة للجميع، أما كلمة "دول" التي ترادف ضمير "هؤلاء" قد يفهمها القارئ على أساس أنها جمع لكلمة دولة، وكذلك كلمة "كدابة" التي تعني في النص "كاذبة" قد تٌفهم على أساس تركيب "مثل دابة"، وقس على ذلك عشرات المفردات العامية الموظفة في النص.
أما المفردات الدخيلة فهي أكثر تأثيرا خاصة على المستوى الإيقاعي لأي نص، وكان على الكاتب أن يكتب كلمة برنامج بدلا من "البروجرام"، و اللاقط الهوائي بدلا من "الدش" والمحرار بدلا من "التيرموماتر" والشاحنة بدلا من "البوكس" و الفرامل بدلا من "الفيتيس" والنادي عوضا عن "الكلوب"...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق