إشارة لابد منها:
هذا البطاقة كنت قد نشرتها في الدورة السابقة لمهرجان قرطاج الدولي السنة الماضية، وإعادة نشرها مرة ثانية هذه السنة ليس بسبب خمول أصابني أو كسل، وإنما بسبب تكرر نفس الممارسات التي أشرت لها في متن هذا المقال، وهي ممارسات لا أظن أنها ستنتفي ويقلع عنها من ياتونها، لأنها ببساطة ليست ممارسات طارئة وإنما هي ذهنية كاملة.
للكرسي حكمته الأزلية وسحره الأبدي، فأما حكمته فهي تقتضي أن من يصله أولا يستأثر به ولا تهم الوسيلة التي أوصلته، وأما سحره فيتمثل في أسر من يجلس عليه ويمنحه صفة الالتصاق النهائية فوق جلده الأثير وسيقانه البرنزية...
وقلة قليلة من الكراسي التي لا نلهث وراءها للفوز بامتيازاتها، لعل أقربها إلى أذهاننا ومخيلتنا الجمعية، كراسي الصف الأول بالمدارس والمعاهد والجامعات، فهذا الصنف من الكراسي لا يتطلب قوة مال ولا قوة عضلات ولا حتى قوة دهاء ومكر، بقدر ما تتطلب قوة علم وحب للمعرفة، وهي قوة نادرة وباتت غير متوفرة اليوم بشكل كبير...
وللجلوس على كرسي ما والاستئثار به طقوس معلومة وسياسة كاملة في فن الجلوس لا اعرف كيف سها الجاحظ عن ذكرها في رسائله...
المهم، ما يعنيني في هذه المساحة، من أصناف الكراسي وأنواعها ما وصفته بكرسي قرطاج، واعني تحديدا تلك الكراسي المصففة في نصف الدائرة المخصصة لما يناهز ثلاث مائة شخص يشاركون كل ليلة الآلاف المؤلفة من جماهير مهرجان قرطاج، أولئك الذين تكاد تلتصق مؤخراتهم كل ليلة، بالحجر الأملس للمسرح الأثري الروماني الذي تنتظم على ركحه منذ 45 سنة حفلات مهرجان قرطاج الدولي، ومنهم نحن الصحفيون المجبورون كل ليلة، في إطار عملنا، على مواكبة سهرات المهرجان وحفلاته...
أصحاب وصاحبات كراسي مهرجان قرطاج، لا تعنيني صفاتهم ولا مراتبهم الوظيفية أو الاجتماعية ولا ثرواتهم، بقدر ما تعنيني تلك الممارسات التي لا تليق بهيبة الكرسي الذي يجلسون عليه ولا بحكمته أو سحره...
أصحاب الكراسي يتعمدون دخول المسرح متأخرين، ففي كل حفل أحضره ألاحظ حلولهم بالمكان عند اعتلاء الفرقة الموسيقية خشبة المسرح أو تماما بعد موسيقى استقبال النجم وفي أحيان كثيرة بعد استقبال الجماهير الغفيرة لهذا الأخير وتقديمه لشيء من أعماله...
حينها يتناسلون بين الكراسي البيضاء، ينتشرون ببدلاتهم الأنيقة وفساتينهن الناعمة يوشحون المكان بعطورهم الثمينة غير عابئين لا بالمغنى ولا المُغنّي ولا حتى المغنّى لهم، مع أنهم في الغالب يملكون سيارات تودعهم بأمان في الوقت المناسب بالمسرح ولا يمنعهم عن احترام الفنان وفنه تأخر وسائل النقل العمومي ولا اكتظاظها ولا رائحة العرق المعتق داخلها.
ثم أراهم كل ليلة يرفعون الكراسي فوق رؤوس الجالسين وكما لو أنهم على رقعة شطرنج يوزعونها مستسمحين الموجودين أو غير مستسمحين... وفي أحيان كثيرة أراقب أياديهم ترتفع غضبا على أعوان التنظيم محتجين على التوزيع الغير العادل للكراسي متحججين بتذاكرهم حاجبين عنا رؤية المطرب، شاغلين إياه بحركاتهم المستعلية.
هم نفسهم الذين يأتون متأخرين كأنما يختبرون نجوميتهم الاجتماعية، يغادرون المسرح قبل انتهاء السهرة. يحبذّون الخروج في الظلام، فنراهم ينسحبون واحدا خلف الواحد أمام أنظارنا وأنظار المطربين والعازفين فلا يفلحون إلا في إحباط المبدع الساهر لأجلهم وإقلاق الجمهور العريض...
هذه بالفعل ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة من طرف علماء الاجتماع وعلماء النفس وأهل الاختصاص، وهي تتكرر أيضا بالمسارح البلدية مثلا وفي قاعات السينما بشكل متواتر ومستفز خاصة للمبدع الذي يشعر، لا محالة، بنوع من الإهانة أو الاحتقار من خلال تلك الممارسات التي يأتيها أصحاب الكراسي.
بالأخير لا يمكنني إلا أن أقول بان الغاية تبرر الوسيلة وبأن أصحاب الكراسي ليسوا هم دائما أصحاب الكراسي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق