2010/01/21
أحتاج مكنسة
تروي الذاكرة الشعبية أنه إذا أصيب عزيز على شخص ما بمرض خطير يُطلب منه أن يأتي له بأنفس شيء يمكن أن يُشفيه من مرضه، وكان حليب الغولة أنفس شيء. ويُحيل تركيب حليب الغولة في المخيال الجمعي أيضا على توفر كل ما تشتهييه العين وما لا يطاله الخيال في مكان ما، فنقول مثلا في هذه الأرض يتوفر كل شيء حتى حليب الغولة، وربما هذه الإحالة الثانية تنطبق على الشارع التونسي. هذا الشارع الذي ينزع إلى بلوغ الكمال في توفير كل ما تشتهيه العين وما لا يطاله الخيال، فقد أصبح يشبه منمنمة متناهية الرسم والتلوين.
سيول صباحية ومسائية من البصاق والمخاط تتناثر من الأفواه يمنة ويسرة... أكوام من أعقاب السجائر وعلبها تتطاير أمام المقاهي والمحال العمومية... أكداس من تذاكر الحافلات والميترو تتلقفها الأرجل في المحطات... نتوءات وحفر في قلب الطريق تكاد لفرط تناسلها أن تبحث عن الإسفلت المخصص للعجلات... حاويات تفيض بالأوراق والعلب وبقايا الأكل، وما تخطئه حركة الأيادي المدربة على الوسخ... أكداس من التذاكر الالكترونية أمام المركبات التجارية والموزعات الالكترونية المثبتة بالبنوك... بركٌ راكدة من المياه الوسخة في كل ركن ومنعرج فرعي... جُمل اعتراضية مرسومة بأياد مرتعشة على الجدران تحذر من مغبة إلقاء الفواضل والتبول... وأخرى تعلن بيع الخمر خلسة... بقايا ملصقات اشهارية اهترأت وتآكلت لفرط نسيانها... علامات مرورية محجوبة وأخرى مفقودة من على أعمدتها...أكياس القمامة تنتصب أمام العمارات كأنها الجبال الشاهقات...
وأنا أحصي بعضا مما تلتقطه عيناي كل يوم أتذكر اليابان واليابانيين، ذاك الشعب المعروف باستهلاكه العالي للمنتجات المغلفة والمعلبة وقصيرة العمر، مما يجعل النظافة العامة والمحافظة على البيئة أمرا عسيرا وربما مستحيلا، غير أن المستحيل ليس يابانيا، فقد أوجدوا قانونا صارما للمحافظة على نظافة شوارعهم، فأبسط حركة وسخ تعرض المواطن لغرامات مالية باهضة وعقوبات جزائية قد تحرمه الإقامة في مسكنه، والحكم عليه بالسجن، وقد أحدث اليابانيون هيكلا نشطا يُسمى "الرقابة البلدية" وفي كل حي يوجد مركز صغير للشرطة يسمى ''كيساتسو'' يعمل على ضبط السلوكيات العامة.
تعبرني كذلك ذكريات تسكعي ذات يوم في شوارع واشنطن عندما راقبت مواطنا أمام إحدى المغازات يتحرك بثبات نحو عقب سجارة ألقاه أحد العابرين يوجه إليه مكنسته الصغيرة ويرفعه من الرصيف، سألت أحدهم إن كان ذلك الرجل عون بلدية فأجابني بكل بساطة أنه يتفق كل خمس أو ست أصحاب متاجر على انتداب شخص ويوكلون إليه أمر جمع أي مهملات قد تلقى أمام محلاتهم ثم يدفعون أجرته الشهرية سويا.
أتذكر تلك الشعوب هناك، وأرى شعبي هنا بين أروقة باب الخضراء أو في ساحة برشلونة أو مرورا بالمدينة العربي وصولا إلى الشارع الرئيسي اليتيم. أفكر في الارتماء على احد المقاعد المنثورة هنا وهناك لكتابة صفحة ضد السواد المعمم.
أجلس إلى طاولتي. أجدني أتنفس سحابات ثاني أوكسيد الكربون. ألاعب تحت قدمي مناديل ورقية أزوجها لأعقاب السجائر. تهوي عليّ النادلة بكل ثقة تسألني عمّا أشرب. أفكّر قليلا وأجيبها: مكنسة.
لا أحتاج أكثر من مكنسة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق