منذ أعلنت أجهزة الأمن عن تمكنها من العثور على الطفل المختطف المدعو منتصر بن رجب وإلقاء القبض على المختطفين فجر يوم الثلاثاء 7 ديسمبر 2010 تحول هذا الخبر إلى أهم مادة إعلامية في كامل البلاد، إذ تصدّرت صور الطفل المختطف (صور قديمة) أولى صفحات الجرائد، وافتتحت به نشرة الثامنة ليلا أخبار البلاد والعالم بعد أن شهد بيت الطفل أضخم ندوة صحفية في تاريخ الإعلام التونسي (هكذا سمعت على أمواج احد الإذاعات الخاصة التي واكبت حفل استقبال الخبر، لا الطفل، وأحصت عدد الخرفان المذبوحة وعدد زغاريد النسوة...).
ومنذ يوم 7ديسمبر أصيبت وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والالكترونية بإسهال حبري وإسراف لغوي من خلال المقالات الإخبارية والتحليلية والبرامج التلفزيونية والإذاعية التي عالجت الخبر وأغدقت عليه من التعاليق والتأويلات والاستنتاجات ما لا حصر له... وكل ذلك من اجل إنارة الرأي العام الوطني والعالمي المتعطش لمعرفة أدق تفاصيل هذه الجريمة التي تحولت إلى أسطورة أكبر من موقع ويكيليكس... ومن حريق حيفا...ومن ثلوج أوروبا...
طبعا لكل مواطن الحق في معرفة أخبار البلاد والعالم، ومن واجب كل منبر إعلامي أن يقدم الخبر في آنه ويلم بكل جوانبه، ويتناوله من الزوايا الأكثر قربا من الحقيقة.
وفي علاقة برواية منتصر، الطفل المختطف، وبغض النظر عن تواتر الحكايات واختلاف الروايات وتعدد التأويلات بخصوص حيثيات هذه القضية، فان ما يهمني شخصيا هو "الاهتمام المنظم" الذي أبدته مختلف المنابر الإعلامية، على اختلاف توجهاتها، بهذا "الحدث" العادي، الأمر الذي ذكرني بفيلم "الهروب" للمخرج المصري عاطف الطيب والذي تقمّص فيه الممثل احمد زكي شخصية "المنتصر" (رب صدفة خير من ألف انتصار)... هذا الفيلم الذي كان بطله الحقيقي الإعلام حيث الأمور "دبّرت بليل" ليشغل منتصر الناس ويملأ الدنيا.. ويفسح المجال للسلطة لتدبر أمورها بالليلل. وليبرهن "المنتصران" بأن التعددية الإعلامية إنما هي تعددية كمية لا نوعية في عمومها...
تطابق في الأسماء جعلني أتساءل: ممّا يهرب الشّعب التونسي حتى يركّز كلّ هذا التركيز اللافت على قضية منتصر؟ أو ليست هذه القصة – مع احترامنا لمشاعر عائلته وحقوق منتصر بن رجب الطبيعية وحقوق الطفولة عموما...- إحدى آلاف القصص التي يشاهدها ملايين التونسيين في برامج استثارة العواطف واستفزاز سيول الدموع التي تكاد القنوات تبثها صباحا مساء ويوم الأحد ؟
نعم ذلك هو الخيط الرفيع الرابط بين "هيلولة" الاحتفاء بعودة منتصر والسياق العام لتلك البرامج الرثائية فجميعها هروب ممّا كان أعظم. جميعها مواراة للهموم الحقيقية للشعب التونسي، تجاوز مدروس لارتفاع ثمن المحروقات والقهوة وتجنّب ممنهج لطرح أزمة البطالة وتلاف – عبارة مشتقة من اللفظة العامية "تتليف"- لمشكل التأمين الصحي وإلهاء عن حرقتنا لاحتراق حيفا وعن تشرّد أبناء الأحياء القصديرية بسبب الفيضانات بالمغرب وغيرها من الأمور والأخبار التي كانت قبل انتشار شعار "قناة تلفزية لكل مواطن" تمثل جراحات جماعية ينشغل بها التونسيون ويجدون الوقت الكافي للتفكير الجماعي بشأنها ومحاولة إيجاد الحلول لها وإبداع سبل التحرك حولها.
إذا كان عاطف الطيب واحمد زكي قد أبدعا في فيلم "الهروب" وأبلغا رسالتهما، فان الإعلام التونسي قد أتقن جيدا إخراج فيلم "المنتصر" كعادتنا به واسهم من موقعه "الريادي" في تمرير رسالته التي من اجلها صنع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق